في بداية مقالي هذا، أتوجه بالتهنئة القلبية الحارة لشعبنا المسيحي على اختلاف طوائفه ومذاهبه بمناسبة عيد ميلاد السيد المسيح المتجسد، خالق وسيد المولودين من النساء، والحامل بكلمة قدرته لكل الأشياء، وأول وخاتم المرسلين من السماء. كما أهنئهم بحلول عام ميلادي جديد متمنيًا لهم، ولكل الساكنين على الأرض، كل خير وسلام. أما بعد،
فلا شك أنه من العجيب والغريب أن تصدر الآيات التالية، والمقصودة في ذاتها، من المبارك، العزيز، السلام، الحق، العادل، شخص المسيح يسوع، كما نطق بها هو، تبارك اسمه، أي السيد المسيح، له كل العظمة والسجود، والتي قال فيها: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا، فَإِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا.” هذه المقولة التي حيرت العلماء والفلاسفة والكُتاب، والذين حصل بعضهم على جائزة نوبل في العلوم والآداب
وكان منهم الكاتب الأديب الصحفي المصري العملاق توفيق الحكيم، والذي كتب يومًا في صحيفة الأهرام المصرية سائلًا المتنيح البطريرك شنودة الثالث عن مغزى وحقيقة ما قصده السيد المسيح من ذكره لهذه الآية الصادقة، لكنها في نفس الوقت أيضًا صادمة وعجيبة، والتي خرجت من فم نفس هذا المسيح، والذي قال عنه الوحي المقدس إنه “جاء ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد.” فكيف لمن قال فيه المولى تبارك اسمه أنه جاء ليجمع أن يقول هو عن نفسه إنه جاء ليفرق؟ وكيف يقول عن نفسه إنه ما جاء ليلقي سلامًا على الأرض بل سيفًا مَنْ حدث يوم مولده أن “ظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ (الذي بَشَّرَ الرعاة بميلاده تبارك اسمه) جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ المسرة”، والذي قيل في إرساليته إنه جاء له المجد “لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ”، وهو الكلمة (المتجسد) الذي أرسله الآب السماوي حسب “الْكَلِمَةُ (النبوية المكتوبة) الَّتِي أَرْسَلَهَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يُبَشِّرُ بِالسَّلاَمِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. هَذَا هُوَ ربُّ الْكُلِّ”؟ إنه المسيح صاحب الفم الطاهر القدوس الذي قال في موعظته على الجبل: “طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ”، والذي علَّم وأوصى تلاميذه الاطهار وأتباعه المؤمنين الاأبرار بالروح القدس فيما كتبه لهم بولس الرسول قائلاً: “اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ”، “وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهَذَا الْبَيْتِ.” وهو المكتوب عن مجيئه تبارك اسمه إلى أرضنا “فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ”، وهو لم يأتِ إلى أرضنا ليبشرنا بسلام فقط، بل بأنه “هُوَ سَلاَمُنَا”، ولذا فقد جاء “وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ، صَانِعاً سَلاَماً.” وأخيرًا وقبل صعوده إلى سماه، قال لتلاميذه: “سلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ. “
ولعل هذه المقولة، والتي صدرت منه سبحانه، تخبرنا وتأمرنا وتشرح لنا وتحذِّرنا من عدة أشياء لا بد من الانتباه إليها وفهمها كما قصدها تبارك اسمه، وكذلك أيضًا تفعل الآية ذلك عند تطبيقها، في سهولتها وعمقها وروحها لا حرفها، في حياتنا العملية التي نقضيها على الأرض إلى يوم لقاه السعيد والقريب.
ولتفصيل ما أوجزته عن الآية التي قال فيها السيد المسيح: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً ، فَإِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا”، أقول إنها:
1- تخبرنا.
2- تشرح لنا.
3- تأمرنا.
4- تحذِّرنا.
أولًا: تخبرنا
أ- تخبرنا أنه تبارك اسمه قد جاء، بناءً على قوله: “مَا جِئْتُ”. وكلمة “جِئْتُ” تدل على أنه كان موجودًا في مكان ما قبل مجيئه، فلم تكن بداية كينونته سبحانه هي في يوم مولده، فمن لم يكن موجودًا قبل مولده لا يستطيع أن يقول: “قد جِئْتُ”، فكيف يجيء وهو غير موجود؟ لذا قيل عنه إنه الموجود قبل كل الوجود.
ب- تخبرنا هذه الكلمة أيضًا ليس فقط انه كان موجودًا قبل مجيئه، بل أنه تبارك اسمه قد “جاء”. وحيث إنه كان يكلم سامعيه وهم يرونه بينهم بعيونهم الجسدية، إذًا فحقيقة مجيئه إلى أرضنا كانت وستظل حقيقة لا تقبل الشك حتى لو أنكر مجيئه بعض الذين لم يروه عيانًا. ولذا فقد علَّم، تبارك اسمه، قائلًا: “طوبي للذين آمنوا ولم يروا”، أي يرونه هو بالعيان لا بالإيمان فقط.
ثانيًا: تشرح لنا العديد من النتائج المترتبة على مجيئه تبارك اسمه إلى أرضنا
أ- أولى هذه النتائج هي القول الفصل الحاد القاطع كالسيف والتميز بين مَنْ يؤمنون بأنه كان موجودًا قائمًا بذاته قبل مجيئه كما سلفت الإشارة وبين مَنْ لا يؤمنون بهذه الحقيقة الثابتة. فمن يؤمنون به تبارك اسمه وربوبيته، أي لاهوته، هم الذين قبلوه ربًا وسيدًا لحياتهم، أما الباقون من البشر أجمعين فهم الذين لا يؤمنون به ولا بإلوهيته ولا بمجيئه كالله الظاهر في جسد إنسان.
وهذا الأمر واضح على أرض الواقع المعاش بين الناس منذ خلق قايين وهابيل ابني آدم وحواء حتى يومنا هذا، قايين وهابيل اللذين فرَّق سيف العداوة والكراهية والغدر بينهما، وجعل من قايين وحشًا كاسرًا فقام على أخيه وقتله، لا لشر عمله هابيل ضد أخيه قايين بل بسبب قناعات وإيمانيات وعبادة قايين للمولى بطريقة تختلف عن طريقة عبادة أخيه هابيل، وبسبب إيمان المقتول والمغدور به بأن الإنسان خاطئ، وبأنه لا يمكن أن يغفر المولى ذنبه ويرفع عنه وزره الذي انقض ظهره إلا عن طريق حمل ذبيح برئ، يُسفك دمه لأجله، ويموت فداءً عنه، فيكتسي ويختفي هابيل الإنسان، وكل إنسان، داخل رداء بره، تبارك اسمه. وهذا هو السيف القاطع الذي ألقاه السيد المسيح تبارك اسمه ففرَّق بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون؛ بين الإنسان وأبيه، وبين الابنة وأمها، وبين الكنة وحماتها، كما في قوله: “إِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا.”
ومما يدل على أن السيد المسيح لم يكن يتكلم عن السيف المادي القاتل للجسد فقط أنه، تبارك اسمه، علَّم تلاميذه وحذَّرهم من استخدام السيف قائلًا لهم إن جميع الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون، وأمر تلميذه بطرس الذي استل سيفه وقطع إذن عبد رئيس الكهنة، دفاعًا عن سيده المسيح، في ليلة القبض عليه سبحانه، بأن رد سيفك إلى غمده، وشفى الأذن المقطوعة فعادت صحيحة. ولم يعلِّمهم أبدًا أن “أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوهم”، بل علَّمهم قائلًا: “لا تقاوموا الشر بالشر، بل أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”
ب- حقيقة أنه جاء، تبارك اسمه، ليلقي سيفًا على الأرض تشرح لنا بكل وضوح لماذا يوجد القتل والاغتيالات والتفجيرات التي لا يمكن أن يفهمها أو يشرحها أو يقبلها العقل البشري الإنساني حتى اليوم وسيظل عاجز عن تبريرها إلى ما شاء الله. فكثيرًا ما تحيَّر الإنسان في فهم لماذا يبغض ويقتل ويستخدم الإنسان السيف ضد أخيه الإنسان، حتى مع مَنْ يشترك ويؤمن معه برسول واحد وكتاب واحد ومعتقد واحد.
ثالثًا: تأمرنا
تأمرنا حقيقة أن المسيح لم يأتِ ليلقي سلامًا على الأرض بألا ننخدع بمحاولات التقارب والتفاهم بين الأديان التي تلبس الكثير من الأقنعة الكاذبة المزيفة في هذه الأيام الأخيرة التي نعيش فيها، من محاولة ترجمة الكتاب المقدس إلى كلمات وعبارات وآيات تتناسب مع دين الآخر حتى لو كانت تختلف أو حتى تتضاد مع اللفظ الذي أوحى به إلى أناس الله القديسين المسوقين بالروح القدس، وأيضًا محاولة كسب رضا الطوائف حتى المسيحية بمحاولة تفسير الآيات الكتابية بما يتناسب مع عقائد الآخرين حتى لو لم يقرها الكتاب المقدس ولم يذكرها لا تصريحًا ولا تلميحًا المسيح تبارك اسمه أو رسله المكرَّمون في الكنيسة الأولى، بل كانوا يعلِّمون ما هو عكسها تمامًا. فهذه العقائد والممارسات ليست إلا لإرضاء الجميع على حساب الحق الإلهي كما هو مدوَّن بكتاب الله الوحيد، التوراة والإنجيل، كما نؤمن نحن المسيحيين، مع علمي الأكيد بأن أصحاب كل دين من الأديان المختلفة يعتقدون ويؤمنون دون تفكير أن كتابهم هو الكتاب الوحيد الذي أنزله رب العالمين، وحفظه دون تحريف، وأنه سيظل هكذا إلى أن يقيم المولى تبارك اسمه القسط والميزان. فما دامت الأديان جميعها تتضارب وتتخالف وقد تتصارع في الآيات والمعتقدات منذ لحظة ظهورها على الأرض فسوف يظل السيف عاملًا بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون بدين أو بآخر إلى أن يقضي ربك أمرًا كان مفعولًا.
رابعًا: تحذِّرنا
تحذِّرنا حقيقة أن المسيح لم يأتِ ليلقي سلامًا على الأرض بل سيفًا مما يلي:
أ- الأمر جد خطير، فلا مجال للمجاملات الكاذبة ولا مجال للعبث بالسيف وإلا لقطع السيف حياة وأوصال الكثيرين من الأحياء بالأرض وما عليها، واكتشفت الغالبية العظمى منا، مسيحيين ومسلمين ولا دينيين وملحدين، أنهم لم يكونوا على حق في فهمهم الخاطئ لمن هو المسيح يسوع تبارك اسمه، وما هي طبيعته، وماهية إرساليته، وقيمة خلاصه وفدائه للبشرية جمعاء.
ب- المسيحية ليست مجرد تعاليم ووصايا وفرائض بل سيف يفرِّق بين الإنسان وأبيه وبين الابنة وأمها وبين الكنة وحماتها، فلا مجال لمسك السيف من الوسط والخلط بين الأديان والتعاليم والممارسات بعضها ببعض دون التحقق منها بروح ما دوَّنه الوحي وحرفيته.
ج- الزيادة المستمرة في أعداد أتباع دين بعينه مهما كثروا أو قلوا، تسلطوا على مدن أو دول أو حتى قارات، لا تمنع السيف الذي جاء السيد المسيح لإلقائه على الأرض من أن يفرِّق بين مَنْ يؤمنون ومَنْ لا يؤمنون بالدين الحق أو الحياة الحقة، فزيادة عدد الضالين في كل الأديان على الأرض لن تكون في يوم من الأيام مؤشرًا على صحة وقوة هذا الدين أو ذاك، فقوة الدين هي في تعاليم الله سبحانه التي أرسلها بيد رسول ما، والتي يدل عليها وعلى صحتها تطبيقها في حياته هو أولًا فتصبح حياته الطاهرة النقية، لا تعاليمه فقط، التي يتركها للناس هي ما يتخذونه كمثال لأتباعه ليتبعوا خطاه فيكونوا في الآخرة من الرابحين. وهكذا فإن هذه الحقيقة تحذِّرنا من أن عدد التابعين لدين ما ليس مؤشرًا على تحقيق خطط ومقاصد المولى، تبارك اسمه، وتنفيذها من جهة الساكنين على الأرض، ولا على أنهم المؤمنون الحقيقيون بالله سبحانه وتعالى، فليس كل مَنْ يقول: “يا رب، يا رب” يدخل إلى نعيمه تبارك اسمه. والله أعلم ولله الحمد.