كل دين ظهر على سطح الأرض معروف مؤسسه، وكذلك أتباعه ومريدوه، إلا هذا الدين الذي يتحدث عنه الجميع، ويتبرأ منه الجميع. فما حكاية هذا الدين الذي ما أن يتوقف الحديث عنه إلا ويبدأ من جديد، ولا أحد يعرف مَنْ وراء ذلك، ولماذا يظهر ويختفي من حين إلى آخر؟
ربما تكون عزيزي القارئ تعرف اسم الدين الذي أتحدث عنه، وربما لم يسمع عنه البعض.
عمومًا الدين الذي أقصده هو الدين الإبراهيمي، وعلينا في البداية أن نفرق بين الدين الإبراهيمي والأديان الإبراهيمية، فالأديان الإبراهيمية هي الأديان التي تنتسب إلى نبي الله إبراهيم وهي اليهودية والمسيحية والإسلام.
ليس هناك إعلان رسمي حتى الآن لقيام ما يُعرف بـ”الديانة الإبراهيمية الجديدة”، إذ ليس لها أسس أو أتباع أو كتاب، وإنما هي مشروع بدأ الحديث عنه منذ فترة، أساسه العامل المشترك بين الديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، باعتبارها أديان إبراهيمية، نسبةً إلى النبي إبراهيم.
الهدف المعلن للمشروع هو “التركيز على المشترك بين الديانات والتغاضي عما يمكن أن يسبب نزاعات وقتالًا بين الشعوب”. وقد بدأ الترويج للفكرة فعلًا في إطار “إقامة السلام بين الشعوب والدول بغض النظر عن الفروقات”. ومنذ ذلك الحين، أثار المصطلح جدلًا يظهر على السطح ثم يخبو منذ عام 2020.
وقد رفض البابا تواضروس الفكرة وقال إن فكرة “الديانة الإبراهيمية” مرفوضة تمامًا، ولا يصح استخدامها، وغير مقبولة شكلًا أو موضوعًا، وهي “هدم ثوابت الدين سواء كانت الديانة الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية”. ومن جانبه، أكد الدكتور القس أندرية زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية، أن الإسلام والمسيحية لا يؤمنان بما يُسمى بالديانة الإبراهيمية. وأضاف خلال لقائه مع الإعلامي حمدي رزق أن الطائفة الإنجيلية ترفض الديانة الإبراهيمية بنسبة 100% شكلًا ومضمونًا.
وهذا ما أكده شيخ الجامع الأزهر أحمد الطيب الذي رفض الدعوة إلى “الديانة الإبراهيمية الجديدة”، وتساءل في خطابه عما إذا كان المقصود من الدعوة “تعاون المؤمنين بالأديان على ما بينها من مشتركات وقيم إنسانية نبيلة، أو المقصود صناعة دين جديد لا لون له ولا طعم ولا رائحة”.
والحديث عن “المسار الإبراهيمي” أو “الديانة الإبراهيمية” أو غير ذلك من المسميات ليس وليد السنوات الـ5 الأخيرة أو وليد اتفاقيات التطبيع التي أطلق عليها اتفاقات أبراهام عام 2020، كما يقول عصام عبد الشافي أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بل هناك مجموعة من الدراسات والأوراق والتقارير الرسمية سبقت هذه الخطوة بـ10 سنوات، مشيرًا إلى وثيقة صدرت في جامعة هارفارد عام 2013 سُميت “مسار إبراهيم”، ووثيقة رسمية صدرت عن جامعة فلوريدا الأمريكية عام 2015 تتحدث عن “الاتحاد الفدرالي الإبراهيمي”.
وفي عام 2013، تم تشكيل إدارة خاصة سُميت “إدارة الحوار الإستراتيجي مع المجتمع المدني” داخل وزارة الخارجية الأمريكية عندما كانت تقودها هيلاري كلينتون. وضمت “إدارة الحوار الإستراتيجي مع المجتمع المدني” 50 شخصًا دبلوماسيًا و50 ممن أُطلق عليهم القادة الروحانيين في المنطقة العربية أو الشرق الأوسط، ويُقصد بهم رجال دين من الديانات الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية)، وكان الهدف هو الاستفادة من التأثير الكبير للشخصيات الدينية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية للدفع باتجاه المسار الإبراهيمي. ومنذ ذلك الحين، ظهرت الدبلوماسية الروحانية التي تهدف إلى توظيف الدين في خدمة الأجندات السياسية أو ما يُعرف بالإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط.
ويضيف أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية أن للترويج لتلك المعتقدات استُخدمت المراكز البحثية والمؤسسات المدنية وعشرات الكيانات التي تم تأسيسها قبل وبعد التطبيع الإسرائيلي مع الإمارات والبحرين وغيرهما. وأكد أن هناك مليارات الدولارات تُضخ في وسائل الإعلام وعشرات الفعاليات تنظم سنويًا في محاولة لتغيير الخطاب الديني ومسخ هوية ومعتقدات أبناء شعوب المنطقة.
ويرى البعض أنها حركة سياسية لا علاقة لها بالدين واستُخدم الدين في تغطيتها.
والمتخوفون من الجانب الإسلامي يرون أن ما يحدث الآن في السعودية هو تفريغ الإسلام من محتواه، ويربط المسيحيون بين الديانة الإبراهيمية وبين لاهوت المحبة الحر.
وعلى الجانب الآخر، يرى البعض أن الكلام عن دين إبراهيمي واحد هراء وأنه ترسيخ لفكرة المؤامرات الكونية على أصحاب الأديان حتى يعيشوا في صراع وتناحر وقتال مستمرين.
وفي النهاية، أهلًا بالحوار بين الأديان أهلًا بالتآخي، وأهلًا بالعيش المشترك، ولكن لا لامتزاج الأديان وذوبان الفروق الخاصة بكل دين، ولا لمصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار، ولا لتفريغ المسيحية من محتواها.