العدد 122 الصادر في نوفمبر 2015 دروس من حياة الهرم الرابع الأستاذ الدكتور مفيد إبراهيم سعيد
بينما كنت أكتب مقالى عن الراحل القس منيس عبد النور وهي المنشورة في جريدتنا الطريق والحق بعدد أكتوبر 2015 طرأ على عقلى سؤال بسيط وأعتقد أنه هام جداً، أما السؤال فهو: لماذا ننتظر أن يموت القس أو الشيخ أو الرجل أو المرأة من يستحق التكريم ويستحق اتخاذه كمعلم ومثال وعلم من أعلام دنيانا، ومن ينبغي الاقتداء به في كثير من نواحي حياته ثم ننتبه بأن علينا أن نكرمه ونتحدث عنه وعن ما تعلمناه ورأيناه وسمعناه منه وفيه وهو مازال حيًا يرزق؟! لماذا لا تقوم الكنيسة أو الهيئة أو حتى أفراد بتكريم الشخص المستحق أن يكرم في حياته وقبل وفاته، والحقيقة أن هناك؟ أسبابًا عديدة وإجابات متنوعة لسؤالي السابق، ربما لأننا بطبيعتنا البشرية لا نقدر الشخص أو الشئ حق قدره إلا بعد أن نفقده، وربما لأننا نخاف من كلام الناس أن يتهمونا بالتقرب والمداهنة للشخص المكرم وخاصة إذا كان ذا مركز وجاه أو غنى، وربما لأن هذا التكريم يمكن أن يثير حفيظة غيره من الأحياء، وقد يعتقد البعض في نفسه أنه أفضل ممن يكرم، فيغضب أو يحقد على القائمين بالتكريم، ولذا فالأضمن والأسهل والخالي من وجع الدماغ أن لا يُكرم الأحياء بل الأموات الذين عند ربهم يرزقون، أخيرًا ربما لأن الشخص الذي نريد أن نكرمه يرى أن الإكرام هو من الرب وحده ولا ينتظر إكرامًا من الناس كسيده، وهذا مفهوم وهذه إجابة منطقية يقتنع بها البعض ويطبقونها عن قناعة روحية فتزيدهم جمالاً وتأثيرًا وتضيف إلى لزوم تكريمهم في الأرض سببًا هامًا يوجب تكريمهم من قبل من تغيرت حياتهم نتيجة لخدمة هؤلاء الرجال، رجال الله العظام، وهنا قد يقول البعض استغفر الله العظيم، فهو- سبحانه- العظيم والمستحق العظمة وحده، ولأولئك أقول نعم إن العظمة لله وحده وهو المتفرد بها في ذاته، وهذا متفق عليه، ولكن الله نفسه –سبحانه- وصف في كتابه الكريم امرأة، وفي العهد القديم، المرأة المعروفة بالشونمية، بالقول: “وكانت هناك امرأة عظيمة”، فعظمة الله –سبحانه- تختلف عن أية عظمة أخرى لأي إنسان مهما كان، لأن عظمة الله هي صفة في ذاته تعالى، أما عظمة المخلوق، فهي صفة مكتسبة من الخالق، سبحانه وهي من نعم الله عليه التى وهبها الفعال لما يريد لبعض خلائقه على الأرض، ومع البعض الأخر.
تبدو فكرة عدم تكريم الأحياء أنها فكرة روحية جميلة وواقعية، لكنها في رأيي لا تخلو من سيطرة روح التدين على عقولنا ذاك الذي أقنعنا أنك لا ينبغي أن تسمح لأحد أن يكرمك، فكلنا في الموازين إلى فوق وهو بذلك يمنع الخير عن أهله ولا يريد أن يظهر ما يمكن للإنسان الذي يعيش في المسيح يسوع وبقوة الروح القدس أن يلعبه من دور في إنعكاس نور المسيح الذي سطع علينا، فجعلنا ملحًا للأرض ونورًا للعالم، والدليل على ذلك أنك تجد أن خطايا وسقطات المؤمنين يظهرها ويضخمها وينادي بها من على السطوح عدو النفوس وبكل قوته، أما عند صفاتهم السماوية وأعمالهم الإلهية، فهو دائمًا ما يخفيها ويهمس بها في المخادع ويقلل من تأثيرها بكل حيله ودهائه، وربما تأثرنا بما حولنا من أفكار وأقوال كاذكروا محاسن موتاكم، أو فكرة أن القديس لا يصبح قديسًا إلا بعد موته وبعد أن يستوفي لشروط كنسية معقدة واقتراع من رياسات كنسية قد تتضارب آراؤها وهذه أيضًا فكرة غير كتابية، فالكتاب المقدس يدعو كل من اغتسل بدم المسيح من خطاياه وولد ثانية وأصبح خليقة جديدة، يدعوه قديسًا أو قديسة في المسيح. هذه الأسباب وغيرها الكثير يمنعنا من تكريم الأحياء، فلا نكرم إلا بعض الأموات في المسيح، مع أن الكتاب علمنا أن نذكر مرشدينا الذين يتعبون من أجلنا وأن علينا أن ننظر إلى نهاية سيرتهم، وهذا ليس المقصود به بعد وفاتهم فقط بل وفي حياتهم أيضًا، وأن نتمثل بهم.
وكمثال على ما أقول ولأبدأ بنفسى، لذا فإنني أرى أن مقدامًا من ينبغي على الكنيسة بكل طوائفها أن تُكَرّمَه، والذي أرى أنا شخصيًا أنني مدين لشخصه العظيم وقد تعلمت منه الكثير، ولي معه بعض الذكريات الجميلة سواء في القاهرة أو سان دييجو كاليفورنيا بأمريكا هو الشيخ (وهذه رتبة كنسية مساوية كتابيًا لرتبة القسيس) الأستاذ (وهذه رتبة علمية جامعية) الدكتور مفيد إبراهيم سعيد.
أما الغاية من وراء كتابة مقالي هذا هو أولاً: أن أسرد دروسًا روحية وعملية تعلمتها منه لفائدة الجميع شباب وشيوخ، كبار وصغار، ثانيًا: لوضع مثال حي معاصر للخدام والقسوس وقادة الكنيسة للاقتداء به والسير على طريقه وثالثًا: لأقدم له الشكر والعرفان بالجميل في حياته نيابة عن كل من عرفه وتعامل معه في يوم من الأيام. رابعًا: تقديم الشكر العميق للرب المسيح الذي يضع كنزه في أوان خزفية الذي لم ولن يترك نفسه بلا شاهد.
ويعوزني الوقت ومساحة النشر إن عددت كل ما لهذا الرجل العملاق من تأثير على حياتي وحياة الملايين، من طلبة كليات الطب في مصر والعالم، والمسيحيين من مصر والوطن العربي والعالم الغربي، والمرضى الذين عالجهم والتقى معهم ومع عائلاتهم، فطيب قلوبهم قبل جراحهم، من المسيحيين والمسلمين، ولذا فقد اخترت هذا الرجل بالذات كمثل لمن ينبغى أن تكرمهم الدولة والكنيسة والشعب المسيحي، ففي رأيي الخاص إن الشيخ الدكتور مفيد إبراهيم سعيد، كما أراه أنا، ويراه الغالبية العظمى ممن تعاملوا معه أنه الهرم الرابع في مصر من حيث الترتيب الزمنى لتواجد الأهرامات جميعًا، أما من ناحية المكانة والخصال والعظمة التى حباه المولى بها، فهو الهرم الحي من أهرامات الكنيسة المصرية على اختلاف طوائفها وخاصة الكنيسة الإنجيلية المعاصرة.
وبهذه المناسبة أود أن أقرر أن ما أكتبه في هذه العجالة عن هذا الرجل العظيم لن يقرأه هو إلا بعد صدور هذا العدد مثله في ذلك مثل جميع القراء الذين يقرأون جريدة الطريق والحق، والسبب في ذلك بسيط وهو أنني على يقين أنه لن يسمح بنشر هذه المقالة لتواضعه الشديد إن قرأها قبل طباعتها.
ترجع معرفتي بالأستاذ الدكتور مفيد إبراهيم سعيد منذ الشهور الأولى لمعرفتى بالمسيح يسوع – تبارك اسمه- مخلصًا شخصيًا لحياتي بكنيسة المسيح بشبرا في سنة 1971 ، فهناك كنت أسمع عنه وعن خدمته في قصر الدوبارة صباح أيام الآحاد في اجتماع الموظفين، وكنت أراه في بعض زياراتي للمستشفى الإنجيلي بشبرا لزيارة صديقًا أو قريبًا، لكنني لم أتعرف عليه شخصيًا وأتحدث معه إلا في الإجازة الصيفية لسنة 1972 وكنت يومها في الصف الثاني الثانوي، وقد تعرفت عليه في ظروف نفسية كانت قاسية بالنسبة لي، كنت في ذلك الوقت أمر بسن المراهقة وتكوين شكل جسدي الذي سيلازمنى طيلة عمري، وكانت مشكلتي إن حجم ثديي كبيران كما كنت أراهما أنا بعيني مراهق يريد أن يتحرر من قميصه ويستمتع بنزول البحر في المؤتمرات الصيفية أو لبس الملابس الضيقة التى كانت تصلح لمن هم في سنى يومئذ، والتباهي بعضلاتي وقوامي، الأمر الذي لم أكن أستطيعه بسبب مشكلتى الجسمية، ذهبت لعدة أطباء بحثًا عن حل لها، فتضاربت نصائحهم وعلاجاتهم ووصفاتهم، ولم يرض أبي أو أمي إطلاقًا على كل الحلول الطبية التى اقترحها لي الأطباء لخوفهم علي، ولم يكن أمامي سوى التفكير في إجراء عملية جراحية تجميلية لإعادة رسم شكل صدري الجديد، كما كنت أريده أنا، وعند عرض هذه الفكرة على والدىَّ، قوبلت هى الأخرى بالرفض الشديد لخوفهم علىَّ من إجراء العملية الجراحية وخاصة إن فكرة دخول مستشفى والتخدير والامتثال لمشرط الجراح، أي من كان هذا الجراح، ولأي سبب من الأسباب، حتى لو كانت حتمية كانت فكرة في ذهن والداي مرفوضة وهي المستحيل بعينه، حاول والداي أن يقنعاني إن هذه ليست مشكلة على الإطلاق، وإن كنت أشعر أنا أنها مشكلة، فهي مشكلة معظم الشباب المراهقين الذين في مثل عمرى، ويمكن أن تنتهي بالتمرينات الرياضية أو اتباع نظام غذائي لتقليل الوزن، ولم تنفع معي نصائحهما. فكان من أساليب الضغط علي من جانب والدي حتى لا أتمم ما كنت قد صممت على عمله بأي ثمن هى أنهما لن يأتيا معى لأي طبيب جراح ولن يدفعا مليمًا واحدًا من أجرة العملية، ولن يذهبا معى للمستشفى، وغيرها من المعوقات. أسقط في يدي، ولم أعرف كيف أحقق أمنيتي الغالية بأن أتخلص من مشكلتى الجسدية، وفجأة افتكرت الدكتور مفيد، قلت لنفسى هو صديق للراحل القس سامي لبيب، سأطلب من الأخير خطاب توصية له، لن يتأخر علىَ القس سامي في إعطائي الخطاب، ولن يرفض له الدكتور مفيد طلبًا، وسأذهب لمقابلته في المستشفى الإنجيلى وسأسأله عن تكاليف العملية ولم يكن عندي شك أنه سيعمل لي تخفيضًا كبيرًا بسبب توصية القس سامي، وبسبب ما كنت أسمع عنه من إعفائه الكثير من مرضاه من دفع تكاليف العمليات، الأمر الذي يعرفه جيدًا القريبون والبعيدون منه، قررت أن أذهب أولاً لأحجز ميعادًا للكشف مع الدكتور مفيد وبعدها الله يدبر ثمن العملية، ذهبت إلى المستشفى الإنجيلى بمفردي، وأمام بابها الحديدي الكبير فوجئت به يقف ويشرف على أحد الميكانيكية الشباب الذي كان يبدل له عجلة سيارته الشيفورليه المميزة والتى كان يتفرد بركوبها، والتى لم أر مثلها في مصر لسنين عديدة، فوجئت به أمامي، تقدمت إليه، مد يده لمصافحتى، عرفته بنفسى، وقلت له أنا من كنيسة المسيح بشبرا، ومشكلتى هي كما ترى أن صدري كبير وأريد أن أعمل عملية جراحية تجميلية لاستئصال ثديي، ابتسم وقال: حاضر أنا هعمل لك العملية، قلت كم ستتقاضى مني ثمنًا للعملية، ضحك ضحكة طويلة وقال لي: هبعتك لقسم التجميل في القصر العيني وهم سيقومون بالمطلوب، تواعدنا في القصر العينى ذهبت وأخذني من يدي لأحد جراحي قسم التجميل وشرح له الموقف، وعده جراح التجميل أن يقوم معي بالواجب، انصرف الدكتور مفيد، وقال لي الجراح، أنا آسف، الدكتور مفيد جراح لماذا لا يقوم هو بعمل العملية، قلت له لأن هذه هي عملية تجميل وليست جراحة عامة، قال أنا آسف مش هقدر أساعدك، رجعت للدكتور مفيد، قال لي ولا يهمك، أنا هعملها لك، قلت لو أمكن من فضلك أن تعملها لي في المستشفى الإنجيلي بشبرا، أجابنى، إيه يفرق القصر العينى عن المستشفى الإنجيلى، أنا اللي هعمل لك العملية سواء هنا أو هناك، وفي الحالتين لن أتقاضى أجرًا، لكن في المستشفى الإنجيلى ستضطر أن تدفع مصاريف فتح غرفة العمليات والتخدير والإقامة بها، قلت موافق، لكن بقى لي طلب أخير عند حضرتك، ممكن أجيب بابا وماما معايا للعيادة وحضرتك تقنعهم أن لا خوف علي من هذه العملية، وأنك شخصيًا الذي ستجريها لي، لأني متأكد أنها الحالة الوحيدة التي سيقبل فيها والداي أن أقوم بإجراء هذه الجراحة، إذا عرفوا أن حضرتك هو الجراح الذي ستعمل لي العملية، وقد كان، واقتنع والداي، وعضداني ووقفا بجانبي بسبب طمئنة الدكتور مفيد لهم إذ كانوا يحبانه ويثقان فيه ثقة عمياء، وتغيرت حياتي بالكامل، من شاب منطوى لا يريد الظهور في المجتمعات العامة بسبب مشكلته الجسمية إلى قائد في كنيسته، ومرنم وواعظ وعضو بكثير من الهيئات ولم يكن عمرى يومئذ يتجاوز بعد الثالثة والعشرين، كان هذا بسبب جَرَّاح فهم أبعاد جرح شاب مراهق وآلامه النفسية بالرغم من عدم وجود آلام جسدية، ولم يستخف به وعمل كل ما في استطاعته بمشرطه لإصلاح ليس جسده فحسب بل نفسه أيضًا، أعلم أن الدكتور مفيد لا يعرف إلى الآن هذه القصة، فبالرغم من علاقتي به لم أشاركه بهذه القصة إلى الآن، ولذا فأنا أتوجه إليه بالشكر العميق على ما صنعه في حياتي وحياة الكثيرين من معجزات شفاء وتغيير وأنني مدين لك أستاذي الفاضل بشفاء جسدي ونفسي. وبهذه المناسبة أكتب بكل ثقة أن الدكتور مفيد لا يؤمن فقط بالشفاء بالمشرط والأدوية ولكنه يؤمن بالشفاء المعجزي بدون جراحة أو دواء وسأذكر أدلة على ذلك لاحقًا بهذا المقال.
أما اللقاء الثاني الذي كان عن قرب بينى وبين الأستاذ الدكتور مفيد إبراهيم سعيد، فكان عندما قمنا، مجموعة من الأطباء وأطباء الأسنان والصيادلة المصريين بتأسيس “الرابطة الطبية المسيحية” في مصر، كان هذا في بداية الثمانينات، وكانت لائحة الرابطة الطبية تنص على أن مجلس إدارتها يتكون من رئيس الرابطة واثنين من النواب أحدهما عمره أكبر من 35 سنة والآخر أقل من 35 سنة، وجاءت نتيجة الاختيار الذي أجراه مجلس إدارة الرابطة أن الأستاذ الدكتور مفيد إبراهيم رئيسًا، والراقد في المسيح اللواء طبيب رؤوف وهبة صالح نائب الرئيس الأكبر من 35 عام والعبد الفقير لله، كاتب هذا المقال، نائب للرئيس الأصغر من 35 عام فقد كانت أيام سنى غربتي يومئذ 26 عامًا. لم يكن الدكتور مفيد حاضرًا معنا في جلسة الاختيار، فقام الدكتور رؤوف بإبلاغه وقد قبل الدكتور مفيد مشكورًا هذا الاختيار، عقدنا معه اجتماعنا الأول، فسألنا بعد الترحيب به قائلاً: لماذا يا شباب اخترتموني رئيسًا للرابطة؟ قلنا لأن حضرتك أكبر الأعضاء سنًا وأنت أستاذ بالجامعة ورجل ذو مكانة مميزة بين الأطباء وطلبة الطب، و.. و.. و.. ضحك الدكتور مفيد وقال وطبعًا أنتم فاكرين أني هحميكم قدام الحكومة، قلنا طبعًا، فمكانتك ستضطر الحكومة أنها تفكر 100 مرة قبل ما تحاول أن تمس أحدنا أو الرابطة بضرر، ابتسم وقال: ما حدش يقدر يحمينا جميعًا إلا الرب ولا تنسوا أن عندنا أكثر من 180 كاهن وقسيس ورجل دين في السجن وأن البابا شنوده نفسه محددة إقامته في الدير. لقد ضرب لنا الأستاذ الدكتور مفيد إبراهيم مثلاً في التواضع والرجل الذي يعرف قدر نفسه والذي لا يدعى البطولة ما دام لا يستطيع استخدامها بسبب الأيام الشريرة التى كنا نعيشها تحت حكم قادة طغاة.
تحدثنا يومها عن أمور كثيرة، وسأله أحدنا، حضرتك بتؤمن بالشفاء الإلهي، كان السائل يريد أن يعلم أن كان الدكتور مفيد يؤمن أن الشفاء المعجزي دون تدخل الأطباء مازال موجودًا، ضحك الدكتور مفيد ضحكته الرزينة ثم أجابنا بسؤال قائلاً، هو فيه شفاء مش إلهي، أنا ما سمعتش عن شفاء مش إلهي، كانت إجابته بسيطة عميقة منبهة مفرحة لنا نحن الأطباء الصغار، ضحكنا من قلوبنا وكرر معظمنا إجابته قائلين هههه، صحيح، هو فيه شفاء مش إلهي، أي سؤال غريب هذا، ثم أكمل الدكتور مفيد، أما إذا كان سؤالك عن الوسيلة التى يستخدمها الله في الشفاء، فأنا أؤمن أن هناك شفاءً معجزيًا إلهيًا دون تدخل الأطباء. أتذكر أننا في طريقنا من مدينة لوس انجيلوس لمدينة سان دييجو بكاليفورنيا كنت أتحدث معه عن معجزات الشفاء التى أجراها الرب القدير في كنيستنا وأمام عيوننا، من اختفاء لأورام سرطانية وسرطانات بالدم، وحصوات بالكلى، وتضخم بالقلب وغيرها من الأمراض المستعصية وبعد سماعه للكثير منها، قال لي: أنا أؤمن بذلك ثم طلب منى أن أصلى لواحدة من مرضاه غير المسيحيات، كانت مصابة بالسرطان وقال لي الدكتور مفيد، أنا قلت لها إن يسوع قادر أن يشفيها ووعدتها أنني سأصلى لها، وأود أن يشفيها يسوع حتى تعلم من هو المسيح وكيف أنه مازال حيًا يشفي، تعجبت في نفسى أن أرى هذا الجانب الرائع من حياة أستاذنا، فهو لا يتكل على علمه وخبرته ونجاحاته ومشرطه ومكانته، لكنه يتكل على المسيح الشافي في أن ينجح في كل ما تمتد إليه يده. ولا عجب أن يتسابق المرضى، فقراء وأغنياء، مسيحيون ومسلمون في الاستسلام لمشرطه، مطمئنين أنهم في أيدٍ أمينة، على أعلى مستوى من الكفاءة الإيمانية والأخلاقية والعلمية والطبية، تحترم الناس وتخاف الله المتسلط في مملكة الناس، وتصنع الكل كما للرب، الأمر الذي أثار حفيظة زملائه من الأطباء، من هم أقل مستوى منه في كل شئ، فاتهموه على صفحات إحدى الجرائد بأنه يجذب ويستحوز على أكبر عدد من المرضى في مصر متضجرين من صغر أجرة كشفه التى كانت، الأقل بين الأطباء زملائه الذين على مستوى خبرته ومكانته العملية ونجاحاته حسبما ظهر في تقرير على صفحات الجريدة وقالوا إنه يجذب المرضى إليه بخفض تكلفة الكشف على مرضاه، التي كانت يومها 5 جنيهات مصرية فقط أي ما يعادل دولارًا واحدًا، في وقت كان هذا المقدار هو أقل ما يتقاضاه الممارس العام حديث التخرج للكشف على مريضه، واتهمه أعداء النجاح، الذين كان أقلهم علمًا وخبرة يتقاضى 200 جنيه مصرى كثمن للكشف على مريض واحد، أي ما يعادل 40 ضعف لما كان الدكتور مفيد يتقاضاه، اتهموه بأنه يقوم بتعويض صغر قيمة الكشف في أجرة العمليات، لكن الصحفي كاتب التقرير اضطر أن يعترف أنه بتقصى الحقائق حول هذا الأمر وجد أن ما كان يتقاضاه الدكتور مفيد، كأجرة يده في معظم عملياته الجراحية أقل في أغلب الأوقات بأكثر من 50% مما كان يتقاضاه أولئك الزملاء الحاقدون عليه بسبب بركة الرب له، الأمر الذي لا يستطيع أهل العالم فهمه أو الاقتناع به.
درس آخر علمنا إياه أستاذنا الدكتور مفيد هو تنظيمه لوقته وأولوياته، كنا ولا زلنا نتعجب كيف يمكن لإنسان واحد يمشى على هذه البسيطة أن يكون لديه كل هذه المسؤليات والخدمات والدراسات والاجتماعات، ويستطيع تحقيقها جميعها، كان هذا أيضًا سؤال من الأسئلة الهامة التى كنا كأطباء شباب نحاول معرفة إجابته من الدكتور مفيد وهو الزوج والأب والأستاذ بكلية طب القصر العينى والمحاضر فيها، والجراح في عيادته الخاصة والمستشفيات التى كان يقوم بإجراء الجراحات بها، المستشفى الإنجيلى سابقًا بشبرا، والمستشفى القبطى بغمرة، ومستشفي السلام بالمهندسين، والقصر العينى، والخادم الواعظ في مختلف الكنائس والطوائف والجمعيات، صاحب الرسالة المميزة البسيطة العميقة مضبوطة اللغة العربية الفصحى والمسؤل عن الوعظ في اجتماع الموظفين بصباح الأحد بكنيسة قصر الدوبارة لفترة طويلة، والرجل الذي تعدت خدمته محيط الكنيسة في مصر إلى العديد من بلاد العالم والولايات الأمريكية والتى كان من بينها كاليفورنيا وبوسطن وواشنجتون وغيرها، وأني على ثقة أن ما خفي عنى وعن غيري من أعمال وخدمات لهذا الرجل أعظم مما نعرفه نحن، سألناه دكتور مفيد، هل يمكنك أن تشرح لنا كيف تنظم وقتك بين كل مسؤلياتك؟، أجاب الدكتور مفيد الموضوع بسيط وهو أن تحدد دعوتك وأولوياتك في الحياة واستطرد، أنا أعتبر حياتي كقفص الفاكهة، هذا القفص محدود ولا يمكن أن يحتوى على كل شئ في الدنيا، فأنا أعتبر أن الجامعة والخدمة الطبية بالنسبة لي كالبطيخ، فأنا أملأ هذا القفص ببطيخ الجامعة والخدمة الطبية والعمليات، وبين البطيخ توجد فراغات كبيرة يمكن أن أملأها بالبرتقال، وكان يقصد أن الوعظ والاجتماعات بالنسبة له عبارة عن البرتقال الذي يمكن أن يضعه في نفس قفص البطيخ وبين البطيخ، قال وبعد أن أضع البطيخ والبرتقال في قفص حياتي، ستظل أماكن أخرى خالية بين البرتقال تكفى لأن أضع فيها ليمونًا وهو بعض العلاقات والخدمات الأخرى وهكذا، وبهذا أكون قد استطعت أن أستغل قفص حياتي بأفضل ما يمكن، وبالرغم من أنني سمعت هذه الكلمات من أكثر من 32 سنة من أستاذنا الدكتور مفيد إلا أن صوته مازال يرن في أذني وقد ساعدتنى هذه الكلمات الحكيمة في أن أستمتع بحياتي بالرغم من مسؤلياتي الكثيرة وأن أطبقها على وقتى، ومع الفارق في التشبيه بينى وبين أستاذي، إلا أن هذه الكلمات علمتنى كيف أكون زوجًا وأبًا وقسًا وكاتبًا ورئيسًا لتحرير جريدة الطريق والحق وواعظًا ومسافرًا ببشارة الإنجيل إلى كل بلاد عربية تحتاج لبشارة يسوع المسيح، ليس ذلك فقط بل قد أذهلني الدكتور مفيد عندما كنت أتحدث إليه تليفونيًا في زيارتي الأخيرة لمصر في شهر أبريل الماضى عندما قال لي: “على فكرة أنا بتابعك في كتاباتك والحلقات التليفزيونية اللي مرات بتسجلها، وتابعت حلقة المسيحي السلفى اللي سجلتها من أسبوعين”، كانت هذه الحلقة مذاعة على الهواء مباشرة مع الشيخ صموئيل فوزي في برنامج “أولاد ابراهيم” فلم يمنعه كونه معلمًا وليس لديه الوقت الكثير من أن يتابع حلقات وإصدارات غيره من تلامذته وتشجيعهم بأن يخبرهم بأنه يتابع تسجيلاتهم، فشكرًا لك أستاذي الدكتور مفيد على هذا الدرس الخطير الذي جعلنى وغيري من الكثيرين مثمرين في حياتنا.
لقد علمنا الأستاذ الدكتور مفيد إبراهيم سعيد كيف نحترم الخدمة والخدام، فلقد سمعت نقلاً عن مصادر موثوق جدًا بها أن الدكتور مفيد عندما كان في الثانوية العامة كان يفكر في الالتحاق بكلية اللاهوت ليصبح قسًا راعيًا سائرًا على نهج والده العملاق الدكتور القس إبراهيم سعيد، ولكن نظرًا لكونه طالبًا متفوقًا كانت تجربته أن يختار بين كلية اللاهوت ليصبح قسًا وكلية الطب ليصبح طبيبًا، فوضع الدكتور مفيد علامة أمام الله أنه إن حصل على المركز الأول على طلبة الثانوية العامة بالجمهورية سيتجه لدراسة اللاهوت، وإن حصل على المركز الثاني سيلتحق بكلية الطب، ولعل هذا الترتيب يبدو معكوسًا عند البعض وكان ينبغي أن تكون العلامة التى يضعها هى أنه إن حصل على المركز الأول سيكون طبيبًا وإن حصل على المركز الثاني سيكون قسيسًا، لكن بالنسبة له كانت خدمة الرب لا بد أن تأخذ المركز الأول في حياته وبعدها يأتي الطب وغيره من أمور الحياة الدنيا، ولعل خبرتي في الخدمة مع الدكتور مفيد تقول إنه دائمًا ما يعطى خدمة الرب المركز الأول، فعندما يأتي لأمريكا يأتي أولاً لخدمة الرب في المؤتمرات التى تنتظره من سنة إلى سنة ليتكلم بها، وعندما طلبت منه إن يأتي إلى سان دييجو كاليفورنيا ليقوم بتسجيل بعض المحاضرات اللاهوتية عن عظمة الله في خلقه لجسم الإنسان لم يتردد لحظة، وعندما كنت شابًا صغير السن وقبل أن نلتقي في خدمة رابطة الأطباء في مصر طلب منى قسيسي الراحل إلى جوار ربه القس سامي لبيب مؤسس مجمع كنيسة المسيح وراعي كنيستي بشبرا يومئذ أن أذهب لمقابلته في عيادته وأن أطلب منه أن يتكرم بزيارتنا والخدمة بيننا بكنيسة المسيح، قلت في نفسى هل حقًا يمتلك الدكتور مفيد الوقت ليأتي ليعظ في كنيستنا، ذهبت إلى عيادته، وكالعادة كان المرضى يتزاحمون عليها حتى جلس بعضهم على سلم العمارة التى كان يعرفها الجميع بعمارة رمسيس، تحدثت إلى التمرجي وقلت له أنا مش جاي للكشف، أنا جاي برسالة من قسيس اسمه سامي لبيب للدكتور مفيد، فهل من أمل في لقائه، طلب منى التمرجي أن أنتظر، ثم غاب لمدة دقائق وعاد ليقودني لغرفة الكشف، ورحب بي الدكتور مفيد وقال لي: “أنا بحب راعيكم لأنه رجل الله، قل له إنني سأكون في الميعاد إن شاء الرب وعشنا” تجرأت عندها وقلت له ولي أنا طلب آخر، وأكملت قائلاً: أنا مسؤل عن جماعة اسمها اتحاد الشباب المسيحي، ونحن نعقد اجتماعات كرازية بقاعة الدي لا سال بالظاهر للشباب من مختلف الطوائف، ونطمع في أن تلبي حضرتك دعوتنا بأن تخدم في أحد لقاءاتنا، لم يكن الدكتور مفيد يعرفنى أو قابلنى شخصيًا سوى المرة التى أجرى لي فيها العملية الجراحية كمريض عادي أراد هو أن يساعده ليس إلا، كل ما كان يعرفه عنى هو ما كنت قد أخبرته به لتوى وهو أننى من كنيسة المسيح من طرف القس سامي لبيب، سألنى: أنتم اللي بتعملوا حفلات الجامعة كل سنة في قاعة ديلز، قلت له لا، إحنا مجموعة جديدة بنعمل حفلات للجامعيين، لكننا لسنا المجموعة اللى تقصدها حضرتك، قال سآتي إلى حفلتكم، وقد جاء لا مرة ولا مرتين بل مرات واستخدمه الله بقوة في وسط شباب الجامعة.
الدكتور مفيد رجل الإيمان بالحق، والرجل الذي يجاهر بالحق الذي يؤمن به، وإن اضطر أن يسبح ضد تيار التعاليم الطائفية والآراء اللاهوتية وحتى قناعات الأهل والأصدقاء، فله موقف واضح ومعلن من عدة قضايا لاهوتية كقضية اختطاف الكنيسة والملك الألفي على سبيل المثال لا الحصر، وهو موقف مخالف لتعليم الكنيسة المشيخية التى هو شيخ بها وقد قام بتسجيل عدة أشرطة كدراسات كتابية في هذا الشأن، وكذلك مواهب الروح القدس والشفاء الإلهي كما ذكرت وغيرها من القضايا الهامة لبنيان جسد المسيح. نعم يعوزني الوقت ونحتاج إلى عدد كامل من جريدة الطريق والحق لو أردنا ذكر القليل من نواحي عظمة هذا الهرم الروحي الكبير.
لكننى أخيرًا أقول إنه قد أذهلني جانب قد لا يعرفه الكثيرون أنه يمكن أن يكون متواجدًا حتى بأقل كمية في حياة الدكتور مفيد، فكلنا يعرفه رجلاً جادًا جدًا قد لا يبتسم إلا قليلاً ولا يعظ إلا باللغة العربية الفصحى، ولست أتذكر أنني رأيت الدكتور مفيد أبدًا يضحك بصوت عال طيلة معرفتي به في مصر، لكن الحقيقة التى عرفتها جيدًا ورأيتها فيه عند زيارته والسيدة حرمه الدكتورة ليلى لنا بسان دييجو كاليفورنيا هو أنه شخصية لذيذة العشرة خفيفة الظل يضحك من قلبه كالأطفال، كنا نسير أربعتنا الدكتورة ليلى الأستاذة وقتئذ بالجامعة الأمريكية بمصر والدكتور مفيد وزوجتى الدكتورة أماني مكرم وأنا في منطقة سياحية على شواطئ المحيط بمدينة سان دييجو، كنا في طريقنا لتناول العشاء، سألتهم ماذا تريدون أن تأكلوا، تحب يا دكتور مفيد تأكل في مطعم أكلات بحرية، ضحك وقال لي أنا مستعد آكل أي شئ بشرط أن لا يمشى على أكثر من أربعة أقدام، وكان يقصد أنه لا يميل كثيرًا لأكل البحريات التى لها أرجل كثيرة كالجمبري والكابوريا وغيرها، وحيث أن كنيستنا في سان دييجو تضم الكثير من الإخوة والأخوات العراقيين والسوريين والأردنيين والمصرين وغيرهم بكل اختلافهم في اللهجات التى يتحدثونها، بدأنا بالحديث عن الاختلافات اللفظية في معاني الكلمات بين الدول العربية، فبعض الكلمات التى نستخدمها في مصر لها معان مختلفة تمامًا في اللغة العربية المستخدمة في بلدان أخرى، قلت له إحنا في مصر لما تحب تبسط حد تقوله إن شاء الله تكون مبسوطًا أو اعمل لي الأمر الفلاني وأنا هبسطك أي أجعلك سعيدًا، أما عند الأحباء العراقيين فأبسطك تعنى سأضربك وهي عكس المعنى تمامًا في مصر، رأيت الدكتور مفيد يضحك من قلبه، ثم قال لي دعنى أحكي لك خبرتي مع بعض الكلمات ذات المعاني المختلفة بيننا وبين اللبنانيين، قال كنا أنا وليلى زوجتى في لبنان وقد اتفقت معنا إحدى العائلات اللبنانية أن يعزمونا على العشاء في وقت لاحق، وقبل الميعاد المتفق عليه للقاءنا بحوالي أربعة أيام، دق جرس التليفون في المكان الذى كنا نقيم فيه، رفعت أنا سماعة التليفون وكانت المتحدثة هى السيدة التى دعتنا لتناول طعام العشاء في منزلها وقالت لي أنا آسفة يا دكتور مفيد أني مش هقدر أستقبلكم في البيت عندنا، لأننا في هذا الوقت هنكون “بنطرش”، قال فسألتها بتعجب واندهاش قائلاً: “هتكونوا بتطرشوا”، قالت “نعم”. قلت مين بالظبط اللي هيكون بيطرش، قالت كلنا، قال بعد أربعة أيام هتكونوا كلكم بتطرشوا ليه قررتم أن تأكلوا شيئًا مسممًا، كيف عرفت مقدمًا أنكم هتكونوا كلكم بتطرشوا في نفس الوقت، قال كمصرى وكطبيب أنا فهمت كلمة نطرش معناها نتقيأ، لذلك كان الأمر بالنسبة لي مفاجأة غير مفهومة، قال، أنقذتنى ليلى بسماعها المكالمة وقالت لي: “مفيد نطرش باللبناني معناها ندهن أو نبيض البيت مش هيتقيأوا”. لم أر الدكتور مفيد في حياتي يضحك كهذا اليوم، واستمر ضحكنا لمدة طويلة وكل منا كان يروي ذكرياته المضحكة وهذه هي صفة من صفات الشخصية الروحية المتكاملة الكاملة، إنه كما يعرف أن يكون جادًا يعرف أيضًا أن يكون مرحًا ليدخل السعادة في قلوب المحيطين به.
أستاذنا الدكتور مفيد، أنت عطية الله لجيلنا في مصر والعالم العربي والخارجي، أنت صورة حية مجسمة لحياة المسيح وكتابه وتعاليمه ووصاياه على الأرض، لن نستطيع أن نوفيك حقك من الوصف والشكر والتبجيل، لكننا نشكر المسيح على عطيته لنا في هذا الوقت من الزمان. أصلى أن يعطيك القدير أيامًا مديدة سعيدة وأرجو أن لا تغضب مني لكتابتي هذا المقال دون أن تقرأه أولاً، فأنا أعلم أنك لن تسمح لي بكتابتها لتواضعك الرائع، لكنني رأيت كتابتها لزامًا على ولم أقصد بها سوى الاعتراف المكتوب العلنى بمكانك ومكانتك في جسد المسيح، وعلى تشجيع الكنائس والإخوة والأخوات على تكريم خدامهم ومرشديهم والاعتراف لهم في حياتهم بالأدوار التى لعبوها في حياتهم، شكرًا لك مرة أخرى والرب يباركك.
ربنا يباركه