حكايتي مع ترجمات الكتاب المقدس

38

العدد 174 الصادر في مارس 2020

حكايتي مع ترجمات الكتاب المقدس

     ما من شك أن المتابع لما يحدث اليوم حول الترجمات العربية المختلفة للكتاب المقدس، من محاورات واستفسارات واتهامات وتخمينات، يرى مدى ما وصلت إليه مسيحية كنيسة لاودكية التي نعيش في زمانها من انحطاط وانحلال وتخبط، ومدى ما وصلت إليه هذه الترجمات من غش وخداع متعمد لاحتواء معظمها على ما لا يوجد في النص الأصلي الموحى به من الله، واحتوائها على الأساليب والألفاظ، بل والتعاليم والإيمانيات والمعتقدات الإسلامية، بدعوى التقارب من المسلمين وتسهيل مهمة قراءتهم للكتاب المقدس، وتحت المبرر الشيطاني الكاذب بكتابة ما يمكن أن يفهموه بعقولهم الإسلامية التي هي أبعد ما تكون عن ما توارثه المسيحيون من حقائق إلهية كتابية، لكن الحقيقة هي أن ما يكتبون في أغلب ترجماتهم المختلفة للكتاب المقدس قائم على حساب ضياع حرفية النص الأصلي الموحى به من العليم الحكيم، وعدم الالتزام به. ومع أنني لست ضد الترجمات، كفكرة، مهما تعددت وكثرت أنواعها أو زاد الاحتياج إليها في هذه الأيام، ولست ضد تبسيط بعض المعاني لبعض الألفاظ والكلمات الواردة في بعض الترجمات العربية التي بين أيدينا ليسهل قراءتها وفهمها بواسطة الناطقين بالعربية بغض النظر عن خلفياتهم وأديانهم، لكن:

    ١- أن يعلو كل ما تقدم فوق الحفاظ على النص الحرفي للكتاب المقدس حسب ما أعلنه الله وحسب ما أوحى به – تبارك اسمه – لرسله وأنبيائه القديسين الذين كتبوا الكتاب، بعهديه القديم والجديد، مسوقين من الروح القدس، فهذا مرفوض تمامًا من ناحيتي شخصيًا وأثق أنه مرفوض من الغالبية الساحقة من المسيحيين سواء المؤمنين بالمسيح ربًا وسيدًا ومخلصًا، وحتى من المسيحيين الإسميين غير المؤمنين إيمانًا قلبيًا بالمسيح، أو حتى الملاحدة الذين لا يؤمنون بوجوده تعالى، مرفوض من كل أولئك الذين يستخدمون عقولهم بطريقة سليمة والذين يستخدمون المنطق البشري الصحيح، بغض النظر عن خلفياتهم ومعتقداتهم، ألا وهو ضرورة الحفاظ على حرفية ما كتب لنا في الوثائق والمخطوطات وأمهات الكتب، فكم وكم إذا كان الأمر يتعلق بكتاب الله الوحيد، أقدم الكتب الدينية التي عرفها التاريخ البشري أي التوراة والإنجيل.

    ٢- أرى أيضًا أن أمر صدور ترجمة غير دقيقة مرفوض، حتى من المفكرين المسلمين أنفسهم، بالرغم من إعطائهم نحن المسيحيين فرصة ذهبية، ودلائل واقعية ملموسة معاصرة لإثبات نظريتهم عن تحريف التوراة والإنجيل، الأمر الذي ما ملكوا يومًا دليلاً حقيقيًا ثابتًا على حدوثه، لكن السبب الذي يرفض لأجله عقلاؤهم صدور ترجمة غير دقيقة للكتاب المقدس هو لأنهم يرفضون رفضًا تامًا التغيير أو التبديل في كلمات الله، حسب فهمهم لما هي كلمات الله تبارك اسمه، فقد تربوا على أنه “لا مبدل لكلماته” و”إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” وغيرها من النصوص القرآنية التي يؤمنون بها دون مناقشة أو تفكير، وبناء عليه، فالمسلمون لا يقبلون حتى مناقشة فكرة ترجمة القرآن، ولذا فهم يصرون على تسمية الترجمات المختلفة للقرآن ويتعاملون معها على أنها ترجمات “لمعاني كلمات القرآن” وليست ترجمات للقرآن نفسه.

    ٣- الترجمات التي يدعى أصحابها أنها تبسط معاني الكلمات لغير المسيحيين تتجه في أغلب الأوقات لا لتبسيط المعاني، بل لزيادة المعاني والكلمات تعقيدًا، فالألفاظ لابد أنها مرتبطة بمعان ومفاهيم معينة في عقلية القارئ لأي لغة ما، ولذا فهي تؤدي في معظم الأوقات إلى لخبطة الأذهان ليس لغير المسيحيين فقط، بل للمسيحيين أيضًا، فعلى سبيل المثال، فإن كلمات مثل “الآب والابن والروح القدس” مرتبطة في عقلية المسلم بالأب (وليس الآب)، ومرتبطة أيضًا بعلاقة الأبوة والبنوة البشرية الإنسانية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يكتب بولس الرسول في افتتاحية رسالته إلى تيطس: “إلى تيطس الابن الصريح حسب الإيمان المشترك، نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والرب يسوع المسيح مخلصنا”، أما في ترجمة البيان الصريح، فجاءت: “وها أني أكتب إلى تيتوس، ابني الحقيقي في الإيمان الذي نشترك فيه جميعًا.

    السلام عليك والرحمة من الله أبينا الأحد الصمد، ومن سيدنا المسيح منجينا”. فمثل الآية السابقة وغيرها الكثير جدًا لا يمكن أن يفهمها المسلم، على أي وجه من الوجوه، إلا إذا فسرها أحد لهم كما يفسرون لهم كلمات القرآن، وما من شك في أن التبسيط الذي يخل بالمعنى الحقيقي للحقائق الإلهية المسيحية الموحى بها من الله ليس تبسيطًا، بل تعقيدًا وتحريفًا لكلمات الله، فهذه الكلمات الصعبة لا يمكن أن تفهم منهم إلا من خلال فهمهم للقرآن وتعبيراته وخلفياته وفي هذه الحالة، نكون قد خلطنا التعاليم والحقائق والتفاصيل في ذهن القارئ، ليس الإسلامي فقط بل المسيحي أيضًا، وخاصة إذا كان أولئك الذين نحاول تبسيط الكتاب المقدس لهم ليفهموه هم أصحاب كتاب وجد من أواخر القرن السادس الميلادي، وهو من الاستحالة بما كان أن يفهموه هم أنفسهم منذ قرون مضت أو أن يتدبروا كلماته دون مفسر وشارح، وقاموس للغة ومعانٍ للكلمات، ودون شرح لأسباب النزول كما يسمونها هم، ودون استخدام أحاديث صحيحة، قوية كانت أم ضعيفة، وغيرها من المصطلحات التي تستخدم لفهمهم لكتابهم، وبالرغم من كل ذلك فهم لايزالون يستخدمونه وينشرونه ويفسرونه للخليقة كلها، فكيف تفتقد أذهاننا نحن المسيحيين عن الإتيان بكل هذه الترجمات العجيبة في مدة الأربعين سنة الماضية؟، وكيف نرى أن ترجمة كتابنا واجبة إلى هذا الحد، وأنه لن يمكننا أن نفهم كتابنا المقدس إلا باستخدام هذه الترجمات والتي يمكن أن يطلق على أغلبها المتاهات وليست الترجمات، مع أن أقدم الترجمات العربية التي نعرفها نحن المسيحيين ونستخدمها إلى اليوم؟، ولا أتحدث هنا عن المخطوطات للكتاب الموجودة منذ بداية القرن الأول، إنما أتحدث عن الترجمة المعروفة بترجمة ڤانديك التي خرجت كاملة للنور في سنة 1880.

    ٤- ما هو دور الروح القدس في تبسيط الترجمة المعتمدة والمقبولة من الجميع؟، فهل تثقلنا بالنفوس ومحاولة توصيلنا الكلمة النبوية للخليقة كلها أصبح أكثر من تثقل الروح القدس بهم وهو المعلم الوحيد والأعظم بين الآلة المزيفة؟، وهل أخذ أولئك المترجمون من المسيحيين والعابرين المسلمين الأمر من الروح القدس لإصدار هذه الترجمات المختلفة؟، وهل أرشدهم الروح القدس لهذا الأسلوب الإسلامي الصوفي الواضح ولهذه الكلمات التي اختاروها من عندياتهم ووضعوها بديلاً لكلمات أصبحت جزءًا من النسيج المعرفي والحياتي الروحي للمؤمنين المسيحيين وللمطلعين من المسلمين أيضًا؟، أليس من حق الروح القدس ككاتب لكلمات الوحي، والذي أوحى بها لأناس الله القديسين، أليس من حقه تعالى أن يكتب ما يريد، كيفما يريد، وبأسلوبه هو تبارك اسمه، وليس بأسلوب المسيحيين أو المسلمين؟، فليعلم المصدرون لمثل هذه الترجمات، حتى المخلصين منهم، أن كتابتهم لما لم يعلنه الروح القدس واستبداله بكلمات أو تعبيرات، حتى بحسن نية، لتوصيل كلامه سبحانه للخليقة كلها سيقع تحت طائلة العقاب يوم الدين، فالكتاب هو كتاب الروح القدس، والوحي هو وحي الروح القدس، وإمكانية الدراسة والترجمة، للدارسين والمترجمين، هي من عطايا الروح القدس، والأموال المتواجدة بكثرة لطباعة مثل هذه الترجمات هي من  أموال وهبات الروح القدس، والنفوس التي تقرأ الترجمات هي نفوس الروح القدس الخالق، والتبكيت بالكلمة النبوية هو من عمل الروح القدس الذي يبكت العالم على خطية وعلى بر ودينونة، ولن يولد إنسان، مسيحي اسميًا كان أم مسلمًا إلا بأن يجذبه بالروح القدس إلى الآب السماوي بعمل وشفاعة المسيح يسوع الذي هو الطريق الوحيد للسماء، والحق الوحيد الذي يهدي الضالين في طريقهم إلى المدينة السماوية، وهو الحياة الذي بدونه صار الجميع أمواتًا بالذنوب والخطايا حتى إذا كانوا أحياء يمشون على الأرض بأقدامهم.

    أما حكايتي مع ترجمات الكتاب المقدس، فالهدف من سردها في هذا المقال ليس إلا:

    أ- حفظ ما تم بخصوص أول ترجمات الكتاب المقدس للغة العربية، للتاريخ، وللأجيال القادمة، والمعروفة بالترجمة الجديدة للعهد الجديد، والتي صدرت عن اتحاد جمعيات الكتاب المقدس بتاريخ ١٩٧٨ وابتدأ طرحها للقراء في ربيع ١٩٧٩ تلك الترجمة التي جاءت بعد ترجمة “ڤانديك” بمائة عام، والتي مازالت هي الترجمة التي يستخدمها الغالبية العظمى من المسيحيين.

    ب ـ إيضاح الطريقة التي كان يتعامل بها رجال الله الأمناء مع الترجمات الجديدة أمثال: الدكتور القس إلياس مقار، رئيس الطائفة الإنجيلية الأسبق، القس سامي لبيب، رئيس مجمع كنائس المسيح يومئذ، والأخ ناشد حنا، الممثل المعتمد لكنائس الإخوة البليموث بمصر يومئذ، والشيخ عزت عطية، رئيس جمعيات خلاص النفوس يومئذ، وآخرون كثيرون من القسوس والشيوخ والمؤمنين الغيورين الأتقياء بمصر.

    ج- توضيح مدى تأثير، وما يجب أن تعمله، البقية التقية حتى اليوم عندما تتحد معًا في الدفاع عن أبسط حقوق الله في الأرض الذي هو الحفاظ على صحة ودقة كلمته كما أوحى بها سبحانه وسلمها لعبيده الأنبياء والرسل بالروح القدس الساهر على كلمته ليحفظها ويجريها.

    وإليك عزيزي القارئ ما تم بالتفصيل الدقيق بهذا الشأن:

     صدرت تلك الترجمة مكتوب على غلافها:

    الكتاب المقدس

     العهد الجديد

     الترجمة العربية الجديدة

     من اللغة الأصلية

     اتحاد جمعيات الكتاب المقدس ١٩٧٨

    كان المترجم الحقيقي لهذه الترجمة هو الشاعر اللبناني “يوسف الخال”، الذي قال عنه القس عياد زخاري، في الندوة التي عقدت بتاريخ ١٨ نوفمبر ١٩٧٩ والعهدة على الراوي “يقولون إن يوسف الخال، ما كان يقوم بالترجمة إلا وهو سكران، فمن الواضح أنه خال مش نضيف”، إلى هنا تمت كلمات القس عياد زخاري.

     وقد عاونه في ترجمتها ومراجعتها “يومئذ” كل من الدكتور القس فهيم عزيز، أستاذ العهد الجديد بكلية اللاهوت الإنجيلية المشيخية بالقاهرة، والدكتور موريس تاوضروس، أستاذ العهد الجديد بالكلية الإكليريكية الأرثوذكسية، والمطران أنطونيوس نجيب، أستاذ العهد الجديد بالكنيسة الكاثوليكية.

   في ربيع ١٩٧٩ قامت دار الكتاب المقدس بمصر، التي كان يتولى إدارتها الدكتور القس عبد المسيح اسطفانوس، يومئذ، بتوزيع ٢٠٠ نسخة من هذه الترجمة لبعض القسوس والقادة ورؤساء المذاهب الإنجيلية في مصر، وطلبت من كل منهم أن يقوموا بمراجعتها وإبداء آرائهم فيما إذا كانت تصلح للطباعة والاستخدام كترجمة ثانية للعهد الجديد، بجوار الترجمة الوحيدة التي كانت مستخدمة في تلك الأيام وحتى يومنا هذا من جميع الطوائف المسيحية في مصر، والمعروفة بترجمة ڤانديك – البستاني. كان من الواضح أن المسؤولين عن “اتحاد جمعيات الكتاب المقدس” بمصر وخارجها يخشون من ردود أفعال القسوس والخدام والعامة من أن يروا فجأة تلك الترجمة في المكتبات المسيحية دون مقدمات لصدورها وتوزيعها، فحاولت دار الكتاب المقدس في مصر أن تخفف من وقعها عليهم بأن تقنعهم بأن هذه الترجمة فقط هي للمراجعة الأولية ولإبداء الرأي فيها.

    بمجرد وصول هذه الترجمة له، قام طيب الذكر الوالد الوقور ناشد حنا، بدراستها بالتدقيق وأصدر مذكرة تحتوي على ١٤٣ خطأ من أخطائها، وتم طباعتها وتوزيعها كملحق لمجلة “المراعي الخضراء” التي تصدر عن كنيسة الإخوة بمصر، كانت هذه الترجمة تحتوى على أخطاء لغوية، وأخطاء تعبيرية عن مضمون الكلمة الأصلية المترجمة للعربية، لكن أهم الأخطاء التي كانت بهذه الترجمة والتي ركز عليها الأخ ناشد حنا، هي الأخطاء اللاهوتية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، جاء بهذه الترجمة الجديدة مقارنة بترجمة ڤانديك:

   أف 5: 26

   (ڤانديك) “أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها، مطهرًا اياها بغسل الماء بالكلمة”.

 (الترجمة الجديدة) “ليقدسها ويطهرها بماء الاغتسال وبالكلمة”.

    ٢ كو ٥: ٢١

    (ڤانديك) “جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه”

 (الترجمة الجديدة) “لأنه جعل الذى ما عرف  الخطيئة يشاركنا فى خطيئتنا لنصير به أبرارًا عند الله”.

    مر 12: 29

    (ڤانديك) “فأجابه يسوع: “إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد”.

 (الترجمة الجديدة) “فأجاب يسوع: “الوصية الأولى: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا هو الرب الأحد”.

    يو 20: 26

    (ڤانديك) “وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضًا داخلاً وتوما معهم. فجاء يسوع والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط وقال: “سلام لكم!”.

    (الترجمة الجديدة) “وبعد ثمانية أيام اجتمع التلاميذ في البيت مرة أخرى، وتوما معهم، فجاء يسوع والأبواب مقفلة، ووقف بينهم وقال: “سلام عليكم”.

     كنت وقت صدور هذه الترجمة رئيسًا لتحرير مجلة “المطر المتأخر” التي كانت تصدر عن اجتماع شباب كنيسة المسيح بشبرا، وما أن قرأت مذكرة الأخ ناشد حنا، التي أصدرها عن الأخطاء الفادحة التي كانت في الترجمة الجديدة، إلا ولمعت في ذهني فكرة جريئة، تيقنت يومها، أنها أعطيت لي من القدير مباشرة، كانت الفكرة ستكون بمثابة خط الدفاع الأول ضد هذه الترجمة العربية الجديدة ومن الناحية الفنية الصحفية كانت سبقًا صحفيًا لم يحدث من قبل، وكنت على يقين أن هذه الفكرة ستأخذ مجلة المطر المتأخر من مجرد مجلة شباب صغيرة، لاجتماع شباب صغير، لكنيسة من مجمع صغير، إلى مجلة ستكون محط أنظار المسيحيين بمصر وموضوع حديث الرياسات الكنسية والقسوس والعامة في كل الطوائف المسيحية بمصر والوطن العربي، كانت الفكرة ببساطة أنني أذهب لمقابلة الدكتور القس عبد المسيح اسطفانوس، الدكتور القس إلياس مقار، والبابا شنودة الثالث، والأنبا اسطفانوس، القائم مقام بابا الكاثوليك بمصر وأجري معهم حديثًا صحفيًا حول تلك الترجمة الجديدة للعهد الجديد التي نحن بصددها، ثم أقوم بدعوة رؤساء الطوائف والمذاهب المسيحية مع بقية القسوس والمهتمين بأمر الدفاع عن كلمة الله في مصر ضد كل تبديل أو تحريف سواء أكان بقصد أو غير قصد أدعوهم جميعًا لاجتماع طارئ لمناقشة أمر هذه الترجمة وتقرير ما إذا كنا سنقبلها أم سنرفضها ككنائس وطوائف وشعب مسيحي مصري.

    من هنا بدأت رحلتي مع المقابلات الشخصية لرؤساء الكنائس الثلاث، الإنجيلية والأرثوذكسية والكاثوليكية.

    كنت يومها شابًا صغير السن حصلت على بكالوريوس طب الأسنان دفعة مايو ١٩٧٩ وهي نفس سنة توزيع الترجمة على القادة والقسوس لإبداء الرأي فيها. لذا كان لدي الوقت في الإجازة الصيفية لإتمام هذه المهمة العسيرة قبل بداية انشغالي وارتباطي بالوجود في المستشفيات لإنهاء سنة الامتياز. كانت أيام سني غربتي حينئذ ٢٤ سنة، والحق يقال إنني كنت قليل الخبرة في التعامل مع القسوس والمسؤولين الكنسيين على اختلاف طوائفهم مما صعب مهمة مقابلة هؤلاء الرؤساء الكبار وإليك ما حدث:

    توجهت إلى دار الكتاب المقدس وطلبت مقابلة الدكتور عبد المسيح اسطفانوس، مدير الدار يومئذ، سمح لي حضرته بمقابلته، سألني عن سبب زيارتي له، كنت واضحًا صريحًا معه، قلت سبب زيارتي لجنابك هو كتاب الترجمة العربية الجديدة، والحقيقة أنا رئيس تحرير مجلة المطر المتأخر الصادرة عن اجتماع الشباب بكنيسة المسيح، ناولته عدد المجلة الذي كان معي، سألني وقد بدا على جنابه أنه مهتم بعدد النسخ التي توزع من المجلة وأماكن توزيعها ومدى انتشارها بين الشباب. سألني، كم عدد النسخ التي تطبعونها وتوزعونها من هذه المجلة؟ قلت تقريبًا ٢٠٠ نسخة، وأين تقومون بتوزيعها؟ قلت في اجتماع الشباب الخاص بكنيستنا، بدا على جنابه الراحة وقبول فكرة الإدلاء بالحديث لي، والحقيقة قرأت في عينيه وكأنه مستخف بي وبالمجلة وبعدد قراءها القليل وقلة تأثيرها في المجتمع الكنسي وخاصة أن كنيسة المسيح كنيسة غير مشيخية، وللأمانة المسيحية أقول إن هذه قد تكون هي رؤيتي أنا للقاء مع جنابه، لكن بدا من الواضح أنه كان يجيب أسئلتي بلا تحفظ ودون أن يعرف ما سأعمله في الخطوة التالية لحصولي على حديثه معي. سألته ما هي أسباب صدور مثل هذه الترجمة؟ قال جنابه: لأن الكتاب الموجود في أيدينا له أكثر من مائة سنة تقريبًا وقد تغيرت بعض تعبيراته ولابد من تطور لغة الكتاب مع تطور لغة العصر، سألته هل من الممكن أن تعطني أمثلة لما تغير في لغتنا الحالية عن لغة كتاب العهد الجديد الذي بين أيدينا؟ أجاب سيادته: في سفر التكوين والأصحاح ٢٩ والعدد الأول يقول الكتاب عن يعقوب:

    “ثم رفع يعقوب رجليه وذهب إلى أرض بني المشرق”، وهذا التعبير قديم لا يستخدم الآن، فرفع يعقوب رجليه معناها أن يعقوب مشى متجهًا إلى….”.  قلت هل من أمثلة أخرى؟ قال: أيضًا في(1 كو 15: 54) يقول الكتاب: “ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد، ولبس هذا المائت عدم موت، فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة: «ابتلع الموت إلى غلبة». وأكمل، إن كلمة الفاسد المستخدمة هنا لها معنى أخلاقي وبالتالي لم تعد تعبر عن فساد الجسد وتحلله عندما يموت. سألته: حضرتك تعرف بالطبع أن الأخ ناشد حنا، قد أصدر مذكرة تضمنت ١٤٣ خطأ واردًا في هذه الترجمة، أجابني أعلم ذلك، قلت: الحقيقة الوالد ناشد حنا، حسب ما صرح هو، غير دارس للغة اليونانية المكتوب بها كتاب العهد الجديد، لذا لو أمكن أن تساعدني جنابك في التأكد مما ذكره الوالد ناشد حنا، في المذكرة بمراجعة بعض الآيات التي وردت فيها ومطابقتها بما جاء في النسخة اليونانية، قام جنابه من كرسيه واتجه ناحية مكتبه وقال أية آيات تريدني مراجعتها؟، قلت جاءت الآية الواردة في (أف 5: 26) (ڤانديك): “أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها، مطهرًا إياها بغسل الماء بالكلمة”.  لكنها جاءت في الترجمة الجديدة “ليقدسها ويطهرها بماء الاغتسال وبالكلمة”. وسؤالي لجنابك، هل الأصل اليوناني يذكر بماء الاغتسال والكلمة، أم بغسل الماء بالكلمة؟، وخاصة هل يوجد حرف الـ “و” بين غسل الماء وبين الكلمة أم أن هذا الحرف هو إضافة على النص الأصلي من المترجم؟ فتش الدكتور في كتابه وقال: الحقيقة لم يرد حرف الواو في النص اليوناني. قلت إذًا لماذا أضافه المترجم من عنده؟، ألا يعلم أن إضافة هذا الحرف معناه أن الماء والكلمة أصبحا شيئين وليس نفس الشيء؟، صمت جنابه.

     قلت راجع لي آية أخرى من فضلك، في(٢كو٥: ٢١) (ڤانديك) يقول الكتاب عن المسيح: “جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه”، أما في (الترجمة الجديدة)، فجاءت: “لأنه جعل الذى ما عرف  الخطيئة يشاركنا فى خطيئتنا لنصير به أبرارًا عند الله”. فهل أصل اللغة يذكر يشاركنا في خطيئتنا أم خطية لأجلنا؟ أجاب سيادته الأصح هو: “خطية لأجلنا”.

     قلت يقول الكتاب في (مر12: 29) (ڤانديك) فأجابه يسوع: “إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. أما في (الترجمة الجديدة)، فجاءت: “فأجاب يسوع: “الوصية الأولى: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا هو الرب الأحد. وسؤالي لحضرتك: هل الرب إلهنا هو أحد أم واحد؟، وهل يجوز لغويًا أن يقال عن الله المثلث الأقانيم إنه أحد؟، وكيف وردت في النص اليوناني؟، قال جنابه: جاءت رب واحد. قلت آخر آية سأسأل حضرتك عنها، في (يو 20: 26) (ڤانديك): “وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضًا داخلاً وتوما معهم. فجاء يسوع والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط وقال: “سلام لكم!”. أما في (الترجمة الجديدة)، فجاءت “وبعد ثمانية أيام اجتمع التلاميذ في البيت مرة أخرى، وتوما معهم، فجاء يسوع والأبواب مقفلة، ووقف بينهم وقال: “سلام عليكم”. فأيهما أصح؟، قال جنابه الأصح حسب اللغة العربية هي سلام عليكم، لكن بسبب البيئة التي نعيش فيها، فمن الأفضل أن يقال: “سلام لكم”.

    قلت لجنابه: سؤالي الأخير لك إن كنت على علم بكل هذه الأخطاء اللاهوتية في هذه الترجمة، فلماذا اشتركتم فيها، ولماذا جلبتموها من لبنان، ولماذا قمتم بتوزيعها على القادة والخدام؟؟، أجابني، هذه الترجمة صُدِّرت إلينا من جمعية دار الكتاب المقدس بلبنان ونحن في مصر لا نستطيع أن نرفض ترجمة ترد لنا من إدارة جمعيات الكتاب المقدس العالمية.

    شكرته كثيرًا على وقته ومساعدته لي في التعرف على صحة كلمات الكتاب الواردة في اليونانية وقبل الانصراف قلت له، سأقوم بعمل ندوة عن هذه الترجمة في اجتماع شباب كنيسة المسيح، فهل تتفضل بالحضور؟، قال سأحضر، أعطني خبر بميعاد الندوة وسأحضر. انصرفت إلى حال سبيلي.

    في اليوم التالي قررت أن أذهب لمقابلة الدكتور القس إلياس مقار، رئيس الطائفة الإنجيلية يومئذ، كنت أعلم أنه يسكن مع عائلته في شقته الملحقة بالكنيسة الإنجيلية بمصر الجديدة، لم يكن لدي أية وسيلة للاتصال به لأحصل على ميعاد منه لمقابلته، قررت أن أذهب وأقرع باب شقته وأسأله أن يعطني ميعادًا لمقابلته لأسمع رأيه في الترجمة العربية الجديدة وأدعوه أن يحضر ندوتي عنها، قرعت باب شقته، فتح الباب لي أحد أبنائه، سألته إن كان ممكنًا أن أتقابل مع والده جناب القسيس لعدة دقائق، قال سأعطيه خبرًا، تركني أمام الباب وانصرف، من الباب المفتوح رأيت عددًا غفيرًا من الناس يقفون معًا في صالة شقته، يتكلمون بعضهم مع بعض، فهمت من أصواتهم وتجمعاتهم أنهم يحتفلون بشيء ما، في خلال أقل من دقيقة واحدة، أتى القس إلياس ورحب بي وسألني عن سبب مجيئي، بدأت بالاعتذار لأنني جئت في وقت غير مناسب، وقلت له كل ما أريده أن أتقابل مع جنابك لمدة ١٥ دقيقة في أي يوم وأي مكان في الأسبوع القادم، سألني عن سبب المقابلة، قلت أريد إجراء حديثًا معك حول الترجمة العربية الجديدة، سألني من أين جئت؟، قلت من شبرا، قال من أي كنيسة أنت؟، قلت من كنيسة المسيح، هل عندك سيارة جئت بها؟، أجبته لا، جئت في المواصلات العامة، قال إذًا أنت جئت من شبرا في المواصلات العامة لتأخذ ميعادًا لمقابلتي وسترجع إلى شبرا وتأتي مرة أخرى؟، ثم أكمل: أهلاً بيك، صحيح أنا عندي عيد ميلاد ابني اليوم ولذلك، فأنت ترى هؤلاء الضيوف يحتفلون معه، لكن لن أدعك ترجع إلى شبرا وتأتي مرة أخرى، قلت: جناب القسيس أنا جئت في وقت غير مناسب، قال: أنت جئت في وقت طيب، تعال معي، ترك الرجل ضيوفه ودخل معي إلى غرفة الجلوس، أجريت معه الحديث وسألته إن كان موافقًا على صدور الترجمة العربية الجديدة؟ قال لم أوافق عليها، فهذه ترجمة مغرضة لكتاب العهد الجديد، سألته إذا ما كان على استعداد للحضور لندوتي عن هذه الترجمة، فأجاب نعم.

     بعد أيام قليلة ذهبت لمقابلة الأنبا اسطفانوس، القائم مقام البابوي الكاثوليكي، عندما دخلت إلى مبنى مكتبه، قابلني أحد موظفي المبني الخاص بالطائفة وسألني عن سبب حضوري، أجبته للحصول على ميعاد من الأنبا اسطفانوس لمقابلته، سألني، ما هو موضوع المقابلة؟، قلت لأخذ رأيه في ترجمة صدرت حديثًا للعهد الجديد واشترك في إخراجها من طرفكم المطران أنطونيوس نجيب، أدخلني الرجل إلى غرفة بها مكتب وكراسي كثيرة، انتظرت فيها لمقابلة أحد المسؤولين عن جدول مواعيد مقابلات المطران، بعد ما يقرب من عشر دقائق دخل الحجرة رجل قصير القامة يلبس لباس المطارنة الكاثوليك، على رأسه غطاء رأس طويل، قدم لي نفسه أنه الأنبا اسطفانوس، جلس على كرسي عال خلف المكتب ومع ذلك لم أر إلا رقبته ورأسه وغطاءها، وبادرني بسؤال عجيب قائلاً: ما هو سبب خلافك مع الأنبا أنطونيوس نجيب؟، قلت لا خلاف بيننا وأنا لم أقابله في حياتي، الأمر وما فيه أنه قام بالمساعدة في ترجمة العهد الجديد من اللغات الأصلية، لكن الترجمة تحتوي على أخطاء كثيرة ومن ضمنها أخطاء لاهوتية، لذا فقد جئت لأعرف رأيك في هذه الترجمة والأخطاء التي بها، نظر إليّ الرجل وكأنني جئت لزيارته من كوكب آخر من الفضاء البعيد وقال لي: “يمكنك أن تذهب إلى الأنبا أنطونيوس، وتقول له عن الأشياء التي لا تعجبك في الترجمة وهو يغيرها لك”. وقعت كلماته على رأسي كالصاعقة، أو كأن قطعة ثقيلة من الأسمنت المسلح قد ارتطمت بها وبعقلي، قلت لنفسي، أكيد أنا لم أسمع كلام هذا الرجل بطريقة صحيحة، فأعدت عليه السؤال وقلت، حضرتك أنا بتكلم عن أخطاء لاهوتية واردة في الترجمة التي اشترك فيها المطران أنطونيوس نجيب، قال أعرف أعرف، قلت لك اذهب وقابله وقل له على ما لا يعجبك في الترجمة وهو يصلحها لك، قلت بانفعال حضرتك شايف بالبساطة دي أن الموضوع بيني وبين الأنبا أنطونيوس، أنا أقول له على ما لا يعجبني في كتاب العهد الجديد وهو يغير لي في الإنجيل اللي مش عاجبني وينتهي الأمر، قال نعم، وقفت وأنا في قمة الاندهاش والانفعال قائلاً أشكرك، مع السلامة، قال مع السلامة.

خرجت من مكتب هذا الرجل أترنح من هول المفاجئة، كنت لا أدري هل اضحك على ما قاله سيادته لي، أم ابكي واصرخ الى الله أن يرحم امثاله من الجالسين على كراسي عالية ومرتفعة واذيالهم تملأ هياكلهم وهم لا يعلمون ماذا يفعلون.

    أما آخر مطاف مقابلاتي مع المسؤولين عن الكنيسة في مصر، فكان في الكاتدرائية المرقسية لمقابلة البابا شنودة. وكالعادة ذهبت بمفردي للحصول على ميعاد للمقابلة، في تلك الأيام حيث كنت صغيرًا، قليل الخبرة، لم أكن أستطيع أن أتعرف على البابا من ملابسه أو عمامته أو عصاه أو موكبه وعدد الملتفين حوله، فأنا لم أتربى في كنيسة أرثوذكسية. بينما كنت أتفرس في مباني الكاتدرائية وأنا واقف داخلها في ممر طويل جدًا، رأيت رجلاً يمسك بالعصاة السوداء المذهبة ذات الرأس العاجية البيضاء، يرتدي زي الكهنوت ويسير حوله مجموعة من رجال الأكليروس. أفسحت الطريق لموكبه ووقفت على جانب الطريق أتفرس فيه، وجدته ينظر تجاهي وكأنه يختلس النظرات لي مستعجبًا، لماذا لم أركض للسلام عليه، ومن عساي أكون، مر موكبه سريعًا دون أن اعرف من هو هذا. جاء أحد الرهبان واقترب مني، فسألته، أنا أريد أن التقي مع البابا شنودة، فما هي الخطوات التي يجب أن أتخذها للحصول على ميعاد للمقابلة؟، نظر إليّ الراهب بتعجب وقال: سيدنا لسه ماشي قدامك حالاً، ومعه الآباء الرهبان، لماذا لم تطلب منه المقابلة؟، قلت: أين هو؟، أشار الرجل بيده وقال لي أنت شايف الشخص الذي أمامك في منتصف هذه الجماعة والذي مر أمامك لتوه! قلت: نعم، قال هو ده البابا شنودة. قلت أنا متأسف ما أخدتش بالي، لكن الآن كيف أحصل على ميعاد مقابلته؟، قال لي: تعال له يوم الخميس صباحًا هذا يوم ميعاد مقابلاته أسبوعيًا مع كل من يريد مقابلته. شكرته وانصرفت إلى حال سبيلي، في اليوم الموعود الذي قال لي عنه الراهب ذهبت في التاسعة صباحًا متوجهًا لمبني الكاتدرائية بالعباسية، دخلت إلى غرفة طويلة بها ما لا يقل عن ٦٠ كرسي مرصوصة على شكل مستطيل ناقص ضلع، وفي قمة هذا المستطيل يوجد كرسي عال ومرتفع ومذهب عرفته بالفطنة أنه كرسي البابا شنودة، وبالطبع غير مسموح أن يجلس عليه أحد، كانت القاعة مكتظة بالناس، وهناك في آخر الغرفة الكبيرة يوجد باب يؤدي إلى المكتب الذي كان البابا شنودة يجتمع فيه بمن يريد مقابلته. بين الحين والآخر كان أحدهم يدخل الغرفة ثم يخرج بعد إنهاء المقابلة مع البابا، كان “الحاجب” الواقف على باب الغرفة والذي ينادي على الأسماء ويقتاد الناس داخلها للقاء مع غبطة البابا، كان أستاذًا في كلية التجارة جامعة القاهرة. لم أكن أتوقع أنني سأقابل البابا في ذلك اليوم بل كل ما كنت أريد أن أحصل عليه هو ميعاد للمقابلة، ولذلك لم أكن أرتدي بدلة ورباطًا للعنق استعدادًا للمقابلة، بل كنت أرتدي فانلة زرقاء وبنطلونًا أسود وفي يدي أعداد من مجلة المطر المتأخر ومذكرة الوالد ناشد حنا، كان من الواضح أنه ليس بالإمكان أن أحلم بلقاء غبطته في ذلك اليوم نظرًا لعدد المنتظرين المقابلة، والذين أتى بعضهم من مدن وقرى أقاصي الصعيد، انتهزت فرصة خروج الحاجب، أستاذ الجامعة، لينادي على من جاء دور مقابلته وتقدمت إليه وقدمت نفسي له، قلت أنا الدكتور ناجي يوسف، رئيس تحرير مجلة المطر المتأخر وأطمع في لقاء مع قداسة البابا، سألني ما: هو سبب المقابلة؟، قلت لإجراء حديث معه في مجلتنا، قال: هل معك كارت شخصي لإعطائه لقداسته؟، قلت: لا، والحقيقة لم أكن مستعدًا بكارت شخصي، فثقافة طباعة كارت شخصي للتعريف بالنفس لم تكن منتشرة في تلك الأيام، كان كبار رجال الأعمال فقط هم الذين يهتمون بتقديم الكارت الشخصي الخاص بهم في مثل هذه المقابلات، قال لي الرجل اكتب اسمك ووظيفتك في المجلة وسأعرضها على قداسته، قلت أشكرك، أخرجت ورقة وقلمًا وكتبت فيها: “الدكتور ناجي يوسف، رئيس تحرير مجلة المطر المتأخر. ويبدو أن كلمة دكتور ورئيس تحرير قد لفتت نظر البابا، فطلب من الحاجب أن يدخل بي إليه مباشرة بعد أن ينهي مقابلته القصيرة بمن كان معه. خرج الحاجب وقال لي، استعد أنت ستدخل لمقابلة سيدنا بعد أن يخرج الشخص الذي بالداخل. دقائق قليلة وخرج من بالداخل وأشار لي الحاجب بالدخول، والحقيقة لست أدري ما كان يدور برأس البابا عندما رآني شابًا صغيرًا، يلبس بنطلونًا وفانلة، ويمسك بيده مجموعة من المجلات، لكن استطعت أن أرى في عينيه أنه فوجئ بي وأنه كان ينتظر أن يرى رجلاً كبير السن في لباس مختلف عن ما كنت ألبسه أنا. لكن الحق يقال إنه عاملني بكل احترام، سألني عن سبب حضوري، فحدثته عن الترجمة العربية الجديدة وعن الأخطاء اللاهوتية التي بها وطلبت منه مراجعة تلك الأخطاء واتخاذ ما يراه مناسبًا من قرارات ضد هذه الترجمة، ضحك البابا وقال: أنت متخيل أني سأقرأ لك كتاب العهد الجديد كله الليلة لأستخرج لك الأخطاء الواردة بالترجمة، أجبته لا، أنا أحضرت لقداستكم مذكرة بالأخطاء الواردة في الترجمة، أعدها الوالد ناشد حنا، وتتضمن الآيات كما وردت في ترجمة ڤانديك التي بين أيدينا ونفس الآيات كما وردت في الترجمة الجديدة، كل ما أطمع فيه من غبطتكم أن تراجع الآيات الموجودة في الترجمة وأن تقارنها بما لدينا في الإنجيل الذي بين أيدينا، ثم سآتي لكم في الميعاد الذي تحدده لي لأعرف ردكم وقرارك حول هذه الترجمة، أخذ البابا مني المذكرة وشكرني وقال، أعدك أنني لن أنام الليلة إلا بعد أن أقوم بمراجعة الآيات كما وردت في الأصل اليوناني والترجمتين، ترجمة ڤانديك والترجمة الجديدة، ثم أكمل حديثه، يمكنك أن تأتي لمقابلتي غدًا الساعة العاشرة صباحًا لأعطيك رأيي في هذه الترجمة، شكرته كثيرًا وانصرفت غير مصدق أنه قضى معي هذا الوقت الذي لم يكن قد حجز من قبل، وتعجبت لاهتمامه الشديد بالأمر والسرعة التي تعامل بها بطلبه مقابلتي في اليوم التالي مباشرة ووعده بأنه لن ينام إلا بعد أن يكون قد أنجز المهمة.

    ذهبت في اليوم التالي إلى الكاتدرائية لمقابلته، ما أن دخلت إلى غرفة الانتظار الكبيرة المؤدية إلى مكتبه إلا ورأيت الدكتور القس عبد المسيح اسطفانوس، يجلس بالغرفة مع ثلاثة أشخاص أجانب يتكلمون الإنجليزية بجواره. ما أن رآني جنابه إلا وسألني: “ناجي لماذا جئت إلى هنا اليوم؟، أجبته: لنفس السبب الذي جئت لأجله إلى مكتب سيادتكم الأسبوع الماضي، لأجري حديثًا مع قداسة البابا حول الترجمة العربية الجديدة والأخطاء الواردة فيها، قال: وما دخل البابا في هذا الأمر، هذه الأشياء كان لابد أن تبقى بيننا ونحن الذين نتصرف فيها و. و. و. وبينما هو يتكلم فتح البابا شنودة باب مكتبه وما أن رآني ورأى الدكتور عبد المسيح، إلا وضحك ضحكته الشهيرة وقال: “يا محاسن الصدف، اجتمع الدكتوران الضدان معًا، الدكتور عبد المسيح، والدكتور ناجي، يا أهلاً وسهلاً بكما”. سلم البابا على كلينا وعلى الأجانب وبدأ حديثه مع الدكتور عبد المسيح سائلاً: ما هذا الذي فعلته يا دكتور في دار الكتاب المقدس؟، هل معقول أصدرتم ترجمة جديدة للعهد الجديد وتحتوى على كل هذه الأغلاط؟، لماذا فعلتم ذلك؟، ألا تعلمون أننا في مجتمع إسلامي يتهمنا بتحريف كتابنا؟ فهل تقدم لهم دار الكتاب الدليل على تحريفنا كتابنا كما يظنون؟ بدأت نبرة الحديث تحتد من البابا وبدا أن الدكتور عبد المسيح، كان يريد أن يتخلص من هذا الموقف، شعرت بحرج كثير، فالدكتور عبد المسيح، رجل الله بحق وهو قامة كبيرة بالنسبة لي أنا ذات الأربعة والعشرون ربيعًا، فتدخلت أنا قائلاً: “اسمح لي يا قداسة البابا بالخروج من الغرفة وانتظاركم خارجًا حتى تنتهوا من النقاش بينكم وبعدها سأرجع لمقابلتكم، أشار لي البابا بيده قائلاً: لا تخرج من الغرفة، اجلس مكانك أنت جزء من هذه القضية لأنك أنت الذي أعلمتني بها ولهذا قد جئت أنت اليوم لمقابلتي ومن محاسن الظروف أن نتقابل معًا ثلاثتنا، أجاب الدكتور عبد المسيح البابا على سؤاله الخاص بلماذا قمتم بالترجمة قائلاً: يا سيدنا الترجمة التي بين أيدينا أصبحت قديمة وقد تغيرت بعض الألفاظ والتعبيرات لمرور وقت طويل على إصدارها لذلك رأت جمعيات الكتاب المقدس أن تقوم بترجمة جديدة تتمشى مع العصر، قاطعه البابا قائلاً: “زي إيه التعبيرات اللي تغيرت في ترجمة ڤانديك؟”.  أجاب الدكتور عبد المسيح: زي الآية الواردة في (1 كو 15: 54) التي تقول: “ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد، ولبس هذا المائت عدم موت، فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة: «ابتلع الموت إلى غلبة»، فكلمة فاسد في هذه الأيام تدل على انحراف أخلاقي وهذا ليس المعنى المقصود من الآية، ضحك البابا ضحكته الطويلة وقال: يا دكتور عبد المسيح يعني لما نقول فسد الطبيخ أو فسدت الملوخية، هل يعني هذا أن الملوخية قد انحرفت أخلاقيًا؟، ثم في عبارات محددة صارمة قال البابا: يا دكتور أنت تعلم أن لدينا ترجمة قبطية أرثوذكسية للكتاب المقدس، وقد حاول الأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمي أن يجبرني على طباعتها واستخدامها بدلاً من ترجمتكم الإنجيلية، لكنني رفضت بكل شدة بسبب المجتمع الإسلامي الذي نعيش فيه، لكن في حالة أنكم ستصدرون ترجمة جديدة للكتاب المقدس، فستجبرونني على السماح بطباعة ترجمتنا، أنت تعلم يا دكتور أنه يمكنني “بجرة قلم” في مجلة الكرازة أن أعطي أمرًا للأرثوذكس أن يتوقفوا عن شراء الكتاب المقدس من دار كتابكم، وأنت تعلم جيدًا أن ٨٠% من مبيعاتكم من الكتاب المقدس تذهب للأرثوذكس وبالتالي إذا امتنعنا عن شراء الكتاب منكم، فستغلق أبواب داركم سريعًا. لم أنطق أنا ببنت شفة.

     كان الثلاثة رجال الأجانب المصاحبون للدكتور عبد المسيح يتنقلون بأعينهم بين شفاه البابا والدكتور، يشعرون بأن شيئًا ما خطيرًا يجري في هذه المناقشة لكنهم لا يفهمون شيئًا. أجاب الدكتور عبد المسيح البابا: نحن لم نأت يا سيدنا لمناقشة هذا الأمر والإخوة الأجانب لديهم ما يشاركونه مع قداستكم. وقف البابا على قدميه وأشار لي بيده وقال: “انتظرني أنت هنا حتى أنهي مقابلتي مع الدكتور عبد المسيح”.  قلت: “حاضر”. قام الرجال ودخلوا مكتب البابا وبقيت أنا وحدي في الغرفة الكبيرة إلى أن انصرفوا جميعًا إلى حال سبيلهم وخرج البابا شنودة وقال لي: تعال يا ناجي، عند دخولي مكتبه قال لي: الوقت الآن متأخر تحب تتغدى معي، ثم ضحك وقال: لكن أنت عارف أننا صايمين، فأكلك هيكون صيامي، قلت أشكرك جدًا على محبتك وكرمك، لكني لابد أن أنصرف، لكن قبل أن أنصرف لي طلب عندك، قال ما هو طلبك؟، قلت سأعقد ندوة حول هذا الموضوع في كنيسة المسيح بشبرا، فهل يمكن أن تتفضل بحضورها وإلقاء كلمة تعبر فيها عن رأيك تجاه هذه الترجمة وتعلن للحاضرين أنك ضدها؟، ضحك من قلبه وقال: يا ناجي عايز البابا شنودة الأرثوذكسي يروح يحضر ندوة في كنيسة إنجيلية بشبرا؟، قلت وليه لأ؟، قال على الأقل بمجرد أن يعرف الأرثوذكس أنني سأزور كنيستكم سيملؤون شارع الترعة من أوله بأقواس النصر والفراشة وسيهجمون على كنيستكم، فلن تجدوا أنتم أنفسكم مكانًا لحضور الندوة، قلت معك حق، أنا لم أفكر في ذلك، فهل تتفضل أن تكتب لنا رأيك في خطاب أقوم بقراءته في الندوة باسمك؟، قال لا مانع عندي، وانتهى الأمر بكتابة رأي غبطته وقد قمت أنا بقراءته نيابة عنه في الندوة التي عقدت في كنيسة المسيح بشبرا وقد طالب البابا بإيقاف استيراد وتوزيع تلك الترجمة ومنع دار الكتاب المقدس من التعامل معها بأي شكل من الأشكال.

    في كلمتي التى القيتها في تلك الندوة خاطبت الدكتور عبد المسيح بالقول: “في لقائنا معًا في مكتبكم كان سؤالي الأخير لك إن كنت على علم بكل هذه الأخطاء اللاهوتية في هذه الترجمة، فلماذا اشتركتم فيها، ولماذا جلبتموها من لبنان، ولماذا قمتم بتوزيعها على القادة والخدام، أجبتني سيادتكم بأن، هذه الترجمة صُدِّرت إلينا من جمعية دار الكتاب المقدس بلبنان، ونحن في مصر لا نستطيع ان نرفض ترجمة ترد لنا من إدارة جمعيات الكتاب المقدس العالمية. وللآن لا أعرف لماذا لا تستطيعون أن تقولوا لا لترجمة ترد لكم من إدارة جمعيات الكتاب المقدس العالمية لكني اعرف فتية ثلاث قالوا لملك ملوك أرضي في ذلك الزمان: “يا نبوخذنصر، لا يلزمنا ان نجيبك عن هذا الأمر، هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من آتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك”.

    بعد شهر من الزمان جاءت شخصية أمريكية كبيرة مسؤولة عن دار الكتاب المقدس بأمريكا وعقد اجتماع بمقر دار الكتاب بشارع الجمهورية بمصر بحضور عدد من القادة المسيحيين في ذلك الوقت، تم دعوة القس سامي لبيب، إلى ذلك الاجتماع، أصر القس سامي، على اصطحابي معه، في الاجتماع سألنا المسؤول الأمريكي: لماذا ترفضون الترجمة العربية الحديثة للكتاب المقدس؟، شرحنا له الأسباب اللاهوتية والبيئية والمجتمعية وقام القس سامي لبيب، بقراءة الخطاب الذي كان قد أعده لتقديمه للأخ الأمريكاني حول عدم حاجتنا إلى هذه الترجمة الجديدة  ولا لغيرها في ذلك الوقت نظرًا للظروف التي كانت مصر تمر بها أيام ولاية الرئيس المؤمن الذي صرح في إحدى خطبه أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة وتعهد أمام مؤتمر الدول الإسلامية أنه سيمحو المسيحية من مصر في غضون عشرة أعوام من تاريخ خطابه. والذي مات في غضون شهور قليلة بعد التعهد بهذا الأمر على يدي جنوده ورجال جيشه أشر ما تكون الميتات.

     وسؤالي هو: أين هم الأمناء، البقية التقية التي لم تحن ركبة لبعل؟، لماذا لا يهبون واقفين في وجه المترجمين ومصيغي اللغة الذين يتعدون حدودهم في الالتزام بدقة وأمانة ترجمة الأصل اليوناني للعربية؟، ومع علمي أن هناك الكثيرين الذين يدافعون عن كلمة الله المدونة ضد كل ما هو ليس موحى به منه تبارك اسمه، إلا أنني مازلت في اندهاش من أمر رؤساء الطوائف والمجالس الملية ومجلس الكنائس المصرية الموحد، لماذا لا يكون لهم مجتمعين موقف حازم صارم معلن بكل صراحة ضد الترجمات الجديدة غير الدقيقة في الترجمة وفي الأسلوب وخاصة الصوفية منها؟، فإذا كان هناك، في قديم الزمان، شاب واحد استطاع أن يبذل الغالي والنفيس من وقت ومال وسهر لليالي حتى يوحد آراء المؤمنين ضد ترجمة ما، وقد نجح في لم شمل أناس الله القديسين من الثلاث طوائف المسيحية ضد الترجمة العربية الجديدة وإيقاف تداولها بالفعل في مصر، يوم لم تكن هناك وسائل التواصل الاجتماعي موجودة في العالم، فلماذا لم نسمع عن موقف موحد من الرياسات الكنسية ومن المؤمنين الحقيقيين ضد هذه الترجمات سيئة السمعة؟

     في النهاية، يتبقى هناك عدة أسئلة حول أمر الترجمات لا إجابة عليها إلا بعد بحثها مع المسؤولين عن دار الكتاب المقدس المصري والعالمي، فمع علمي الشديد وتقديري للدور الذي قام ويقوم به دار الكتاب المقدس، ومع علمي أنه ليس هو المسؤول الأول عن ظهور تلك الترجمات، لكنني أرى أنه هو الذي فتح الباب أمام ترجمات أخرى بعد الترجمة العربية الجديدة، فدخل من هذا الباب المفتوح أرواح التدين، والغش، والكبرياء، والضلال والكذب، بل وروح ضد المسيح لتجتمع معًا ولتملي إرادتها على المترجمين وترجماتهم، فيتجنبون كلمات بعينها كالآب، والابن وغيرها الكثير مما لا مجال لذكره في هذا المقام، وستظل هذه الأسئلة حائرة في رأسي دون جواب والتي منها:

    أ- ألا يعتبر تهاون دار الكتاب المقدس من أربعين سنة وتساهلها مع دخول ترجمة تحتوى على كل تلك الأخطاء فتحًا لباب الترجمات المغرضة الشريفة منها وغير الشريفة؟

    ب ـ ما هو الدور الذي لعبته دور الكتاب المقدس بالوطن العربي وما هي العلاقة بينها وبين مترجمي الإصدارات الصوفية المختلفة للعهد الجديد؟

    ج ـ هل يراجع دار الكتاب المقدس المصري الترجمات المختلفة للكتاب فور صدورها ويرفض التعامل معها ومع مترجميها في حالة وجود أخطاء لاهوتية بها وهل يعلن عن موقفه بوضوح إذا كان مع أو ضد هذه الترجمات؟؟

    د ـ هل يقوم دار الكتاب المقدس ببيع الترجمات الصوفية والمختلف عليها والتي ثبتت عدم صحتها أو دقتها؟ هل تعرض هذه الكتب في منافذ توزيعها أم تعلن بوضوح عن مقاطعتها ورفض بيعها للعامة؟

    هـ- هل الهيئات المسؤولة عن ترجمة الكتاب المقدس والتي تثبت إدانتها لعدم دقتها تعمل من داخل مصر أم من خارجها؟، وإن كانت من داخل مصر، فمن هم المسؤولون عن هذه الترجمات؟، لأي طائفة ينتمون، ولأي هيئات يعملون، وما هي الأهداف التي يريدون تحقيقها؟؟

وـ ألا ينبغي أن يضع دار الكتاب المقدس، على الأقل المصري فقط، مستوى معينًا وشروطًا واضحة وموازين ثابتة تمتحن بها كل ترجمة قبل صدورها، وفي حالة إصدارها يمارس المسؤولون عن دار الكتاب حقهم في عدم الاعتراف بترجمة ما دون أن تلزم منتجيها على تصليحها أو تركها، وإذا لم يوافق المسؤولون عن الترجمة على تصليحها، يعلن دار الكتاب بوضوح عن عدم مسؤوليته عن هذه الترجمة والخطوات العملية التي اتخذت تجاه هذه الترجمة أو تلك وتجاه المسؤولون عنها؟

    لقد دافعنا، القس سامي لبيب، وأنا، والوالد ناشد حنا، وعدد كبير من القسوس والقادة والشعب المسيح عن كلمة الله في وقت صدور هذه الترجمة العربية الجديدة، واستطعنا بقوة عمل الروح القدس الذي أقام يسوع من الأموات أن نوقف سريانها في مصر وتأثيرها الذي كان من الممكن أن يكون مدمرًا على الكثير من البسطاء شعب المسيح في مصر والعالم العربي.

    وإليك – عزيزي القارئ – الخطاب الذي قمت بنشره في مجلة “المطر المتأخر” تحت عنوان “لمن تترجمون الكتاب؟” والذي وجهه الراحل القس سامي لبيب في نهاية سنة ١٩٧٩ للمسؤولين الأجانب والمصريين عن دار الكتاب المقدس.

    عند لقاءنا بهم بعد الندوة سابقة الذكر، كتبت:

    لمن …. تترجمون الكتاب؟

    سؤال يحتاج إلى إجابة حازمة من كل مؤمن ومسيحي في مصر، فبعد أن تمجد الرب في إيقاف استيراد الترجمة العربية الجديدة للعهد الجديد، بقي سؤال ملح أمامنا للإجابة عليه، هل نحن حقًا بحاجة إلى ترجمة عربية جديدة للعهد الجديد أو الكتاب المقدس؟

     وللإجابة على هذا السؤال، ننقل لكم خطابات وصلتنا. منها ما سلمه جناب القس سامي لبيب، راعي الكنيسة الرسولية بقبة الهواء للدكتور عبد المسيح اسطفانوس، مدير دار الكتاب المقدس بمصر، يعبر فيه عن رأيه وينضم إليه الكثيرون من رجال الله الأتقياء وكبار علماء اللاهوت  بمصر، مؤيدين لهذا الخطاب الذي جاء فيه:

السيد الدكتور/ القس عبد المسيح اسطفانوس مدير دار الكتاب المقدس بالقاهرة…

    تحية في اسم الرب يسوع المسيح وبعد…

    بالإشارة إلى الترجمة العربية الحديثة، التي صدرت مؤخرًا للعهد الجديد، الذي أحدث في بلادنا، وفي كثير من البلدان العربية موجة من الأسف. أتشرف بأن أضع أمام سيادتكم الآتي:

    ١- قد لمستم سيادتكم بنفسكم في الندوة التي أقامتها مجلة “المطر المتأخر” في8/ 11/ 1979 كيف أثارت هذه الترجمة الاستياء من المسيحيين في بلادنا على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، ولا سيما لما احتوته من أخطاء لاهوتية وصلت إلى حد التجديف، وقد زاد من ألم الجميع أن دار الكتاب المقدس في مصر قد اشتركت في توزيعها.

     ٢- ورد على لسان سيادتكم، وكذا الدكتور موريس تاوضروس، والدكتور فهيم عزيز، أن الحاجة ماسة إلى صدور ترجمة جديدة خالية من الأخطاء اللاهوتية التي وردت بالترجمة الأخيرة هذه، ولكنها في الوقت نفسه تغير من العبارات التي أصبحت الآن غير مفهومة لتطور اللغة، وأني أرجو وألح في الرجاء أن هذا لا يكون، وليس هذا من باب التعصب للقديم، ولكن الأمانة للكتاب تدعو إلى ذلك، فمعروف أن لكل عصر أسلوبه، وهذا الكتاب كتب أصلاً في عصور قديمة وبمقدار ما تظهر ملامح العصر الذي كتب فيه أصلاً وبمقدار ما تظهر هذه الملامح في الترجمة بمقدار ما يجد فيها الناقد دليلاً على قدم هذا الكتاب، وبالتالي على أنه صادر عن كاتبه المنسوب إليه، لكن ماذا يقول الناقد لو وجد هذه العبارة التي ترجمت في بعض الترجمات الإنجليزية “Doctors of Law” بدلاً من كلمة “الناموسيين”؟، لابد يعتقد أن هذا الكتاب زائف لأنه في عصر كتابة العهد الجديد لم يكن هناك دكاترة في الشريعة، وكما قال أحد خطباء الندوة (الشيخ عزت عطية، رئيس جمعيات خلاص النفوس بجمهورية مصر العربية) إن هناك فرقًا بين الأسلوب واللغة، فيا ليتنا نبقى على أسلوب الكتاب، إننا في محاولتنا المزعومة أن نزيده جمالاً سنشوه من جماله.

     ٣- إن المحاولة في إيجاد ترجمة جديدة موحدة للكتاب المقدس ينتظرها خطر كبير ينبغي أن يعمل حسابه. هذا الخطر يأتي من ضعف نتعرض له جميعًا وهو الرغبة في جعل النص محققًا لما نعتقده أنه الحق، وهذا قد يجرنا إلى شر من اثنين، الأول إما من باب مجاملتنا بعضنا لبعض تتسرب المعتقدات إلى الكتاب فتشوه نقاوته، وإما أن تحدث بين صفوفنا التفرقة، ونحن في غنى عن كل ذلك، ويكفينا سعادة أن الكتاب المترجم والمستعمل منذ أكثر من ١٠٠ عام تقبله الغالبية من المسيحيين، مع اختلاف طوائفهم ويستعملونه، أوليس من الحكمة عدم تعرض هذه الوحدة لتجربة قد لا نجتازها بسلام.

     ٤- قيل إنه من الواجب تبسيط الكتاب ليفهمه الجميع. إن الكتاب كان وسيكون دائمًا به ما لا يستطيع القارئ العادي أن يفهمه إن لم يرشده أحد. وكذا كان الكتاب في يد الخصي الحبشي، والحمد لله وجد من شرحه له، وكان سبب تجديد لذلك الوزير الحبشي، كما كان على مدى العصور، وسيكون إلى الأبد، فحكمة المؤلف الإلهي هو أن يحوي الكثير مما يفهمه الواحد لنفسه، ويبقى البعض منه لا يفهم إلا بين المعلم وتلميذه، أي أنه كتاب الفرد في خلوته، وكتاب الفصل الدراسي في مدرسة الأحد والكنيسة وكلية اللاهوت، والأب وأولاده، والله يقر هذه الصِلات ويجعل منها بركة للمجتمع المسيحي.

     تبذل دار الكتاب مجهودًا مشكورًا لتجعل الكتاب مفهومًا ونافعًا لذهن القارئ فيما تصدره من قراءات يومية، وكتاب الغذاء الروحي، كما تعمل الكنائس أيضًا في خدمة درس الكتاب الأسبوعية والخدمات المختلطة والراغب في الفهم سيجد السبيل إلى ذلك، إن مصيبة العصر ليس أن الكتاب غير مفهوم، بل بأنه غير مقروء، ولعدم قراءته أسباب كثيرة خارجة عن الكتاب نفسه، وكامنة أيضًا في طبيعة الإنسان، وواجبنا هو أن نوجه جهودنا إلى أن نكسب الناس الى المسيح فيجدوا لذتهم في الكتاب. كما نساعد المؤمنين ونحثهم على أن يجدوا المسيح في الكتاب غذاء لنفوسهم كما حث المسيح ورسله الناس على التفتيش في الكتب على الدوام.

    ٦- إن القول بأن الكتاب غير مقروء لأنه غير مفهوم هو قول غير صائب.

    أولاً: لأن الكثيرين من كل الأعمار يقرأون الكتاب ويستفيدون منه روحيًا وذهنيًا.

    ثانيًا: لأن الطالب الراغب في الاستفادة يقرأ كتبًا علمية عسرة الفهم ويجد صعوبة في ذلك يتغلب عليها بجهده، فلا يلبث حتى يتعلمها بل ويصير في مجالاتها معلمًا بل وأستاذًا.

    ثالثًا: إن علماء الدين، ومثلهم علماء الوعظ أيضًا ينصحون الكاتب والواعظ منا أن لا يكون أسلوبه دائمًا سهلاً للغاية، بل أن يورد بين الحين والآخر ما به بعض الصعوبة، ففي ذلك إثارة للانتباه ودفعًا للملل ومصدرًا للذة أيضًا.

    ٧- هذا الكتاب له عشرات السنين، على ترجمته الحالية، بين أيدي الدارسين والشارحين ويجدونه نبعًا للتعزية والإرشاد، قويًا وحيًا، يفرض احترامه والثقة به على الجميع، ووراءه مؤلفه الإلهي يرشد كل دارس منا متواضع، فهو سلاح مجرب ليس نظيره.

     ٨- لا بأس من أن يُعمل ملحق للطبعة القديمة، أقصد الترجمة القديمة تفسيرًا وتوضيحًا لما يجد العلماء من بعض أشياء غامضة على القارئ العادي بسبب اللغة.

     ٩- إن المسألة يا سيدي خطيرة وتحتاج إلى التبصر، وأنت الرجل المعروف في كل البلاد بالأمانة على ما وضعت فيه من مسؤولية،

     سيدي وسائر زملائك في دار الكتاب، أرجوكم، بل يرجونكم ملايين المسيحيين في مصر وغيرها، ابقوا على حال الكتاب يزيد الله حياتكم جمالاً وبركة أمين.

أحد صغار خدام الرب

    القس/ سامي لبيب

    إلى هنا تمت كلمات الخطاب التي كتبها القس سامي لبيب.

لخلاصك، انتظرت يا رب.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا