من محمد عبده إلى تولستوى في 18 أبريل 1904: أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نحرم التعارف بروحك. سطع علينا نور من أفكارك وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك. ألَفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها ووفقك على الغاية التي هدى البشر إليها فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل ولئن تكن ثمرته تعبًا ترتاح به نفسه وسعيًا يبقى ويرقى به جنسه. وشعرت بالشفاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سُنة الفطرة واستعملوا قواهم التي لم يُمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم وزعرع طمأنينتهم.
نظرت نظرةً في الدين مزَقت حُجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه. فكما كنت بقولك هاديًا للعقول كنت بعملك حاثًا للعزائم والهمم. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون كان مثالك في العمل إمامًا يهتدي به المسترشدون. وكما كان وجودك توبيخًا من الله للأغنياء كان مددًا من عنايته للفقراء. وإن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي سموه بالحرمان والإبعاد. فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم وأعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم: هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك. وإنا لنسأل الله أن يمد في حياتك ويحفظ عليك قولك ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول ويسوق النفوس إلى الاقتداء بك فيما نعمل والسلام.
مفتي الديار المصرية محمد عبده.
إذا تفضل الحكيم بالجواب فليكن باللغة الفرنسوية فإني لا أعرف من اللغات الأجنبية سواها.
الرسالة الثانية:
من رد تولستوي إلى محمد عبده فى 12 مايو 1904: صديقي العزيز:
تلقيت خطابك الكريم. وها أنذا أسارع في الرد عليه مؤكدًا امتناني الكبير من هذا الخطاب الذي أتاح لي الاتصال برجل مستنير رغم اختلاف عقيدته عن العقيدة التي نشأت عليها وتربيت، ولكن من نفس الديانة حيث إن العقائد تختلف وتكثر ولكن ليس هناك سوى دين واحد وهو دين الحق. آمل ألا أكون قد أخطأت إذا افترضت من واقع خطابك أن الدين الذي أؤمن به هو دينك الذي يرتكز على الاعتراف بالله وشريعته في حب الغير، وأن نتمنى للغير ما نتمناه لأنفسنا. وأعتقد أن جميع المبادئ الدينية تندرج تحت هذا المبدأ كاليهودية والبرهمية والبوذية والمسيحيين والمحمديين.
وأعتقد أنه كلما ازدادت العقائد في الأديان وامتلأت بالمعجزات ساعدت على تفرقة البشر وخلقت العداوات. وعلى العكس كلما كانت الأديان بسيطة اقتربت من هدفها المثالي وهو وحدة الناس جميعًا. وهذا ما جعلني أقدر خطابك وأود استمرار اتصالي بك. ما رأيك في عقيدة الباب ومذهب بهاء الله وأنصاره؟ وتقبل مني يا عزيزي المفتي محمد عبده كل التقدير والاحترام. ليون تولستوي 12 مايو 1904.
إلا أن هذه الرسالة قد اختفت بمجرد وصولها إلى القاهرة. ولهذا فإن الرسالة المنشورة هي صورة من الأصل وقد عثرت عليها عندما زرت متحف تولستوي في عام 1969وكان ذلك أثناء وجودي في جامعة موسكو أستاذًا زائرًا.
الرسالة الثالثة:
من كوكوريل إلى تولستوي في 29 يونيو 1906. سيدي: إن الحكيم الطيب الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية الذي كنت قد أرسلت إليك رسالته منذ سنتين قد مات وهو فى طريقه إلى أوروبا في العام الماضي. وليس من أحد بقادر على أن يحل محله في تمثل نظريته المتسامحة وفي مواصلة جهده الذي يمكن إيجازه في أنه يؤدي لدينه ما تؤديه أنت لدينك، أي تنقيته من سوء الفهم وسخف الاعتقاد، أي أنه بموت محمد عبده ينتهي الإصلاح الديني في مصر. مع وافر الاحترام.. سدني كوكوريل.
وكوكوريل هو صديق للطرفين وقد ارتأى أن ثمة تماثلًا بينهما إذ إن كلًا منهما كان موضع اضطهاد من السلطة الدينية. ومن شأن هذا التماثل توليد تماثلات أخرى من شأنها تخصيب الفكر الإنساني. أظن أن كوكوريل كان محقًا فيما ارتآه من أن الإصلاح الديني قد انتهى بموت محمد عبده وظل كذلك لمدة مائة عام وتسع سنوات إلى أن جاء الرئيس عبدالفتاح السيسي وقال في الخطاب الذي ألقاه في 8/6/2014 بمناسبة تنصيبه رئيسًا للجمهورية: يجب تجديد الخطاب الديني. وظل يردد هذا القول إلى الآن..
وتأسيسًا على ذلك كله ثمة سؤال يلزم أن يثار: هل نحن في حاجة إلى استعادة مغزى الرسائل الثلاث أم نحن فى حاجة إلى ثلاثية مغايرة؟.