تعددت الأسباب والنتيجة صفر!

13

العدد 120 الصادر في سبتمبر 2015
تعددت الأسباب والنتيجة صفر!

    يبدو أننا في مصر قد أدمنا المشاكل والفرقعات في شتى المجالات، فلا يمكننا أن نحيا دون مصيبة تنزل على رؤوسنا أو تصريح من قائد يخجل منه أولاد أولادنا أو قطار مسرع يعبر منزلقًا داهسًا أكبر عدد من المارة وكأن سائقه هو الشيطان بعينه. والعجيب أن البعض ينظر للمآسي والمصائب والفرقعات على أنها مفيدة، فالصحافة والإعلام يعيش في كل بلاد الدنيا على أخبار الحوادث. والقلاقل والمصائب طبيعية كانت أو إنسانية مفتعلة. وممولوا السلاح يجدون رواجًا لبضاعاتهم في الحروب، والحكومات تجدها فرصة لإلهاء الناس في أي شئ بعيدًا عن حقيقة الأمور وما يطبخ في المطبخ السياسي، ورجال الدين يجدون موضوعات وموادًا للوعظ والإرشاد والهجوم وهو كله مستفيد وستسير القافلة والحمد لله، ويبدو أنه من المستحيل أن نفكر في المصيبة قبل وقوعها ولا حل لمشكلة قبل حدوثها، فكل ما نفعل إنما هو “ردود أفعال” وليست أفعالاً، فلا عجب أن ما يحدث في مصرنا الحبيبة دائمًا مبتكرًا جديدًا لم يحدث في بلد قبلنا وغريبًا لم تسمع به آذاننا أو تراه عيون خلق كعيوننا، والحقيقة لست أقصد أن ما يجري في مصر من أحداث وأقوال وأفعال لا يمكن أن يحدث في غيرها، لكنه دائمًا يحمل البصمة المصرية المضحكة المبكية.

    تتزاحم في رأسى العديد من المواقف والأحداث والقصص التى تؤكد ما أقول ولا أريد أن أبدأ في سرد أقلها، فلن تكفي صفحات جريدة الطريق وعشرات مثلها من تدوينها. أليس من المؤسف المبكي أن يحصل طالب أو طالبة، مهما كان مستواه أو مستواها العلمي متدنيًا، على صفر في امتحان للثانوية العامة، حتى لو تركت ورقة الإجابة فارغة دون تدوين كلمة واحدة؟!، فإذا وجدت ورقة إجابة فارغة، لا بد من الإبلاغ عنها بكلمات محددة تقول إن ورقة الإجابة وجدت فارغة، أما الصفر فيمكن أن يشرح أن الطالب أجاب إجابة لا علاقة لها بالسؤال، فمن المعتاد في البلاد التى تهتم بمستوى أولادها العلمي أنه في حالة حصول أحدهم على درجة الصفر، الذي لم أسمع أنه حدث من قبل حتى لو تغيب الطالب عن الامتحان، يتم التأكد من سبب الحصول على هذه الدرجة بطرق مختلفة قبل الإعلان عنها، وفي حالة الإعلان عن حصول الطالب على صفر تبدأ المدرسة أو الكلية أو المعهد الدراسى بالتحقيق أولاً مع كل من تعامل مع أوراق هذا الطالب، قبل الإعلان عن نتيجته، وفي حالة الإعلان على نتيجة حصول الطالب على صفر دون وجه حق، فلا بد للطالب أن يعوض ماديًا ونفسيًا وعصبيًا واجتماعيًا من ناحية كل من اشترك في وقوع هذه المصيبة، ويكون هناك قوانين واضحة ومفهومة ومقاييس ومعايير ومنطق في التعامل مع مثل هذه الحالة. لكن من الواضح أنه ليس هناك منطق أو قوانين محددة تحكم التعامل مع مثل هذه الأخطاء في مصر، البلد الوحيد على ما أعرف الذي فيه يعطونك صفرًا وعليك أن تثبت براءتك من الصفر، وإذا تمكنت من إثبات برائتك منه، فلا تعوض عن خسارتك، بل عليك أن تحمد الله إنهم اقتنعوا أنك برئ من هذا الصفر وعليك أن تدخل الامتحان مرة أخرى وتحمد الله أنهم سمحوا لك بدخوله “وأهو خيرها في غيرها”. ولا فرق في المعاملة بين أن تحصل على صفر أو أن تكون الأول على دفعتك، فالقوانين المطبقة في الحالتين لا يعرف أحد الحكمة من تطبيقها، ذكرني حادث حصول مريم على صفر عندما حصلت أنا على دبلوم الدراسات العليا في الصحافة بتقدير عام جيد جدًا وكان ترتيبى الأول على دفعتي، ذهبت لأرى الأوراق التى علقت على  لوحة الإعلانات والتى تحمل النتيجة،كان اسمي مكتوبًا أول الأسماء في أول كشف من كشوف النتيجة وقد كتب أمام اسمي، ناجي يوسف عطية الأول، بالطبع كانت فرحتى غامرة لحصولي على المركز الأول في دبلوم الدراسات العليا، كنت يومها أعد أوراقي للذهاب إلى أمريكا، ذهبت إلى شؤون الطلبة وسألتهم إن كان بإمكاني الحصول على شهادة بالمواد والساعات التى درستها والتقديرات التى حصلت عليها في كل مادة، أجابت موظفة شؤون الطلبة بالإيجاب ثم سألتها، إن كان ممكنًا أن تذكر في الشهادة أنني الأول على دفعتي، نظرت إليَّ الموظفة بتعجب وسألتني: “مين قال لحضرتك إنك الأول؟”، أجبت ببراءة الأطفال: “النتيجة يا أفندم، ورقة النتيجة مكتوب بها اسمي ناجي يوسف عطية وبجوار اسمي مكتوب كلمة “الأول”، واصلت الموظفة تعبيرها عن دهشتها وقالت لي مستنكرة: “مكتوب كلمة الأول أمام اسمك”؟ قلت: نعم صدقينى، نظرت إليَّ بتوجس وكأننى كذاب وأبو الكذاب وأرادت أن تنهي النقاش، فقالت: “متأسفين ما نقدرش نكتب قدام اسمك الأول!”، قلت: “ليه يا مدام؟”، قالت: “اللوائح والتعليمات يا أستاذ”، عبثًا حاولت أن أجعلها تشرح لي ما هي اللوائح أو التعليمات التى سيتم مخالفتها إن هي كتبت لي في شهادتي ومن حقى أننى الأول، لماذا هو ممنوع أن يكتبوا لي في الشهادة كلمة “الأول” ما دام أنهم قد كتبوها في أوراق النتيجة المعلقة على لوحة الإعلانات، قلت لنفسى: هذه الموظفة تبدو أنها متعصبة، فهي تعرف أننى مسيحي ولا تريد أن تساعدني، قررت أن أذهب إلى السيدة الدكتورة العميدة مباشرة وأطلب منها هذا الطلب البسيط من وجهة نظرى، دخلت للسيدة العميدة وقلت لها: دكتورة من فضلك أنا مسافر إلى أمريكا وأحب أني أدرس هناك للحصول على درجة  الدكتوراه في الصحافة، طلبت من موظفة شؤون الطلبة أن تعطني شهادة بالمواد التى درستها ودرجاتي وتكتب لي أنني حاصل على دبلوم الدراسات العليا من كلية الإعلام وأن ترتيبي هو “الأول” على دفعتي حسب ما هو مكتوب في أوراق النتيجة أمام اسمي، إلى هنا كانت الدكتورة العميدة تسمعنى بكل احترام وبعدها وفجأة تغيرت هيئتها وسألتنى: حضرتك بتقول إيه؟!، مكتوب في أوراق النتيجة قدام اسمك أنك الأول؟، قلت: نعم، قالت: مش ممكن! هذا ضد اللوائح والقوانين”، وانحنت على مكتبها لتضغط على زر أحدث صوتًا عاليًا دخل عند سماعه معاون المبنى وبادرها بالقول: أوامرك يا دكتورة، أشارت إليَّ وقالت: “ الأستاذ ده بيقول إن هو “الأول” ومكتوب قدام اسمه في النتيجة إنه “الأول”، ابتسم معاون المبنى ابتسامة تدل على الاستخفاف والاستهتار بما ذكرته أنا للدكتورة العميدة وأن الأمر في ذهني فقط ولا صحة له، وبادرها بالقول: ” لا يا سيادة العميدة، ده مش ممكن أن يكون صحيحًا، ده ضد اللوائح والقوانين”، عندها علا صوتي وكان لا بد لي أن أتكلم بطريقة خشنة تجبر الحاضرين معى في الغرفة على الكف عن إصرارهم أن هذا لا يمكن أن يحدث، وقلت مخاطبًا المعاون: ” هو إيه إللي لا يا سيادة العميدة وإيه هي اللوائح والقوانين إللي بتتكلموا عنها، أنا بقول لك النتيجة المعلقة في هذا الممر مكتوب فيها اسمي ناجي يوسف عطية تقدير عام جيد جدًا وفي خانة الترتيب مكتوب “الأول”، أنت فاهمنى النتيجة معلقة في لوحة الإعلانات؟!”، نظرت السيدة الدكتورة العميدة للمعاون وأعطت له بعينيها ولسانها أمرًا أن يذهب ويتأكد مما أقول وإن كان ما أقول صحيحًا يحضر لها الأوراق المدون بها النتيجة كلها إلى مكتبها، وما هي إلا لحظات ودخل المعاون وهو ينتفض ووضع أمامها أوراق النتيجة وقال لها بصوت متقلقل أسيف: “والله العظيم يا دكتورة أنا ما أعرف مين اللي كتب النتيجة بالمنظر ده”، نظرت إليَّ السيدة العميدة وقالت: “أنا آسفة يا أستاذ لكن اللوائح والقوانين تحتم علينا ألا نكتب ترتيب الطلبة الناجحين أمام أسمائهم وواضح أنها غلطة من الكنترول”، قلت: طيب ممكن أفهم ليه اللوائح والقوانين بتمنع هذا؟، قالت: “الحقيقة لست أعلم وليس لدي تفسير لذلك، لكنها هي اللوائح والقوانين”، وللآن لم يفسر لي أحد هذا السر الخطير الذي تنص عليه اللوائح والقوانين التعليمية في مصر، هل لكي لا يعلم الأول ولا يمسك دليلاً في يده لكي لا يتم التلاعب في النتيجة بعد إعلانها؟، هل لكي تتمكن الكلية من تعيين الثاني كمعيد وإغفال حق الأول لأنه مسيحى مثلاً كما يحدث مرات كثيرة؟، هل هناك سبب آخر مقنع لا أعلمه أنا ولا حتى عميدة كلية الإعلام في وقت حصولى على الدبلوم؟، لست أعلم والله أعلم بما لا نعلم به. لقد ذكرني الصفر موضوع المقال بهذه الحادثة وسألت نفسى، هل اللوائح والقوانين تسمح بظلم الطلبة وتغيير أوراق إجاباتهم وتجعل الطالب المتفوق يحصل على صفر في الثانوية العامة ولا تسمح بأن يكتب للأول على الدفعة أنه “الأول ”.

    أم أصبح الاستهتار والتواكل والإيمان بالقضاء والقدر هو قانون الحياة في مصر، تمامًا كما يحدث عندما يخبط مجرم أو مسطول أو مسؤول سيارتك وينزل ليقول لك “مش تحاسب، هو أنت أعمى؟!” وعندما تعترض يلتف حولك المارة ويبدأون في الحديث معك جميعًا في نفس الوقت ليلقنونك درسًا من دروس الدين فيقول أحدهم، “قضا أخف من قضا، اللي يجي في الريش بقشيس، حمد الله على سلامتك، أهم حاجة أنك أنت بخير، احمد الله يا راجل ربنا يعوضك،كله فداك وفدى أولادك”، البلد الوحيد الذي تذهب للعلاج في المستشفى وأنت خائف ومرعوب مما فيها من ميكروبات ومعاملة تمرضك إن كنت سليمًا وتقضى عليك إن كنت مريضًا، البلد الوحيد الذي يطلب منك بقشيش حلاوة نجاتك من مصيبة محققة أو علاجك في مستشفى وخروجك منها سليمًا أو حتى إذا مات مريضك وخرج من المستشفى محمولاً على الأكتاف، أتذكر عندما مات أبي في إحدى المستشفيات الخاصة المحترمة! بحي العجوزة وقد قضى ليلته الأولى بعد وفاته فيها حتى نتمكن من استخراج تصريح الدفن له في صباح اليوم التالي، وبعد أن أنهيت جميع الإجراءات لدفنه، توجهت لما يعرف في المستشفيات المصرية بالمشرحة، حيث كان يرقد جثمان أبي، وأطلعت الموظف المحترم الموكل من المستشفى على ما يجرى بهذه الغرفة تصريح  الدفن وطلبت منه تسليمي جثة أبي، أظهر الموظف كل تأثر لمصابي الأليم وقال لي: البقية في حياتك!”، قلت: “حياتك الباقية متشكر”، لم يتحرك الموظف من أمامي لتسليمي الجثة، انتظرته عدة دقائق وهو يقف معي، ثم قال لي: “البقية في حياتك”، قلت: له حياتك الباقية هو حضرتك مش متحرك ليه؟!، قال الموظف: حالاً يا أستاذ كل شئ هيكون جاهز في ثواني، بس يعنى البقية في حياتك!، فهمت ما يريد، لكنى سألته متظاهراً بالغباء وقلت له: هو سيادتك عايز إيه بالظبط؟، قال لي: ولمؤاخذه عايزين البقشيش ونشرب شاي سيادتك، نظرت للرجل وصرخت في وجهه بقشيش، هو أبويا بيتجوز ولا بيتدفن، هو إحنا في جنازة ولا في فرح، هو سيادتك تربي ولا مأذون؟؟!!، لم ينفعل الرجل مقابل انفعالى ومشى من أمامي باردًا برود الموتى في الثلاجات التى يتعامل معها ليلاً ونهارًا، وكأنه يقول لي: إن لم تدفع لن تأخذ أباك، وقد كان، فأنت في مصر تدفع بقشيشًا علشان تأخذ جثة أبيك، وإن تجرأت وأصريت أن لا تدفع، هيبيت أبوك في المشرحة وبكره لما تيجي تستلمه هتدفع البقشيش وكمان أجرة الليلة الزيادة إللي باتها أبوك في المشرحة بسبب العامل إللي رفض يسلمك الجثة، لأنك لم تدفع بقشيشًا، ببساطة “ميتة وخراب ديار”، كما يقول المثل الشعبي. ومع كل تأثري وانفعالي وإحساسي بمأساة الطالبتين اللتين حصلت إحداهن على صفر والأخرى على درجة واحدة، إلا أنني لست متعجبًا ولن أتعجب لمثل هذه الحوادث، فوزارة التربية والتعليم نفسها والنظام التعليمي في مصر أخذ صفرًا كبيرًا مركبًا من عدة أصفار منذ مدة طويلة، فالطريقة التى كانت متبعة في اختيار الطلبة الناجحين في الشهادة الإعدادية ليلتحقوا بمعاهد المعلمين والمعلمات هم الحاصلون على أقل المعدلات الدراسية والذين لا يقبلهم التعليم الثانوي العام وبالتالي فالفرصة أمامهم ليصبحوا معلمين ومعلمات هو أحد مخلخلات البنية الأساسية في العملية التعليمية في مصر، وعلى أيامنا الجميلة كان طلبة الثانوية العامة الحاصلين على أقل درجات هم الذين يُقبلون في كليات التربية ليصبحوا مدرسين، وخاصة بعد أن رأى الناس مسرحية مدرسة المشاغبين، وحضرة الناظر المُهزأ من الطلبة والملواني المدرس وهو يلعب كالقرد على خشبة المسرح، ولم ترتفع نسبة معدلات الطلبة الراغبين في الالتحاق بكلية التربية إلا عندما تفشى مرض الدروس الخصوصية وأصبح وباءً عامًا على المدرسين وأهالي الطلبة، فتوافد الطلبة على الالتحاق بكليات التربية على الرغم من كره معظمهم المفرط لطبيعة عملهم فيها والاستياء حتى من اسم مدرس وكانت النتيجة أن تفنن المدرسون في طرق إجبار الطلبة على الانضمام في المجموعات المدرسية لغير القادرين على دفع المبالغ الطائلة المطلوبة للمدرسين الخصوصيين، فخرج الأب والأم للعمل طوال النهار وربما في الليل أيضًا للحصول على ما يساهم في الخروج من هذه المصيبة التى تحل بكل بيت والتى تعرف بالثانوية العامة، كل هذا جعل من منظومة التعليم في مصر منظومة متهالكة تؤدي إلى حرق الأعصاب، والخلاف بين أفراد العائلات، وغياب الأب والأم عن البيت، وقطع كل علاقات وزيارات وود بين الأقرباء بسبب وجود طالب في الثانوية العامة في هذه الأسرة، أما أيام الامتحان، فهي أيام رعب وهلع وفزع للطالب وأهله، فالفتاة الحاصلة على الصفر كان أخواها الاثنان، حسب تصريحاتهما، وأحدهما طبيب يصطحبانها للمدرسة كل يوم لتأدية امتحان الثانوية العامة وكأنها ذاهبة لغرفة عمليات جراحية لاستئصال جزء من جسدها وكل هذا لم ينفعها، فالنتيجة صفر!

    والغريب في الأمر أن لا أحد انتبه إلى آلاف الطلبة الذي حصلوا على صفر في امتحاناتهم من قبل في المدارس والكليات والمعاهد وخاصة من الطلبة المسيحيين الذين أعاد أغلبهم دراسة السنين التي رسبوا بها وخاصة في الكليات العملية، حيث يستعمل الأساتذة فيها الامتحانات الشفوية للتعرف على الطالب شخصيًا والحديث معه مباشرة وسؤاله عن اسمه ومعرفة ديانته وللتحكم فيمن يحصل على أعلى الدرجات وبالتالي فيمن يعين في وظائف جامعية وهذا أمر لا يخفى على أحد، ليس كما يفعل أساتذة العلم في البلاد التى تحترم طالب العلم، فعلى الرغم من عدم تفكير الممتحن في أمريكا أو محاولته لمعرفة اسم الطالب الممتحن إلا أننا في امتحاننا لدرجة الدكتوراة كانوا يعطوننا ورقة برقم سرى يعلقها الممتحن على صدره ويصبح هذا الرقم هو اسمه والمعبر عنه في كل امتحاناته وتحركاته داخل مبنى الكلية دون أن يسأل الممتحن عن اسم الطالب الذي يمتحنه، وتحضرني عشرات القصص التى تؤكد صدق ما أقول، لقد قال لي أحد أساتذتي الأفاضل بكلية الطب والذي تشرفت بزيارته لي في سان دييجو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وهو مشهور بعلمه وإيمانه وصدقه وأخلاقه واحترامه وعدله في معاملة طلبته، قال لي، إن أحد زملائه أساتذة كلية الطب بجامعة مصرية جاءه قبل أن يدخل إليه طالب طب ليمتحن أمامه الامتحان الشفوي في بكالوريوس الطب وقال له، خلي بالك من الطالب ده، ده متفوق ومذاكر، ويكمل أستاذي فسألته، تقصد إيه أخلى بالى منه؟، قال له، خلى بالك أنه شاطر ومذاكر، أجابه أستاذي أنا أعرف أن حضرتك ممكن توصيني على طالب يكون شاطر لكن أعصابه تعبانة علشان أساعده على الإجابة، لكن مش فاهم أنك توصيني على طالب لأنه متفوق ومذاكر؟!، قال، أستاذي كان زميلى يقصد أن لا أعطي هذا الطالب الشاطر والمذاكر درجة ممتاز حتى لو كان يستحقها لكي لا ينافس أولاد الأساتذة في الحصول على نيابة في الجامعة ويصبح مؤهلاً أن يكون فيما بعد عضوًا في هيئة التدريس، والسبب بسيط لأنه ليس من أبناء الأساتذة. أليس هذا ما حدث مع علمائنا وعلى رأسهم الدكتور مجدي يعقوب أشهر جراحي القلب في العالم؟، الذي يفتخر به المصريون جميعًا مسلمين ومسيحيين والذي لم يتمكن أن يحصل على نيابة في تخصص أمراض النساء والولادة في مصر يومها فتركها وشق طريقه في بلاد تحترم طلابها وتقدم لهم كل فرص النجاح حتى لو لم يكونوا من أهلها المولودين فيها، بلاد مهما تعددت الأسباب لا يمكن أن تكون فيها النتيجة صفر. بلاد تنتقي المتفوقين والموهوبين وأصحاب المستويات العليا في الذكاء من طفولتهم ونعومة أظفارهم وترعاهم وتقدم لهم كل ما يضمن تقدمهم وينمي مواهبهم وقدراتهم وتضعهم في فصول خاصة للمتفوقين ولتركيز العناية بمستقبلهم، فلا عجب أن يصلوا إلى العالم الخارجي بعلمهم واختراعاتهم بينما نعوم نحن كمصريين في وحل الثانوية العامة ولا نخرج منها إلا وقد أنهكنا العوم فيه ضد التيارات المختلفة التى تتفنن في جعلنا معوقين نحن الذين تكلم الكتاب المقدس عنا وعن حكمتنا كمصريين، تلك التى تربى عليها موسى كليم الله. والعجيب أن إخوة الطالبة مريم يرفعون تظلمهم للرئيس السيسي ليتدخل في حل هذه المشكلة!، وكأنهم في حاجة إلى ذلك، في أوروبا والبلاد المتقدمة لا بد أن يقدم وزير التربية والتعليم استقالته فور إعلان أن طالبًا متفوقًا قد حصل على درجة صفر وبعدها يتم التحقيق في الحادثة، فخروج ورقة امتحان لطالب أو طالبة متفوقة تحمل درجة الصفر جريمة لابد أن يدفع ثمنها الجميع ابتداء من وزير التعليم إلى المدرس الذي أخطأ حتى لو كان الخطأ غير متعمد، أما في مصر، فلابد من المحايلات والمناشدات والتشكرات والتوسلات حتى يلتفت إليك المسؤولون للنظر في شكواك أو تظلمك، نعم تعددت الأسباب والنتيجة صفر.

    ثم لماذا نركز على الصفر الذي أخذته مريم وننسى الأصفار الكثيرة التى أخذتها مصر والمصريون في مجالات الدين والسياسة والعمل والاقتصاد و.. و.. و..؟!، فمريم ليست أول من أخذ صفرًاً في امتحان ما، فهذا الصفر يدل على أسلوب حياة مليئة بالعشوائية والهمجية وعدم الاهتمام بمشاكل الناس ومستقبلها، وهذه كلها قد تكون هي بعض الأسباب التى تؤدي إلى مثل هذه الحالة، أتذكر عندما كنت طالبًاً في كلية طب الأسنان بجامعة القاهرة، أننا في امتحان مادة من مواد دراستنا وجدنا أستاذنا الدكتور فوزي مسعد رزيق يمر علينا في الامتحان ويوقع بخط يده على الصفحة الأولى من كل كراسة من كراسات الإجابة التى كنا نجيب فيها على أسئلة الامتحان، كانت دفعتنا تقارب ال٤٠٠ طالب، تعجبت يومها من هذا الفعل وقلت، ما الذي يعمله الدكتور رزيق؟!، يوقع على كراسات الإجابة واحدة واحدة من الخارج؟!، لكن عجبي زال وحل محله ما هو أعجب عندما قال لي واحد من المعيدين هناك، بعض الطلبة والطالبات لهم وسائط في هيئة التدريس أو طالبات متزوجات أو سيتزوجن بأحد أعضاء هيئة التدريس و أزواجهن يريدون أن تعين زوجاتهم معهم في الكلية وأن يصبحن هن أيضًاً من هيئة التدريس بالكلية، وحيث أنهن لسن على المستوى العلمي الذي يؤهلهن للحصول على درجات عالية للتعيين في الجامعة، فإن أزواجهن يقومون بإجابة أسئلة الامتحان نيابة عنهن ويحضرون لهن كراسات إجابة معدة جاهزة بالإجابات النموذجية ليسلموها للمراقبين الذين يعرفون القصة كاملة فهم أيضًاً في النهاية زملاء أزواجهن ويوم لك ويوم عليك، وبهذا يحصلن على أعلى الدرجات التى لا يستحقونها، لذا يوقع أستاذنا في النصف الثاني من الامتحان على كل ورقة إجابة حتى لا يستطيع أحد أن يبدلها بكراسة أخرى، ولا عجب إن رأينا الطلبة والطالبات الفاشلات في الحصول على درجة النجاح قد أصبحن معيدات ومعيدين وأساتذة في الجامعات ومسؤولون عن تخريج دفعات تضم أمثالهم من الطلبة الفاشلين أولاد الأساتذة الفاشلين والمتزوجون من أساتذة فاشلين إلى أن وصل حال مصر التعليمي إلى ما هو عليه!! هل تم التحقيق وإعلان نتائج في واقعة التزوير لصالح أبناء الأساتذة في كلية من كليات الطب المصرية؟ تلك القضية التى كانت على صفحات الجرائد ثم اختفت فجأة بأوامر عليا!. ألم يأخذ النظام التعليمي كله صفرًاً كبيرًاً عندما منح مَن لم يحصلوا على معدل درجات تؤهلهم للالتحاق بكليات معينة وخاصة كليات الطب من أبناء العاملين بالجيش المصرى نسبة 3%  زيادة على مجموع درجاتهم في امتحان الثانوية العامة سنة 1973 ؟! تلك السنة التى حصلت أنا بها على الثانوية العامة ولم أتمكن من دخول كلية الطب البشرى بسبب نقص مجموعي الكلى نصف درجة عن المطلوب لدخولي بها، بينما التحق بها أترابي ممن كانت درجاتهم تقل ١٠ درجات عن درجاتي أنا، والسبب إن أبي لم يكن مجندًاً في الجيش المصرى ولم يشارك في حمل السلاح في حرب أكتوبر، ألم يكن والدي محاربًاً في عمله في مصلحة السكة الحديد لأنه لم يكن على قوة الجيش؟!، ألا لأنه لم يلتحق مكانيًاً بالجيش المصرى وقتئذ أصبح غير مستحق أن يتساوى أبناؤه مع أبناء العاملين بالقوات المسلحة؟!، لقد كان أبي يعمل في مصلحة السكة الحديد وقت الحرب، فهل كان أبي الذي يسهر على دوران حركة القطارات وخاصة الحاملة للمعدات الحربية لا يحارب في عمله ؟أليس من العجيب أن يلتحق الطلبة المسلمون بكليات جامعة الأزهر بمجموع قد يقل أكثر من ٢٠ أو ٣٠ درجة عن درجات الطالب المسيحي ولا يسمح للمسيحي دخولها؟!، أليس هذا صفرًاً آخر حصلت عليه المنظومة التعليمية في مصر؟!، ناهيك عن الحشو غير المطلوب للمواد التعليمية وتسييس التعليم وأسلمته بكل الطرق وأسلمة العلاقات الإنسانية بين الطلبة بعضهم البعض وبين المدرسين والطلبة وهذا ليس بجديد، لكنه ميراث مدمر تسلمناه عن أجدادنا وسلمناه لأولادنا وأحفادنا من بعدنا، وليس هناك مجال للكتابة عن الصفر الكبير الذي حصلت عليه مؤسسات وهيئات أخرى بما فيها الكنيسة والأزهر لكثير مما فعلت وتفعل في مصر، إن الحل الوحيد لمأساة الصفر الذي يُعطى لمعظم الركائز الأساسية في بلادنا هو السير على دستور سماوي يلتزم به الناس جميعًاً ولا يوجد سوى الكتاب المقدس وتعاليمه ووصاياه هي التى يمكن أن تصلح كل هذا وحيث أنني أعرف أن كلامي في هذه النقطة بالذات لن يحرك للعامة ساكنًاً، فلست متوقعًاً أن تتغير الأحوال في مصر وستتعدد الأسباب، لكن النتيجة ستكون صفرًاً.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا