تطور الذهنية الإرهابية

2

د. مراد وهبة

مع بداية القرن العشرين نشأت ثورتان: نظرية الكوانتم عند بلانك ونظرية النسبية عند أينشتين، وبفضلهما حل اللايقين محل اليقين والفوضى محل الحتمية. ومن هنا نشأت الثورة الثالثة التي فجَّرها بروجوجين وهي الفوضى، ولكن بشرط أن يكون مفهومًا أن الفوضى مولدة للنظام. وإذا كانت الفوضى رمزًا للصدفة والنظام رمزًا للضرورة إذن ثمة تداخل بين الصدفة والضرورة، إلا أنه تداخل مدمر لمبدأ العلية الذي ورثناه من فلسفة أرسطو والتي تحكمت في مسار العلم لمدة أكثر من ألفي عام وهو مبدأ يعني أن لكل نتيجة سببًا، وبالتالي فإنه يقف ضد الصدفة. وهنا ارتعبت البشرية من تدمير ذلك المبدأ، بل المفارقة هنا أن أينشتين نفسه الذي كانت نظريته تشكك في مبدأ العلية قد ارتعب هو الآخر، وقال ساخرًا من خصوم ذلك المبدأ إن الله لا يلعب النرد، أي أن الله ينكر الصدفة.

ومع ذلك كله فقد شاع مبدأ اللايقين إلى الحد الذي أحدث فيه أزمة هوية. وقد كانت هذه الأزمة هي عنوان المؤتمر الفلسفي السابع عشر الذي انعقد في لاهور بباكستان في عام 1975. والمفارقة هنا أن باكستان كانت قد أنشئت في أغسطس من عام 1947 على أساس الدين الإسلامي، ومع ذلك فإنها بعد مرور سبعة عشر عامًا على نشأتها قد أصيبت بأزمة هوية. وفي عام 1982، شاركتُ في ندوة بدوسلدورف بألمانيا الغربية، وكان موضوعها إفريقيا وأزمة هويتها. وفي عام 1985، شاركتُ في ندوة في نيروبي عاصمة كينيا، وكان عنوانها الهوية الثقافية والمعاصرة الإفريقية. وقد دارت الأبحاث كلها حول تحكم الأساطير والمحرمات في الحياة الإفريقية، وأن هذا التحكم هو السبب في أزمة الهوية. ومع ذلك فقد قيل في حينها إن هذا التحكم ضروري في محاربة الاستعمار.

وفي عام 1986، انعقد مؤتمر مشترك من القوتين العظميين: السوفيتية والأمريكية من أجل تغيير ذهنية إرهابية متمثلة فيما سُمي الانتحار النووي بشريًا، والمقصود به قتل بعض البشر لكل البشر والذي يفضي في نهاية المطاف إلى فناء الجنس البشرى. وقد ألقيتُ بحثًا في هذا المؤتمر تحت عنوان “الأيديولوجيا والسلام”. وفي بدايته تساءلتُ: ما هي الأيديولوجيا؟ وكان جوابي هو أنها جملة من القيم والمبادئ التي تحرك البشر، إلا أنها لا تحركهم إلا إذا ارتقت إلى مستوى المطلق. وحيث إن المطلق واحد بحكم طبيعته فإذا تعدد دخلت المطلقات في صراع، أو بالأدق في حرب. ولهذا فإذا كنا نريد سلامًا فما علينا إلا نفي الأيديولوجيات. إلا أن هذا النفي لن يكون ممكنًا إلا إذا ارتأينا النشاط الإنساني من منظور الوحدة بين الإنسان والطبيعة، وليس من منظور التناقض بينهما. وفي حالة المنظور الأول، يصبح من الممكن اتحاد المجتمع والطبيعة في نسق واحد، ومن ثم يصبح النشاط الإنساني تفاعلًا بين الجزء الذي هو المجتمع والكل الذي هو الطبيعة، وبالتالي تصبح الثورة العلمية والتكنولوجية إرهاصًا لذلك التفاعل، لأنها هي التي تحرر الإنسان من قيود المكان وتدفعه إلى السباحة في الفضاء، ومن ثم إلى إفراز ما يمكن أن يُسمى بـــ «الوعي الكوني». وبدون هذا الوعي، في العصر النووي، فإن موت الإنسان ومعه موت الكون أمر محتوم. وفي هذا السياق يمكن إحداث تحوير في العبارة الأخيرة الواردة في المنفستو الشيوعي التي تقول: يا عمال العالم اتحدوا، فتكون العبارة المحورية هي على النحو الآتي: يا شعوب العالم اتحدوا مع الكون وليس ضد الكون. وإثر الانتهاء من إلقاء بحثي، دار سؤال حول مدى إمكانية تحقيق ذلك الوعي الكوني. وكان رأيي أن ثمة عائقين أمام ذلك التحقيق. العائق الأول يتمثل في بزوغ ظاهرة جديدة في القرن العشرين، وهي ظاهرة الأصوليات الدينية التي تشيع مناخًا ثقافيًا ضد إفراز الوعي الكوني بدعوى أن هذا الوعي شرك بالله، إذ إن الله هو الخالق لهذا الكون وهو الواعي به. أما العائق الثاني فهو مستنبط من العائق الأول وهو أن الغاية التي تنشدها الأصوليات الدينية بوجه عام والأصولية الإسلامية بوجه خاص هي القضاء على الكتلة الشيوعية بالاستعانة بالكتلة الرأسمالية، وبعد ذلك الانفراد بالكتلة الرأسمالية والقضاء عليها بالإرهاب. وقيل في حينها ردًا على رؤيتي إنني متشائم لأن العقلانية السائدة في المسار الحضاري كفيلة بمنع تدمير القوتين العظميين. ومع ذلك، في عام 1991، ماتت الكتلة الشيوعية بمؤازرة الأصولية الإسلامية الأفغانية والباكستانية. وبقيت بعد ذلك إماتة الكتلة الرأسمالية، وإماتتها ممكنة بحكم ضعف الوعي الأمريكي بكيفية التعامل مع الأصولية الإسلامية. ولا أدل على هذا الضعف من عدم فهم القيادة الأمريكية لمغزى أحداث 11/9 عندما هاجم نفر من البشر أمريكا مستعينين في هجومهم بأربع طائرات مختطفة تحولت إلى أسلحة حربية لقتل ثلاثة آلاف من المواطنين الأمريكيين في أقل من ساعتين في نيويورك وجنوب غرب بنسلفانيا وواشنطن. والذين قُتلوا في ذلك اليوم كانوا مدنيين مسالمين أما الذين قتلوهم فلم تكن لديهم أية معرفة سوى أنهم أمريكيون. قتلوهم عمدًا مع سبق الإصرار. وقد تبين بعد ذلك أن القتلة أعضاء في شبكة إسلامية دولية ممتدة إلى أربعين دولة وشهرتها تنظيم القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن. وقد استغرق نسج هذه الشبكة عشرات السنين في حماية بعض الحكومات. وحدد تنظيم القاعدة الصراع في هذا العصر بأنه بين المؤمنين وغير المؤمنين. والمؤمنون هم الأصوليون الإسلاميون، أما مَنْ عداهم فهم غير مؤمنين. وغير المؤمن هو مَنْ يخون دينه عندما يقف مع الحياة المدنية الحديثة المتمثلة في العلمانية. وقد كان تدمير مركز التجارة العالمي بنيويورك في الصدارة وهو أعلى مراحل الثورة العلمية والتكنولوجية.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا