“تتحطم كل الخلافات العقائدية على صخرة تُدعى المحبة.”
هناك مَنْ أظهر اعتراضه على تلك المقولة مهاجمًا الكاتب، على اعتبار أنه لا تصلح التضحية بالعقيدة لأي سبب من الأسباب وتحت أي ذريعة مهما اختلفت المسميات والتسميات، خالطين بذلك بين كلمتي خلاف واختلاف.
ولكن ليس بالضرورة لكي أكون مختلفًا معك في أمر ما أن أكون في خلاف معك، فهناك فرق بين الخلاف والاختلاف، إذ أن الخلاف هو عدم التوافق وعدم التلاؤم فيما هو مُختَلَف عليه، إذ يظهر فيه المرء متبرئًا من المحبة التي تتجلى في التعامل بين الأفراد وبعضهم البعض، أما الاختلاف فهو وجود تضاد في القضايا المتعددة مع الاحتفاظ بحق إنسانية المختلِف والتعامل معه دون سجال شقاق وشجار، فيقولون إن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية!
الخلاف يرتكن إلى الكرامة الإنسانية دفاعًا عنها وحمايةً لها، أما الاختلاف فهو مجرد من المشاعر الشخصية بل إنه يجانب الموضوعية والبعد عن الأهواء والميول الذاتية.
الخلاف يُعَدُ تربة خصبة بل صورة من صور الانقسام والتنابذ بين الأفراد وبعضهم البعض، أما الاختلاف فيغلفه الجمود ووحدوية رد الفعل تجاهه، إذ إنه يعرض الحق بغض النظر عن رأي مَنْ يتلقاه ومَنْ ينظر له، كل حسب شخصه.
الخلاف هو انعكاس لتنشئة الفرد الاجتماعية وكيفية تعامله مع القضايا التي يظهر فيها الرأي والرأي الآخر، أما الاختلاف فهو تقديم للحق متى رآه فريق ما كذلك والسلوك بناءً على ما يقدمه ذلك الحق من حقائق، بغض النظر عن طريقة التعامل مع الشيء المختلف عليه.
الخلاف هو بذار للالتحام بُغضةً ثم الفِرقة والتفرُّق ضغينةً، أما الاختلاف فهو توطئة لتعرف كل طرف على ثقافة الآخر بما فيه من تنوع وتباين ومن ثَمَّ التعايش والتآخي والانسجام.
الخلاف يُعَدُ أساسًا وأصلًا وتأصيلًا لإنشاء وبناء مجتمعات غير سوية، إذ يعيبها التشوه والتقبيح نفسيًا وإنسانيًا وأخلاقيًا لما فيها من كراهية وسخط على الآخر، أما الاختلاف فهو إرساء لبذار المحبة والتصافي وقبول الآخر مهما اختلف فيما وعما يعتقده ويحسبه ويكنَّه ذلك الآخر بين الأعماق عقلاً ونفسًا وروحًا.
الخلاف كثيرًا ما يقترن اقترانًا وثيقًا بسياسة القطيع والتبعية التي تندثر بين طياتها الشخصية بما فيها من مقومات، إذ إنها تسمع وتنفذ دون تفنيد وفحص لما هو مختلف عليه، بينما الاختلاف يُعَدُ إشراقة شمس الشخصية المتكاملة المستقلة التي تختلف عن وعي وفطنة واستيعاب وانتباه.
الخلاف مدعاة للجمود والانغلاق والتقوقع داخل حوصلة الثبات الفكري من دون تفكير إبداعي وتطوري أو تقدمي، أما الاختلاف فهو نافذة الانفتاح على عالم مغاير لما نعرفه ونعتاد عليه لما قد يمنحنا من فكر تقدمي يكون تصديرًا وتمهيدًا وتقديمًا للتفكير الإبداعي الخلاق والمبتكِر والمتمايز.
الخلاف هو استهلال وبداية لقبول التعاليم الفاسدة والفساد التعليمي من كل حدب وصوب دون تفرقة بين الغث والثمين، الصالح والطالح، بينما الاختلاف هو الوقوف عند كل غريب وغير مألوف والنظر إليه دون الانزلاق بين فكي الجهل والحماقة والبلاهة والسخافات.
الخلاف هو أحد أسباب ودواعي فقر الشعوب لما يُنفق ويُستهلك في الحروب والصراعات بما فيه من نتائج خطيرة ومريعة على مستقبل الشعوب كما الأفراد سواء بسواء، أما الاختلاف فهو أحد أوجه جذب الأنظار إلى مَنْ هم مختلفون ومغايرون لغيرهم دون قتل واقتتال على ما هو مُختَلف عليه، بما له من الخير العائد على الأمم من استقرار وثبات وهدوء ورخاء.
ليتنا نبذل من الجهد الجهيد الكثير، ونصل في الكد والتفاني ذروته، للتعمق في المعاني والتمعن فيما تحتويه، حتى نكون بمنأى عن أي تجنٍ وتعدٍ وظلم على نوايا الآخرين وما يقصدونه ويتجهون له ويعنونه، فنكون منصفين وعادلين فيما نحكم ونقيم ونبت فيه على أفراد وكتابات قد تكون أبعد ما تكون عن سوء المعاني والخلط بينها.