19.4 C
Cairo
السبت, أبريل 27, 2024
الرئيسيةفكر مسيحيبناء البشر وبناء الحجر...!! (2)

بناء البشر وبناء الحجر…!! (2)

الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر

   تحدثنا في العدد الماضي عن نحميا وذكرنا أنه وهو في السبي علم بأخبار أورشليم وأنها في شر عظيم وعار وقد أضحت أطلالاً ورماداً وخراباً. ومن يومها لم يعرف نحميا مذاق الحياة أو الراحة أو السعادة، فلقد كانت أورشليم بالنسبة له هي سيدة المدن، ومدينة المدن، وعاصمة الدنيا، مدينة الرؤى والأحلام، مدينة الهيكل والسلام، مدينة حبه وأحلامه وأشواقه.

عاش نحميا ومات وهو يرى أن تراب أورشليم وأنقاضها أعظم وأغلى من تبر شوشن وأمجادها.

ورأينا بعض المبادئ والقيم الإيمانية من هذه الصورة الكتابية وهى:

أولاً: أطرح آلامك أمام إلهك

ثانيًا: العمل بروح الفريق

ثالثًا: العظمة في الخدمة

ونواصل في هذا العدد الدروس الروحية التي نتعلمها من قصة نحميا ودوره في بناء البشر وبناء الحجر.

رابعًا: جميلة هي دموع الغيرة على عمل الله

   تصور عدسة الوحي المقدس نحميا وهو في شوشن القصر، وقد جاء لزيارته أخوه حناني ورجال من يهوذا، فسألهم نحميا عن أخبار أورشليم، وكان جوابهم: “إن الباقين الذين بقوا من السبي هناك في البلاد، هم في شر عظيم وعار. وسور أورشليم منهدم، وأبوابها محروقة بالنار. فلما سمعت هذا الكلام جلست وبكيت ونحت أيامًا، وصمت وصليت أمام إله السماء” (نح1: 3، 4).

ولم يعرف نحميا من يومها مذاق الحياة أو الراحة أو السعادة. كان نحميا ساقي الملك، وهو ما أشبه بمَنْ يطلق عليه اليوم كبير الأمناء أو رئيس ديوان رئيس الجمهورية، وهو المسئول عن الشئون الخاصة بالملك وعن طعامه وشرابه.

وعندما قدّم نحميا الشراب للملك كان ممتلئًا من الألم والحزن والإحباط والكآبة التي لاحظها الملك، وعندما لاحظ الملك علامات الحزن العميق البادية على وجهه قال له: “لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض؟ ما هذا إلا كآبة قلب!” (نح2: 2).

ولقد كان غريبًا أن يكون حزن نحميا بهذه الصورة اللافتة للانتباه… فلم يكن مريضًا بمرض معين. ومن المعروف أن حزن نحميا لم يكن بسبب مأساة أو مشاكل أسرية أو احتياجات مادية… كان نحميا حزينًا بسبب بيته الأكبر والأعظم أورشليم.

ومن الغريب أن نحميا كان متألمًا لمشكلة تبعد عنه قرابة ألف ميل… نعم! كان نحميا بعيدًا عن أورشليم، ولكن أورشليم لم تكن بعيدة عن قلبه وعواطفه وأشواقه وآلامه.

  وكان يمكن لنحميا أن يستريح ويهدأ، لأن المشكلة تراث قديم كانت قبل أن يولد، إذ وُلد وهو في المنفى في السبي، كما أنه لم يصنع المشكلة ومن حقه ألا يكون مسئولاً عنها.

وضع الملك أرتحشستا يده على سر ألم ووجع نحميا في عبارة واحدة: “ما هذا إلا كآبة قلبٍ!” (نح2: 2).

لقد كانت أورشليم بالنسبة لنحميا هي مدينة حبه وأحلامه وأشواقه. إنها المدينة التي بسببها علّق المسبيون أعوادهم في بابل على الصفصاف وهم يبكون قائلين: “كيف نرنم ترنيمة الرب في أرضٍ غريبة؟” (مز137: 4-6).

نعم! لقد ارتبط نحميا بمدينته أو بتعبير أصح وأعمق وأدق بإله مدينته.

  إن المؤمن الحقيقي هو الذي يشعر بالألم وتنساب دموعه كتعبير عن غيرته على عمل الله وقلبه المشتعل على الخطاة الذين تاهوا في دروب الشر. وهناك أمثلة كثيرة في كلمة الله تؤكد هذا المعنى فنرى المرنم يقول: “جداول مياهٍ جرت من عيني، لأنهم لم يحفظوا شريعتك” (مز119: 136).

ويسجل الوحي المقدس عن عزرا أنه عندما سمع أن الزرع المقدس (شعب الله) اختلط بشعوب الأرض قال: “فلما سمعت بهذا الأمر مزقت ثيابي وردائي ونتفت شعر رأسي وذقني وجلست متحيرًا” (عز9: 3).

لقد شعر عزرا بالألم الرهيب والحزن العميق وهو يرى شعب الرب يختلط بالشعوب الأخرى يشاكلهم ويشابههم، وأضحى لا يختلف عنهم.

 ويكتب إرميا في (إر4: 19، 20؛ 9: 1؛ 13: 15-17): “يا ليت رأسي ماءٌ، وعيني ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنتِ شَعبي”. وفي (أع 20)، يقول الرسول بولس لقسوس أفسس إنه كان يخدم بكل تواضع ودموع كثيرة “متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهارًا، لم أفتر عن أن أنذر بدموعٍ كل واحدٍ.” ويقول في (رو9: 2): “إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع”.

وإلى أهل كورنثوس يكتب كلماته ممتزجة بدموع غيرته ومحبته نحو الخطاة فيقول في (2 كو11: 29): “من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟”

وفي ترجمة حديثة تأتي هذه الكلمات: “من يضعف وأنا لا أضعف معه، ومن يسقط في الخطية وأنا لا أحترق من الحزن عليه”.

أما قبل هذا وذاك فنجد المثل الأعلى لنا شخص الرب، حيث نرى مشاعره الرقيقة وعواطفه الجياشة عندما تطلع إلى أورشليم وبكى عليها إذ مكتوب: “وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها… فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسةٍ، ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهةٍ” (لو19: 41، 43).

ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه وهو:

من يبكي اليوم على عمل الله؟ من يبكي على رجوع الخطاة؟

كان أحد خدام الله يشارك زميله أخبار خدمته، وهو قاب قوسين أو أدنى من الفشل… قال: “لقد جربت في الخدمة أساليب وطرق كثيرة ولم أجد أي نتيجة أو ثمر في خدمتي.. وهنا قال له زميله: “جرب الدموع.”

كيف لا؟! ألم يكن أغسطينوس إنسانًا شريرًا وسجل الرقم القياسي في الشر، لكن أمه القديسة مونيكا ظلت تصلى من أجله بالدموع إلى أن تاب وجاء إلى المسيح وأضحى قديسًا عظيمًا.

خامسًا: من الأفضل الرد على الاتهامات بالإنجازات

كان من الممكن أن يضيع نحميا وقته في حروب مستمرة مع أعدائه، ففي مرة هزأوا به وسخروا منه ومن جماعته واتهموهم بأنهم يتمردون على الملك، فمكتوب في (نح2: 19): “ولما سمع سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني وجشم العربي هزأوا بنا واحتقرونا، وقالوا: ما هذا الأمر الذي أنتم عاملون؟ أعلى الملك تتمَردون؟ وفي مرة أخرى قالوا عنهم: إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب فإنه يهدم حجارة حائطهم” (نح4: 3).

وفي كل هذا كان نحميا يرد بالإنجاز، ولم يدخل في صراعات جانبية تضيع وقته الثمين وتبعده عن الهدف العظيم، فلقد كانت كل الجماعة تبني، يد تبني ويد تمسك السلاح، ويقول نحميا: “فبنينا السور، واتصل كل السور إلى نصفه وكان للشعب قلب في العمل” (نح4: 6).

ولما فشلت كل المحاولات السابقة في إفشاله أرسلوا إليه لكي يجتمعوا معه في بقعة (أونو) بحجة التحاور والتشاور معه، ولكنهم بلا شك كانوا يريدون قتله هناك، ولكن رد نحميا عليهم كان رائعًا وحاسمًا إذ قال لهم: “إني أنا عامل عملاً عظيمًا فلا أقدر أن أنزل. لماذا يبطل العمل بينما أتركه وأنزل إليكما؟” (نح6: 3). وأرسلوا إليه أربع مرات بمثل هذا الكلام وهو يعتذر برقة لئلا يتعطل عن العمل. لقد رفض أن يضيع وقته في معارك جانبيه، وكان كل ما يهمه هو الإنجاز، فأكمل بناء السور في اثنين وخمسين يومًا.

نعم! إن أفضل رد في أغلب المرات على الصراعات والاتهامات الكاذبة هو الصمت… دع إنجازاتك تتكلم عنك، فالإنجاز هو أقوى رد على الأكاذيب.

لقد جاء تلاميذ سقراط إليه يومًا وقالوا له إن الناس يقولون عنك كلامًا سلبيًا جارحًا… فقال لهم: “حسنًا لقد جاء الوقت لكي نثبت لهم أننا لسنا كذلك، ولكن بالأعمال وليس بالكلام.”

لقد واجه الرب يسوع في حياته نقدًا شديدًا، وكان معرضًا لأن يضيّع وقته في معارك جانبيه، ولكنه لم يستسلم لجهل الناس أو مكرهم وخداعهم، فمرة قالوا عنه إنه يجدف ومرة قالوا إن به شيطان، ولكنه لم يرد. وكم من مرة أراد رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون أن يصطادوه بكلمة، ولكنه كان بحكمة يتعامل معهم.

سادسًا: الهدف الواضح سر النجاح

   يقول الحكيم: “بلا رؤيا يجمح الشعب” (أم29: 18).

نعم! إن أي إنسان بلا رؤيا يتخبط هنا وهناك، وكما يقال: من لا يعرف إلى أين يذهب سيصل إلى المجهول.

والرؤيا هي الهدف الواضح المحدد المعالم، المبني على إمكانيات وقدرات محددة، أو هو تصور لما يجب أن يكون عليه المستقبل. والرؤيا تبدأ بعدم الرضا عما هو كائن، وبإدراك واضح لما يمكن أن يكون، والحقيقة أن الفشل في التخطيط هو تخطيط للفشل، والنجاح في التخطيط هو تخطيط للنجاح.

حقًا! إن سر نجاح نحميا أن الرؤيا كانت واضحة لديه، فبعد أن سمع وهو في منفاه أن أسوار أورشليم متهدمة وأبوابها قد أكلتها النيران، وضع في قلبه أن يبني الأسوار المنهدمة، وانطلق بقوة وذهب إلى أورشليم وأيقظ همة الشعب وقال لهم: “هلم فنبني سور أورشليم ولا نكون بعد عارًا” (نح2: 17).

أجل! التخطيط يرتبط بالمستقبل، وعلى كل إنسان يبتغى النجاح أن يخطط لمستقبله، فالمستقبل لا يُشترى جاهزًا إنما يصنع صنعًا… ويعلمنا الرب يسوع المعلم الصالح أن من يريد أن يبني برجًا لا بد أن يجلس أولاً ويحسب حساب النفقة (لو14: 28-32).

عبرة في عبارة

النجاح في التخطيط… تخطيط للنجاح.

والفشل في التخطيط… تخطيط للفشل.

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا