قصة طريفة،هي قصة العالم جاليليو مع أهل زمانه، وجاليليو هذا يعد أبرز مؤسسي العلم في العصر الحديث، ولقد نظر إلى الديناميكا نظرة جديدة، فقد افترض أن السكون ليس حالة مميزة للأجسام، بل إن الحركة طبيعية شأنها شأن السكون تمامًا، وهي حركة في خط مستقيم.
وقد طور جاليليو نظرته هذه في مجال الفلك، فنادى بمركزية الشمس، وكانت كشوفه تلك قد قلبت كل الأفكار الراسخة القديمة منذ أرسطو، بل لقد عكر منظاره الذي اخترعه صفو سبات القدماء الغارقين في الظنون والأفكار الواهية. وقبل أن تفكر أيها القارئ في مصير جاليليو،لابد وأن تستقرئ نتيجة أفكاره دون تحليل أو استنتاج، فلقد صدم جاليليو رجال الدين في عصره، وأدين بالفعل في جلسة مغلقة، غير أن جاليليو لم يرضخ أو يستسلم، فسيق مرة أخرى للمحاكمة العلنية، فتراجع خوفًا على حياته، ووعد بأن يتخلى عن كل أفكاره المتعلقة بحركة الأرض حول الشمس، وفعل حقًا ما أمر به من رجال الدين، لكنه هو في قفص الاتهام تمتم لنفسه قائلاً: “ومع ذلك فإنها تتحرك”. القصة انتهت.
إن ما فعله العالم جاليليو في فكر عصره نسعى أن نحققه نحن، نفكر، ونستدل، ونبحث، ونجرب، ونتهم، ثم نتراجع عما فكرنا فيه، الأدهش هو أننا حينما نشرع في التفكير نجد عشرات المتربصين بنا وبأفكارنا التي نقسم بالله أنها ليست علمانية، وأن ديننا الإسلامي حض على التفكير، وأن القرآن الكريم الذي ندعي بأننا نفهمه فهمًا كاملاً، حث على استعمال العقل والمنطق والتحليل، ففي القرآن الكريم آيات تحض على النظر والتحليل والاستقراء والاستنباط مثل قوله تعالى : (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)، أي العقول التامة الأكثر ذكاءً التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وفي آية أخرى (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)، وكثير من الآيات القرآنية التي تحض الإنسان على التفكير وإعمال العقل.
وما أكثر الخطب المنبرية والمقالات والكتب التي تتحدث عن وجوب التفكير وأنه فريضة إسلامية كما ذكر عباس محمود العقاد، ولكن عند أول اختبار لأصحابها يسقطون في فخ الزيغ والهوس وبطلان الحجة. وإذا سألت بعض رجال الدين عن دوره كرجل تنويري لسوف يحدثك عن فعالية التفكير والاستنباط، وعن عظمة التسامح كمحور للتنوير، وأن التسامح ينبغي أن يمتد بلا تمييز. وفي أول محك لتطبيق أفكاره سيلعن التنوير والتنويريين، وسيربط التنوير بالعلمانية، بل وربما بالمسيحية، وبالفلاسفة الملاحدة، ولهم أقول إن التنوير حركة لم تكن مرتبطة بأي مدرسة فلسفية معينة بل إن التنوير يعني العودة إلى تقدير النشاط العقلي المستقل، وبصورة أبسط نشر النور حيث كان الظلام يسود من قبل.
ولاشك في أنني أجد سعادة وغبطة عندما أواجه هوسًا موجهًا ممن يقرأون ما يكتب عن إعمال العقل، وعن مواجهة التكفيريين الجدد، الذين لا هم لهم سوى توجيه عقولنا، أو هذا الجزء الموجود بأعلى الرأس كما يريدون.
وعجيب ما أقرأه وأسمعه عبر القنوات الفضائية الفراغية عن قضايا دينية تثير ضحك ابنائي بدءًا من حكم الطلاق عبر المحمول والإنترنت وتفتيش الزوجة في رسائل الزوج به، أو من خلال رسائل المنتديات الإليكترونية، انتهاء بسؤال جدة طاعنة في السن عن كيفية الاغتسال من الجنابة، وحينما نوجه انتباه إخواننا من الشباب وربما بعض رجال الزي الديني يتهموننا بأننا لا نقرأ، وإذا قرأنا لن نفهم، حتى يصل بهم الأمر في النهاية إلى حد التكفير، وأقسم بربي للمرة الثانية بأنني مؤمن وموحد بالله حتى أفوت وغيري الفرصة عليهم.
إن ما فعله جاليليو منذ قرون مضت وجعلنا مضطرين لسرد قصته لأمر واضح وجلي للأفهام، إنه حاول أن يبرهن على دوران وحركة الأرض، وواجه بسبب آرائه تلك تهمة الزندقة والخروج على التعاليم الدينية، وهو ما يريد أن يفعله اليوم بعض الرجال المحسوبين على ديننا الحنيف إذا فكرنا قليلًا فيما يقولون ويسردون من قصص لا أصل لها في تراثنا الحضاري نزعوا إلى العنف وإلى التكفير وإلى إهدار الدم، واستباحة العرض للمخالف، ولعل هذا في رأيي هو الذي أوجد فقهًا تعسفيًا مغاليًا، فكيف سيدعون يومًا إلى ثقافة التسمح والمواطنة والتعايش؟.
والحديث هنا يدفعنا مرة ثانية إلى توجيه الدعوة للمؤسسة الدينية الرسمية التي بصمتها عما يحدث من مهاترات فقهية عبر القنوات الفضائية تهتز مصداقيتها عند شبابنا وتلاميذنا، فإن هذا الفكاك الذي يحياه بعض شبابنا هم مسئولون عنه بالتزامهم الصمت تجاه ما يفعله البعض، بل لقد ضقت ذرعًا بعبارة أنني أكبر من الرد على مثل هذه التفاهات والمهاترات، فإذا صمت هذا، وابتعد ذاك عن المواجهة فلا عجب من بزوغ فكر يدعو للعنف والقتل والتكفير وحجر الرأي.
ومن أعجب ما سمعت أن هناك كتابات تتناول بالحديث والجدال والحجاج والمناظرة قضية الحجاب، متغافلين بذلك كونه فرضا دينيًا وليس مجالًا لمزاولة فتنة النقاش العقيم، والحمد لله أنني لم أضحك من شر البلية، ولو كان ديكارت بيننا حاضرًا اليوم لتنازل عن كتابه الرائد ” المقال في المنهج” الذي أشار فيه إلى القواعد والإرشادات التي ينبغي أن نتبعها كيما نستخدم ملكاتنا العقلية على الوجه الأكمل.
ولست ممن يحاربون الماضي برمته، بل إننا لم نفطن حاضرنا إلا باستيعاب ما تركه لنا السابقون في مجالات التوحيد،والفقه، والحديث، والتاريخ الإسلامي، لكنني أصبحت أمقت مصطلح إعادة قراءة الماضي، وتحليل الموروث الثقافي، بل إنني أحلم بالانطلاق إلى واقعنا الحالي وما يحمله من تحديات ومعوقات تثقل كاهلنا، ولقد عجبت من قول أحد رجال الدين المعاصرين الشيخ (ص) حينما قال إن ثقافتنا الإسلامية لهي جديرة بأن تصارع ثقافة الآخرين، وأن تصرعها وتخلصها من شوائب المدنية الزائفة وأن تحولها إلى دماء صالحة.
والعجب كان فيما استخدمه ذلك الشيخ الجليل من عبارات تنتمي للعصر الأيوبي، والبصاصين المماليك من مصارعة الآخر، وصرعه، وتحويل الشوائب إلى دم، وما أفظع تلك التشبيهات، وكأنه لم يعي عصره الذي يعيشه، والذي يتسم ليس بإرادتنا بالتسامح وقبول الآخر وليس بصرعه وإراقة دمائه.
وأجدني مدفوعًا للحظات لأن أكتب عن الإنسانية التي باتت غائبة في مجتمع يتسم بالتسارع في أحداثه حينا، وبالتصارع أحيانًا كثيرة أخرى، تلك الإنسانية التي بحق الوقود الذي يمجد ولا يحرك فقط حياتنا لنراها جميلة وأكثر سحرًا، والإنسانية حينما أفكر في مضمونها أجدها في مناطق جغرافية شتى في مصر المحروسة؛ في النوبة بسمارها وسحرها وأناقة بيوتها وملابس أهلها، أجدها في شوارع مدينة الإسماعيلية التي زرتها مرة واحدة ولم تفارقني فتنة مناظرها، الإنسانية أجدها ويجدها غيري في شوارع مصر القديمة رغم مظاهر ومشاهد التلوث البيئي، الإنسانية بحق أجدها في أهل الأقصر الطيبين بدرجة استثنائية، وأجدها في بدو سيناء الذين يهيمون في مصر عشقًا وشوقًا.
وأجدها أيضًا في كل مكاشفات الصوفية، هذا العالم الرحب الخصب الذي لا ينضب ولا تنتهي أسراره وكأنك في بحر عميق، وكلما اقتربت من هذا العالم وأهوى الولوج في أسراره ومكابداته أزداد لهفة في النيل من أسراره والتعمق في أغواره، وأصبح الحديث مع أصدقائي عن إنسانية هذا العالم الملئ بالجاذبية واكتشف أن معظم من أحادثهم لا يميلون للتصوف لأسباب وعوامل شتى؛ منها تلك الممارسات التي يرونها في موالد الصوفيين أنفسهم، أو تلك المعتقدات الخاطئة عن هذا الكون الاستثنائي، وأخيرًا الرمزية المفرطة التي امتاز بها واتسم هذا النمط الإنساني في العبادة، لذا تظل المشكلة الرئيسة لأقطاب التصوف الإسلامي مع العامة هي الشيفرة اللغوية التي تقتنص الرمزية وحدها وتميل طوعًا أم كرهًا إلى استخدام خطاب لغوي غير متحفي (نسبة إلى المتحف) أو مؤسسي تداولي، بل هي لغة تلجأ عادة إلى الاحتفاظ بأسرار دلالاتها الاستثنائية وكأنها تشكل نصًا غير مواز للغة الفصيحة المؤسسية أو لغة الشارع الذي يحترف التلقي السلبي بامتياز .
هذا ما يمكن أن نتلمسه بوضوح في الخطاب الصوفي عند محي الدين بن عربي، والحسين بن منصور الحلاج، والسهروردي، وغيرهم، ولعل هذه الأسماء وغيرها لا تبدو معروفة للكثير نظرًا لمحاولات السلفيين وأمراء التيارات الدينية المتطرفة جدًا لتشويه هذه القامات الإنسانية قبل الدينية، ولعل متصوفة الإسلام ـ وحدهم ـ استطاعوا أن يتلمسوا خصائص اللغة العربية التي انفردت بها اللغة العربية من اشتقاق ونحت ومشترك لفظي، ورغم أن هذه الخصائص هي سمات ميزت اللغة العربية في استخدامها الفصيح إلا أنها لدى الصوفية شكلت مراوغة لغوية أمكنت من الفرار من شره التصنيف والقنص تارة، ومن مشاكلة الطرح الفكري داخل العقل تارة أخرى .
وأنا ألتمس لبرهة قصيرة جدًا العذر لكل من رفض بل ومقت الاقتراب من عالم التصوف الذي اعتبره ملمحًا إنسانيًا قبل كونه مظهرًا وحركة دينية محضة، لأن الاقتراب والولوج والاعتقاد بإسهامات أقطاب التصوف يحتاج إلى دراية واسعة باللغة وأسرارها وتراكيبها ويحتاج إلى تعمق لا محدود بكنه مكونات اللغة من أصوات ودلالة وتراكيب وبلاغة سياقية، وهي كلها أمور قد تستعصي على الرجل البسيط غير المتخصص. وتلك اللغة التي تبدو رمزية وغامضة معظم الوقت، وربما رمزية النظم وغموضه يعد من أسرار التصوف؛ حيث إن الذين يعمدون الوصول إلى معارجه لا يتجرعوا مرارة الإخفاق وتعثرات النفس التي تصاحب الفشل في الحياة الاجتماعية.