شهد العالم في الآونة الأخيرة التطور الهائل الذي أحدثته التكنولوجيا في جميع مجالات الحياة، إذ تطرح علينا يوميًا كل ما هو جديد في عالم الرفاهية والتقدم، وهو ما أدى إلى عدم قدرة الأجيال على مواكبة هذا التنوع والغنى الفائق الذي أحدثته، فقد فاق كل التوقعات البشرية مما جعل الحياة أكثر سهولة ويسرًا.
ومع ذلك، فقد لاحظنا أن هذا الثراء التكنولوجي قد أفرز لنا أجيالًا تتسم بالهشاشة النفسية.
وتعني الهشاشة النفسية عدم القدرة على مواجهة ضغوط الحياة وتحدياتها، بالإضافة لعدم القدرة على الالتزام وتحمل المسئولية، سواء في مجال الأسرة أو العمل أو المجتمع. لقد كثرت شكوى الشباب من معاناتهم وعجزهم عن مواجهة الضغوط، فنجد الشباب يضخم الألم ويبالغ في وصف المشكلة ويشعر بالجرح من أبسط المواقف، بالإضافة للشكوى من إخفاقه في التوقعات العالية التي رسمها في ذهنه من نحو المجتمع. وقد أدى ذلك إلى شعوره بالإنهاك النفسي والعجز والضياع وعدم القدرة على المقاومة مما أصابه بالاستسلام وخيبة الأمل. ومن الملاحظ إصابة الشباب بالأفكار السلبية، فهو يصف أي نوبة حزن يمر بها على أنها اكتئاب أو أي موقف صعب يسبب له الضيق بأنه صدمة نفسية Trauma. وما زاد الأمر سوءًا هو انتشار التشخيصات عبر السوشيال ميديا والتي لا أحد يعرف مصادر دراسة مقدميها أو محتوى شهاداتهم، حيث إنهم يتحدثون بكلمات أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها لا تمت بأي صلة للعلم أو المعرفة. وهكذا يقع الشباب في فخ الاضطرابات النفسية والإصابة بالإجهاد النفسي والأرق الليلي والقلق المرضي.
أسباب الهشاشة النفسية:
الإصابة بالهشاشة النفسية قد تأتى من عدة مصادر من أهمها ما يلي:
1- نقص التربية:
من الملاحظ أن التأثير الأسري على الأبناء أصبح هزيلًا بالنسبة للمؤثرات المجتمعية الأخرى وما تحمله من قيم ومبادئ هابطة، بالإضافة لتركيز الوالدين على تسديد احتياجات الأسرة وتهيئة ظروف مادية مناسبة تتيح للأبناء حياة سهلة وميسرة.
وقد أدى ذلك إلى إهمالهم في زرع مبادئ وقيم أخلاقية تحصن الأبناء ضد الهشاشة النفسية، إلى جانب عدم تدريب الأبناء على القدرة على الاستقلالية وتحمل المسئولية، مما جعلهم يفتقدون للمتانة النفسية التي يمكن بها مواجهة أزمات ومشكلات الحياة.
2- الفراغ العاطفي:
لقد أدى تركيز الوالدين على تسديد الجانب المادي دون العاطفي إلى عدم وجود مخزون عاطفي بالجهاز الوجداني للأبناء، مما دفع بهم إلى محاولة البحث عن مصادر أخرى للحب وتقدير الذات خارج إطار الأسرة، وقد ساهم في إشباع هذا الاحتياج السوشيال ميديا والتي يتعامل معها الشباب وكأنها واقع حقيقي. وهكذا أصبحت علاقاته من خلال الميديا علاقات هشة حيث إنها قائمة على الزيف والخداع.
3- الفراغ الروحي:
أغفلت الأسر الحديثة الدور الأساسي من نحو أبنائها وهو زرع تعاليم الملكوت التي تتسم بالحب والعطاء والقداسة، وقد كان من نتيجة ذلك هو قيام الشباب بممارسات خاطئة مثل التمرد والإلحاد والإدمان بكل صوره، بل وبكل ما هو ضد قوانين الملكوت.
4- الفراغ الوجودي:
إن أغلب الأجيال الحديثة لا تدرك الهدف من وجودها أو معنى الوجود الإنساني. فهي عاجزة عن وضع أهداف أو قضايا تنشغل بها حيث ليست لها مرجعية أو قيم أو أسس تحكم حياتها، لذلك فهي غير قادرة على الإنجاز أو الإحساس بقيمة الحياة. وقد دفعه ذلك إلى أن يشبع فراغه بالاستغراق في الأمور التافهة مثل أخبار الفنانين وأبطال الكورة.
5- السوشيال ميديا:
إن من أخطر المصادر التي أدت إلى انتشار الهشاشة النفسية هو وجود السوشيال ميديا وما لها من تأثير سلبي، فقد عملت على ظهور أعراض متعددة منها:
أ- تعزيز النرجسية: وهو ما ظهر بوضوح في فكرة (السيلفي)، حيث يدور الشاب حول نفسه Ego Centric، فهو لا يهتم إلا بقضاياه الخاصة، إذ يستمد قيمته من خلال كثرة المعجبين وعدد اللايكات والشير التي يفوز بها على صفحته، وكلما زاد عددها شعر بقيمته.
ب- الشعور بالملل وعدم التركيز: إن كثرة مشاهدة الأحداث والمواقف والأخبار أصبحت محفزًا قويًا للمخ أدى إلى عدم قدرته على التركيز، وبالتالي قلة إنتاجيته، وهكذا تسلل الشعور بالملل.
ج- الخلل في معايير النجاح: لقد اختلت موازين النجاح لدى الشباب، فأصبح نجاحًا مزيفًا ومسطحًا، إذ يتوقف على عدد متابعيه وتفاعل الآخرين وتداول التريندات على صفحته، مما أدى إلى إصابته باللامبالاة بما يحدث خارج الأنا.
كيف يمكن التخلص من الهشاشة النفسية؟
– في البداية، لا بد من شحن النفس بالحياة الروحية وذلك بالعلاقة المستمرة مع الإله الحي وهو شخص المسيح مصدر الحياة حتى يمكننا استعادة هويتنا الأصلية التي على مثال طبيعة الله (الحب والقداسة والعطاء)، وبالتالي يدرك الشخص قيمته الحقيقية وهدف ومعنى وجوده في الحياة. كما أنها فرصة للتعبير عن المشاعر العميقة التي يعاني منها الشخص. فالله هو الشخص الوحيد الذي يشعر بآلامنا وصراعاتنا، إذ أن لديه كتالوجًا لتفاصيل حياتنا، وبالتالي يمكنه إعادة توازن حياتنا النفسية.
إن هذه العلاقة تمنحنا الوعي بذواتنا وتكشف لنا تقلباتنا المزاجية، فالحياة كما تحمل الأحداث السارة تحمل أيضًا الأحداث المؤلمة، إلا أن الآلام تعمل على تشكيلنا وتغييرنا إلى الأفضل حتى نصل إلى قامة ملء المسيح، وهو الهدف من وجودنا، كما تمنحنا العلاقة مع الله الرجاء، وهو الحصن الذي يقودنا إلى عدم الاستسلام للأحزان والآلام، بالإضافة لأن الشركة مع الآب السماوي هي أعظم شركة تساعدنا على ملء الفراغ الروحي والعاطفي والوجودي.
– محاولة استعادة الأبناء العلاقة التي فُقدت مع ذويهم وأسرهم حتى يمكنهم الاستمتاع بالدعم النفسي القادر أن يشبع احتياجاتهم العاطفية، وبالتالي يستبدلون الواقع المزيف المستمد من وسائل التواصل بالواقع الحقيقي الذي فيه الأمان والحب والراحة.