المكسب والخسارة لثورة يناير الجبارة

7

العدد 101 الصادر في فبراير 2014
المكسب والخسارة لثورة يناير الجبارة

    لا شك أن حساب المكسب والخسارة لأية هيئة أو مصلحة، أو حتى محل بقالة صغير أو شركة تجارية كبيرة، هو شيء حتمي في نهاية كل عام، أما لماذا لابد من حساب المكسب والخسارة، فبديهي أن يكون لعدة أسباب، كمعرفة السلعة أو المنتج أو الخدمة المطلوبة من المستهلك، والأكثر فائدة له، والسلع التي عفى الدهر على استخدامها والبعد عنها، واستثمار الطاقات والأموال والوقت في أمر آخر أكثر نفعًا للمستهلك، وأكبر ربحًا للتاجر، وأعظم تأثيرًا على حياة الفرد والمجتمع. كما أن حساب المكسب والخسارة يوفر ما يعرف بالنقطة المرجعية، أي المقياس الذي يقيس عليه القائم بأي عمل ما مدى تقدمه أو تأخره، مكسبه أو خسارته في الأعوام التالية، وهكذا الحال الذي لابد أن يتبع عند دراسة الثورة المصرية في يناير 2011 وما بعدها من ثورات وانتفاضات. وهناك كثير من المحاور التي يمكن دراستها للتوصل لنتيجة حقيقية علمية ومرضية للدارسين، لكنني سأختصرها في ثلاثة محاور رئيسية وهي:

     1- مدى استفادة الشعب المصري دينيًا على اختلاف أديانه وطوائفه، وخاصة أتباع الديانات الكبرى الثلاث، المسيحية واليهودية والإسلام من ثورته، وما الأخطاء التي وقع فيها المصريون من الناحية الدينية، سواء أكان هذا على مستوى الأديان كمجموع أو مستوى الملل والنحل في الدين الواحد.

    2- مدى استفادة المواطن العادي، بغض النظر عن دينه، وعقيدته، ونوعه ومركزه في البلاد من ثورته، وما على المواطن عمله الآن، حتى يحصل على الفائدة التي ناضل من أجلها وخاض لأجلها ثورته المباركة.

    3- مدى استفادة مصر دوليًا وإقليميًا وعربيًا من ثورتها، وماذا يمكن أن يُعمل للحصول على أكبر استفادة دولية ممكنة.

    وفى رأيي أنه إن لم تتم دراسة جادة ومخلصة وعلمية لهذه النقاط ستموت الثورة المصرية تمامًا في خلال السنوات القليلة القادمة، وستصبح في خبر كان، وسيرجع الحال إلى أسوأ مما كان عليه في نهاية عهد مبارك، بل وفي عهد حكم الجماعة الإرهابية المحظورة بالقانون. وقد يغضب البعض من تكرار كلمة استفادة الفرد أو الشعب أو أتباع الدين الواحد، وكأنني من دعاة التقسيم والانفرادية والانتهازية، وخاصة أولئك من هم في جيلي الذين تربوا على “ما تقلش إيه إدتنا مصر، قول هاندي إيه لمصر”، لكن الحقيقة لا يوجد ما يسمى بمصر بعيدًا عن المصريين كشعب، ولا يوجد مصريون بلا مصر، إذًا، فوحدة القياس والنقطة المرجعية هو المصري، ومدى استفادته أو ضرره من كل ما يحدث لمصر، كمجموع لشعب واحد.

    وللتوضيح أقول، وبالرغم أننا جريدة تخاطب الشارع المصري بكل أطيافه وأنواعه وأديانه، إلا أن ما يهمني في المقام الأول هو الدفاع عن الأقلية، أية أقلية، مسيحية كانت أو إسلامية، سنية كانت أم شيعية أو حتى بهائية وغيرها، وخاصة الجماعة المضطهدة في كل العصور والأوقات، والمهضومة الحق ومشوهة التاريخ والمستغلة على طول الخط لإرضاء الحاكم وتلبية مطالبه والدفاع عنه وتحسين صورته أمام العباد في الداخل والخارج، وأعنى بها الكنيسة، من لم يتعود أن يعرفها الرؤساء والقادة والساسة إلا في حالة الاحتياج إليها، وقلما كانت الحكومات المصرية في حاجة إلى الكنيسة، فكما قلت مرارًا وتكرارًا أنه لو انسحب المصريون المسيحيون من مصر وعاشوا في الصحراء أو دولة أخرى لما شعر بعدم وجودهم أحد، لا داخل مصر ولا خارجها، اللهم إلا أولئك المهتمين بالحفريات والأثريات والتاريخ والأجناس الذين سيذكرون أنه يومًا ما كان هناك شعب قبطي في بقعة ما في شمال أفريقيا اسمها مصر، وبالتالي فلا وزن لنا كأقباط في ميزان القوى الأمني ولا العسكري ولا المادي ولا الحضاري ولا الاجتماعي في مصر، اللهم إلا أننا مَن كنا مِن قديم الزمان أصحابها والأكثرية فيها، وقد أصبحنا أقلية ورعايا أو على الأكثر شركاء وطن، لشعب لم يكن له وجود يوم علم الفراعنة وبعدهم الأقباط العالم كله الحضارة في القديم، ولا رادًا لقضاء الله، ولا عزاء لمن لم يحفظوا مكانهم ومكانتهم، ولم يقفوا في وجه المستعمر الفاتح لا بصلاتهم ودعائهم مع الشكر لتعلم طلباتهم لدى الله ويوقف زحف المستعمر، ولا حتى بسلاحهم وعتادهم وأجسادهم وأرواحهم لآخر قطرة في دمائهم قبل أن يسلموا مصر للغزاة ليدخلوها إن شاء الله آمنين، وما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا، وإنا لله وإنا إليه لراجعون، وهيه دي حال الدنيا، وكله فان وإلى الزوال، وكلنا ليها وما شابه ذلك من عبارات التواكل والاستسلام والقدرية.

    أما في ما يتعلق بحساب الربح والخسارة لليهودية وللمسيحية والإسلام، للكنيسة العامة، وللأزهر والجماعات الإسلامية في مصر منذ قيام ثورة يناير 2011.

    دعنى أتكلم عن الخسارة أولا ثم المكسب، حتى أترك انطباعًا إيجابيًا في ذهن القارئ العزيز في نهاية مقالي هذا.

    1- فالكنيسة، وعندما أقول الكنيسة أقصد الكنيسة كلها بطوائفها المختلفة، أثبتت في عصرها الحالي أنها بالفعل كنيسة لاودوكية التي هي أبعد ما تكون عن الإرشاد الإلهي، وحتمية سماع صوت المسيح الواضح فيما يتعلق بكل ما يختص بها ككنيسة، ببساطة لأنها جسده، تبارك اسمه، الكائن على الأرض، فهي تتصرف على هواها وتجر وراءها شعبها إلى كل ما يجلب العار عليهم، وعلى اسم المسيح القدوس العظيم، فمن أكبر المصائب التي اتصفت بها كنيسة لاودوكية متمثلة في ملاكها أنها “لا تَعْلَمْ” ولكنها بالرغم من عدم علمها فإنها “تقول” وتتكلم، أي أنها لا تميز حالتها الحقيقية، ولا تعلم شئ عن ما وصلت إليه من سوء الحال والأحوال، ولا تعلم كيف تتصرف في أبسط الموضوعات الروحية التي تصطدم بها، وبالتالي في مواقفها السياسية والاجتماعية التي تواجهها على مر عصورها وأزمانها، ولذلك فهي تعوض عن عدم علمها بمجرد الكلام، فتقول وتقرر وتشرح وتحرض وتسمح وتمنع وتحكم وتحل وتربط فيما لا علم لها به، وما قد لا يدخل في اختصاصها من أساسه، ففي وحي المولى، تبارك اسمه، لملاك كنيسة لاودكية قال له ” لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إلى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ (رؤ3:17) علمًا بأن الكنيسة الحقيقية، جسد المسيح على الأرض، هي الوحيدة المعطاة من الله أن تميز الأزمنة والأوقات، وتميز الأمور المتخالفة، وتميز الأرواح والتصرفات بموهبة تمييز الأرواح، وقد ترك لها، تبارك اسمه، بالروح القدس، موهبة خاصة لتمييز الأرواح، وهي الوحيدة التي منح لها من رب السماء والأرض سلطانًا إلهيًا بأن ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وأن ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماء، ذلك السلطان الذي أساءت الكنيسة فهمه واستخدامه على مر العصور والأزمان، وبدلا من أن تستخدمه في مقاومة الأعداء والمهاجمين استخدمته ضد أبنائها وجسدها والمختلفين مع قادتها في العقيدة والتعاليم والممارسات، وهي وحدها، أي الكنيسة، القادرة على أن تعلم الغيب، وتنبئ به قبل حدوثه، لأن رأسها هو المسيح يسوع، تبارك اسمه، علام الغيوب، وهو إله غير صامت، ولا منفصل عن شعبه وعن مملكة الناس، بل هو المتسلط فيها ومازال يتكلم، أليس الروح القدس الساكن في الكنيسة اليوم هو نفس الروح القدس الذي حذر ملك إسرائيل، بواسطة عبده نبي الله أليشع في القديم، لا مرة ولا مرتين من خطط ملك آرام، وأخبره من أي طريق كان سيأتيه الخطر، فكان يتحذر، ومنع بكشفه لخطط عدوه المسبقة نشوب حرب وقتل ودمار في إسرائيل شعبه، أليس هو نفس الروح القدس الذي نصر شعبه في القديم على كل أعدائهم وطردهم من أمامهم وملكهم أرضهم، فإن حدث ذلك بالروح القدس في عصر ما قبل تواجد المسيح بالجسد على الأرض كإنسان، فكم يكون ما يمكن أن يحدث اليوم في عصر الروح القدس؟!

    لماذا لم تتعود الكنيسة أن تسأل رأسها غير المنظور، السيد الرب يسوع المسيح، عن كيف تتصرف في المواقف والأحداث الجارية في مصر، حتى لا تتخبط في قرارات عشوائية غير صائبه في قضايا مصيرية في تاريخها ككنيسة، فرأس الكنيسة المصرية يطلب من المسيحيين أن لا يشاركوا في ثورة يناير، والحمد لله أنه وجد من لم يسمع له، ونزلوا بالآلاف جنب إلى جنب مع المسلمين، وعندما خلع الرئيس الأسبق وقَبْل سيطرة الإخوان على مجلس الشعب ثم الحكومة، تسارعت الوفود الكنسية على اختلاف طوائفها في عملية تمثيلية اسمتها “مد الجسور” والتقرب لهم، وساعد كثير من الكهنة والقسوس العديد من الإخوان في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، وأقاموا لهم السرادقات، وقدموا الخطب المطولة في مدحهم، والتأكيد على صلاحهم واستحقاقهم للمناصب المرشحين لملئها، مع أنهم لا يتركون منابرهم ككهنة وقسوس بعضهم لبعض للوعظ والإرشاد من نفس الكتاب الواحد الوحيد المنزل من الحكيم العليم، الكتاب المقدس، لكنهم تركوا منابرهم وكنائسهم وقاعاتهم لأعضاء المحظورة الشريرة ليخطبوا في شعبهم، حتى أن أحد الكهنة كان يصرخ بأعلى صوته بأننا كمسيحيين نريد تطبيق الشريعة الإسلامية، فصفق لهم السلفيون والإخوان والمتأسلمون، واستغلوهم ومناصبهم في خداع البسطاء من الأقباط، كل هذا ولم يتحرك ساكنًا لقيادة الكنيسة حتى بنصح هؤلاء الكهنة بالابتعاد عن هذه الممارسات الشيطانية، مع أنه كان على هذه الرياسات أن تحاكم أمثال هؤلاء، حتى يكونوا عبرة للآخرين، وحتى يطهروا الكنيسة من الدنس والغش والخداع، لكنني أعلم أنه مضى عصر بطرس الرسول الذي كان لديه بالروح القدس كشف لما خفي عن قادة الكنيسة، والذي فيه سقطت سفيرة وحنانيا أمام رجليه ميتين لأنهم تجرؤا بالكذب على الروح القدس. والغريب أنه بعد ما تمسكت الكنيسة بمبارك وعائلته، عادت وساندت الإخوان كما ذكرت سابقًا، ثم ساندت السيسي والشعب المصري في الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين، وظهر رأس الكنيسة القبطية في محفل رسمي ليشدد على أهمية تأييد خريطة الطريق التي وضعت لإقالة مرسي المخلوع وجماعته، وإرجاع مصر إلى مستقرها، وبهذا يكون قد زج بنفسه وكنيسته والمسيحيين في معترك العداوة مع الإخوان المسلمين، فتكسرت الجسور التي بناها سابقه، وتحطمت الجسور التي حاولت الطوائف المسيحية غير الأرثوذكسية بناءها، مع أنه كان في غنى عن كل هذا، وكان من الممكن قراءة الفخ المنصوب من عدو النفوس وتجنبه وعدم الوقوع فيه، وصدقوني، والله على ما أقوله شهيد، أنه لو خرج مرسي من السجن وعادت جماعة الإخوان إلى الحكم مرة أخرى، لأسرع قادة الكنيسة لإصلاح الجسور التي تهدمت بعد أن مدوها سابقًا. فملخص القول إن الكنيسة لا تسير برؤى إلهية واضحة، ولا خطوات إيمانية ثابتة، بل هي قشة في مهب الريح، فهي لا “تعلم” لكنها “تقول”، تمامًا ككنيسة لاودوكية، كما ذكرت سابقًا. ففي مجال المحاسبة والمكسب والخسارة نرى أن الكنيسة كسبت كثير من الوعود ببناء الكنائس المحرقة والمهدمة على حساب الدولة، وكلها وعود، الكنيسة أيضًا كسبت رضاء بعض القادة والمسئولين بسبب تعاونها مع السلطات الجديدة، الأمر الذي عرضها لكل هذه المعاناة، كسبت أيضًا أنها كانت مثال رائع لضبط النفس واحتمال المشقات والحرائق والقتل والخطف، ولعل أكبر ما كسبته الكنيسة في الفترة السابقة، هي أنها أُجْبرت، نظرًا للظروف التي تمر بها، أن تصلي لوحدتها ولمصر، وأن تتقارب طوائفها، ولو بنسبة 5% عن ذي قبل، لكنها خسرت أكثر من 55 مبنى لكنيسة حرقت أو هدمت أو أتلفت، خسرت المئات من أولادها صغارًا وكبارًا بين قتيل ومصاب ومعوق سيظل طوال حياته طريح الفراش، خسرت هيبتها بين روادها، وانكشف بطل وتملق ومراوغة وخداع وكذب كثير من قادتها والمتحكمين في شأنها، وقلت خبرتهم وتخبطهم في اتخاذ القرارات، وأنهم لا يزالوا يأخذون قرارات لتنفيذها دون اعتراض أو مناقشة أو مجادلة، وانكشفت الكنيسة وقادتها أن اتصالها بمولاها المسيح يبدو أنه انقطع منذ قرون عديدة، وإلا ما أسلمها، تبارك اسمه، لهذا التخبط الواضح المهين، بالرغم من أنها تستطيع أن تقول كما قال ملاك كنيسة لاودكية “أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شئ” فلم تعد تسير الكنيسة بناء على إرشاده، تبارك اسمه وقيادته، ولم يعد بها من يستطيع أن يقول “رأى الروح القدس ونحن” أو “هكذا قال رب الجنود” فهي لا تسمع لمثل هؤلاء، بل تعتبرهم من المرضى المهلوسين والمشعوزين إن وجدوا على قلتهم، ولم تعد تملك من يستطيع الوقوف في مثل هذه الأزمات ويقول “أنذركم أن تسروا لأنه وقف بي هذه الليلة الإله الذي أنا له، والذي أعبده وقال لي لا تخف يا بولس، لذلك سروا أيها الرجال لأني أؤمن بالله أنه يكون هكذا كما أعلن لي”. ولم يعد في صفوفها من يستطيع أن ينظر إلى روح العرافة والشر وروح ضد المسيح ويقول له بجراءة المسيح “أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها” دون خوف من مواليها أو حساب لغضبهم وانتقامهم، أما تقييمنا لقسم بناء الكنائس، فلست أدري كم كنيسة جديدة قد بنيت منذ قيام ثورتنا المباركة، وهل تساوى عدد الكنائس الجديدة التي أقيمت في مصر مع عدد ما أحرق وتهدم منها، لعل نفس الحجة التي كانت مباحث أمن دولة مبارك مازالت قائمة هي أن المسلمين في هذه المنطقة أو تلك يرفضون إقامة كنيسة بجوار مسجدهم، أو في قريتهم أو بالقرب من بيت أحد المهمين في القرية أو المدينة، وليس ذلك فقط، بل زاد عليها ما حدث في السنوات الماضية من انفلات أمني، وبرطع الإخوان المسلمون في مصر، فأصبح المعترضون على الكنائس لا يتركون أمر رفض بنائها لمباحث أمن الدولة، كما تعودنا، بل يقومون هم باتخاذ القرار وتنفيذه، ولله الحمد من قبل ومن بعد. أماعن أمن المسيحيين وحريتهم في العبادة والعيش في بيوتهم وقراهم ومدنهم، فأصبح مرهونًا في مرات كثيرة إما بلبس الحجاب، أو الخضوع ودفع الجزية عن يد وهم صاغرون، وإما لعصابات السلب والقتل والخطف، وما خفي كان أعظم. إذًا، فمن الواضح أن خسارة الكنيسة كجزء من تقييمنا لثورة مصر وما بعدها هي خسارة فادحة، ولابد من التدخل السريع والمُلِّح لإصلاح وضع هذا العنصر الأساسي، وإلا وجب علينا أن نلغي هذا العنصر تمامًا من تقييمنا لثورة مصر العظيمة، وليعود المسيحيين إلى كنائسهم وأديرتهم ومصالحهم، ويقبلوا بالأمر الواقع، إلى أن يقضي ربك أمرًا كان مقضيا. وعلى الكنيسة إن أرادت أن تتدارك أخطاءها وتقوم بتصليحها، أن تقوم بدراسة دقيقة وافية للوضع المسيحي في مصر، وتكون دراستها مدعمة بحقائق ووثائق وأرقام وأن لا تخفي رأسها في التراب، انتظارًا لفرج الله، بل تتخذ خطوات عملية، وقد تكون إيمانية في بعض الأوقات لإصلاح ما أفسدته في الماضي، والاجتماع حول دائرة مستديرة، لا تفرق بين رتبة كنسية وأخرى، ولا بين خلفية أو مذهب مسيحي وآخر، وتبدأ في التعامل الحقيقى الجاد الفعال لمشاكلها ومواقفها ومستقبلها وعلاقتها بكل العناصر المكونة لمصر، وأن تستمر في الصلاة للقادر أن يخرجها من الهوة السحيقة التي سكنت بها لقرون عديدة.

    أما عن ما خسره أو كسبه الإسلام في مصر من خلال ثورتنا المباركة، فهو أيضًا كثير جدًا، أقول فيه إنه لا يمكنني أن استرجع أية مكاسب للإسلام والمسلمين في الفترة الماضية منذ قيام الثورة حتى الآن، فلقد اتضح أن الإسلام السياسي الذي تستخدمه الجماعات المختلفة أثبت فشله تمامًا في إدارة البلاد والعباد، وظهرت أطماعه ونواياه في الحصول على السلطة دون حق، وظهرت صفاته في الكذب والمراوغة والحقد والإرهاب والحنث والسرقة والقتل وبيع مصر بأبخس الأثمان، وتهريب الغاز والبترول والسلع والمنتجات المصرية عبر أنفاق حفرت لنهب الطاقات المصرية وبأيد مصرية، واستخدام النساء والأطفال كدروع بشرية لتحقيق مآرب شيطانية. هذا هو الإسلام السياسي الذي يقول لنا الأحباء العقلاء من المسلمين إنه مختلف تمامًا عن الإسلام الحقيقي، وعملا بمبدأ أن المحبة تصدق كل شئ، فنحن كمسيحيين نريد ونرغب في أن نصدق أن ما رأينا من إسلام في عصر المحظورة شئ مختلف عن الإسلام الحقيقي الذي مازلنا ننتظر ظهوره لنا في مصر، وعلى الإخوة المسلمين أن يثبتوا لنا أن الإسلام الحقيقي، الذي لا نعرفه نحن المسيحيين المصريين، لأننا لم نره عاملاً بالمحبة أبدًا في مصر من قبل، يختلف عن الإسلام الذي أطلقوا عليه الإسلام السياسي، والذي كرهه الغالبية العظمى من المسلمين قبل المسيحيين، فنحن في انتظار الإسلام الذي يساوي بين المسلم وغير المسلم في الدم والحقوق والواجبات وبناء الكنائس والأحكام والثواب والعقاب والامتيازات والوظائف والتعيينات والتعليم والقبول في الكليات وبناء دور العبادة وتغيير الديانة في بطاقات الرقم القومي وزواج المسلمة بالمسيحي، كما هو الحال مع زواج المسلم من مسيحية و.. و.. و.. وغيرها، وعلى كل حال فلقد كان من نتائج الثورة المصرية، وما تقوم به الجماعات الإسلامية المختلفة، ليست في مصر وحدها، بل في سوريا والعراق واليمن والبحرين وغيرها، أكبر خسارة للإسلام عرفها التاريخ الحديث، وبكل أسف أقول لقد أصبحت كلمة إسلامي في الغالبية العظمى من بلاد العالم مرادفة لكلمة إرهابي، وهذه خسارة كبرى للمسلمين والإسلام، وعلى الإخوة المسلمين إدراك ودراسة هذه الحقيقة، فلقد مضى عصر “وأعدوا” والفتوحات، فالعالم لن يفتح إلا بالعلم والمحبة والإخاء.

    2- أماعن مدى استفادة المواطن العادي، بغض النظر عن دينه، وعقيدته، ونوعه ومركزه في البلاد من ثورته، وما على المواطن عمله الآن حتى يحصل على الفائدة التي ناضل من أجلها، وخاض لأجلها ثورته المباركة، فالواضح أن المواطن المصري العادي قد استفاد بأنه كسر حاجز الخوف من السلطات والحكومات، وأصبح بقادر على خلع أي رئيس يسيء استخدام سلطته، حتى لو خلع اثنين منهم في غضون ثلاثة سنوات، وما استفاده أيضًا أنه بدأ بالفهم لمن حوله من البلاد التي خدعته وقادته لمدة طويلة بإدعاء صداقات زائفة في عروبة لا تصلح حتى لتأليف أغاني حولها، وكما اكتشف نوايا كثير من كثير من الدول الغربية، وما كانوا يخططونه ضد مصر وأمنها وسلامتها، وكانوا يظهرون في ثياب الحملان والمدافعين عن المضطهدين والمقهورين، وهم عنصر أساسي فيما تعاني منه مصر من اضطهاد وكدر، لقد استفاد الشعب المصري أيضًا من اكتشاف أن الإسلام السياسي، كما قلت لا يصلح أن يقود مصر، ولا حتى قرية في بنها، فالأمر أكبر من دولة الخلافة أو حكم مسلم ماليزي لمصر، وأن من يتجرأ أن يقول “طظ في مصر” لا مفر من أن تحنى رأسه ويمتلئ فمه بحصى الندم والحسرة، حتى لو فرح قليلا لمدة من الزمان بنصر مزعوم وقيادة مؤقته لأم الدنيا. أما خسارته فكانت بسبب جهله، وظنه أن “الإسلام هو الحل” حتى اكتشف أن الإسلام الذي طبقته جماعة “وأعدوا” ليس هو الحل على الإطلاق.

    لقد استفاد المواطن المصري من كسر حاجز الخوف من رجال الأمن والشرطة، ومع كل إدانتي الشديدة لأي عنف من أي نوع، إلا أنني أرى أن الشرطة في أواخر عهد مبارك، كانت بحاجة لثورة شعبية لتكسر كبرياءها وغطرستها، وتحكمها في خلق الله لحساب حاكم ظالم، ولتحقيق مآربها الشخصية، ولكن ما خسره الإنسان المصري هو الوجه الآخر لنفس العملة، فلم يعرف حدوده في تعامله مع الشرطة المصرية، ولم يكتفِ بالحصول على حقوقه، واحترام جهاز الشرطة، وإعطائه فرصة لتصحيح أخطائه، بل مندفعًا بمعاناته، حاول الانتقام لنفسه من هذا الجهاز الأساسي في أية دولة متحضرة، وأخشى ما أخافه أن تكون الرائحة المنبعثة من جهاز الشرطة اليوم تكون هي نفس الرائحة التي كانت تنبعث منه في أواخر أيام مبارك، رائحة القبض والظلم والتعذيب والنهب والسلب والغطرسة والاعتداء على حقوق وحرية المواطن المصري، وغيرها من عناصر القائمة السوداء، لممارسات رجال الشرطة في الماضي، فنحن نريد جهاز شرطي قوي يردع الظالم، لكن لا يظلم، ويعاقب السارق لكن لا يسرق، يسجن المجرم، لكن لا يعذبه، وإني لواثق أن قادة هذا الجهاز الخطير لقادرين على فعل ما هو في مصلحة مصر، ليت شعار “الشرطة في خدمة الشعب” يعود مرة أخرى لا كشعار، كما تعودنا أن نراه، بل كحقيقة واقعة مفعلة تجلب شكرنا لقادة هذا الجهاز وتحفزنا على الصلاة لأجلهم، لنقضي أيام هادئة مثمرة جميلة في مصر العظيمة.

    3- أخيرًا أقول إن على مصر أن تثبت للعالم أجمع أنها قادرة على بناء نفسها من جديد دون، الحاجة للأمريكان، ولا أردوغان ولا بوتان، فمصر هي حجر الأساس في عالم اليوم، وهي قادرة على تسيير نفسها، بل والتأثير على غيرها من بلاد العالم الواسع دون تدخل أجنبي. وعلى العالم أن يدرك أنه مادامت مصر تحوي بين جنباتها الكثير من الرجال، أمثال السيسي ورفاقه، الذين تحدوا ليس فقط أعضاء جماعة محظورة مسيطرة متسلطة على الحكم، بل على إرادة العالم كله تقريبًا، ونفذوا ما أنقذ مصر من سلطاتها المزعومة، لهي قادرة على بناء ليس فقط دولة مصرية أعظم، بل عالم دولي أفضل، وأكثر إشراقًا واستقرارًا.

    اللهم احم مصرنا من مؤامرات الأعداء، واكفنا شر من يمثلون دور الأشقاء، وارحمنا من التدين وتهم الاذدراء، وأنعم علينا بنعمتك بالأمن والأمناء، وسدد خطى قادتنا ونجنا من الكبرياء، ولك شكر قلوبنا يا رب الأرض والسماء.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا