المفاهيم التربوية والصحافة المتخصصة

12

مدحت بشاي

أسعدتني في الفترة الأخيرة مطالعة موجز دراسة بحثية تحليلية هامة بعنوان “المضامين التربوية في قضايا الخطاب الديني المسيحي بالصحافة القبطية”، وهي دراسة من إعداد الباحثة “أسماء عبد السلام أحمد” وزميلتها “فيفيان فتحي باسيلي” المدرستين بكلية أصول التربية جامعة الفيوم.

 تؤشر الدراسة إلى أهمية البحث عن المضامين التربوية بقضايا الخطاب الديني المسيحي بالصحافة القبطية (جريدة وطني – مجلة الکرازة) الصادرة عن المؤسسة القبطية الرسمية ممثلًا في کتابات البابا تواضروس الثاني ونيافة الأنبا موسى أسقف الشباب، والخطاب غير الرسمي ممثلًا في کتابات يوسف سيدهم ورسمي عبد الملك، في الفترة من 1/11/2019م حتى 29/11/2020م. واعتمدت الباحثتان على المنهج الوصفي وأسلوب تحليل الخطاب وتحليل المضمون الکيفي.

وتوصلت الباحثتان إلى أن قضايا الخطاب الديني المسيحي بالصحف القبطية عينة الدراسة تضمنت مجموعة من المضامين التربوية ومنها: أهمية القدوة سواء لدى الأبوين أو في خادم الکنيسة أو المسئول الحکومي، والتأکيد على المواطنة الحقة والبعد عن الصراع الاجتماعي داخل المجتمع المسيحي، وإصلاح النظم التعليمية وإرساء قواعد التربية الإيجابية وتربية الوجدان، والفلسفة التربوية الموجهة التي يمکن استخلاص الکثير من أبعادها من خطاب القيادات الدينية والتي تؤکد على تنمية الشخصية الإنسانية المتکاملة وتکافؤ الفرص، وتغيير الصورة الذهنية عن المرأة في محتوى المناهج الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة لتتماشى مع ما تحظى به المرأة من مکانة متميزة في الوقت الحالي ومناهضة کافة أشکال العنف ضدها، والأخذ بالمنهج العلمي في المعاملات بشكل عام، والتأکيد على الحوار کإستراتيجية تربوية تسهم في تحقيق الانفتاح على الآخر، وإبراز أهمية تجديد الخطاب الديني، والتطبيقات الحياتية ودورها في تنمية روح البحث لدى الشباب من خلال التأکيد على أهميتها ليصل الشباب بأنفسهم إلى الفکر السليم واتخاذ القرار البناء بقوة الحجة وإعمال العقل.

كانت تلك السطور بعض ما أشارت إليه تلك الدراسة الأكاديمية.. وأرى أنه ومنذ تسعينيات القرن التاسع عشر بدأت صحف الأقباط الدينية في الظهور، سواء بالنسبة للأقباط الأرثوذكس أو البروتستانت أو الكاثوليك، حيث عُد هذا الأمر في ذلك الوقت نوعًا من الممارسة الديمقراطية والحرية الدينية والحرية الشخصية، كما عُد شكلًا من أشكال المساواة بين المواطنين، فقد تمتع الأقباط بهامش من الحرية الدينية مع بداية حكم محمد علي باشا لمصر عام 1805.

لقد كان المجتمع المصري يسمح بظهور الصحف الدينية دون حدوث أي سجالات سياسية أو فكرية، وكان الأهم هو إتاحة مساحات لحرية تناول كل القضايا حتى ما يقترب منها من أمور تمس مجتمع الكهنة (الإكليروس) والقضايا الكنسية الشائكة من وجهة نظر البعض، بالإضافة لتناول الأمراض الاجتماعية والعادات والتقاليد التي من شأنها الإضرار بالقيم العامة لدى الشباب وأمن وسلام الوطن.

قد يكون أمر تناول أحوال الإعلام الديني والحديث عن مهنية مَنْ يعملون في صناعته وإخراجه في احتياج لأن نعود في ذلك الزمان لمراجعة رأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والميثاق الذي وضعه عند التقييم والمراجعة الفكرية والنقدية لصحافة مسيحية على سبيل المثال… يقول “العميد” عبر مقال رائع تم نشره في مجلة “مدارس الأحد” بعددها الصادر في مايو 1948 محييًا ومقدرًا دور الكنيسة القبطية ورؤاه لتطوير تلك المؤسسة الوطنية بكل شفافية وموضوعية علمية: “الكنيسة القبطية مجد مصري قديم ومقوم من مقومات الوطن المصري، فلا بد من أن يكون مجدها الحديث ملائمًا لمجدها القديم، ولا ينبغي أن نخلى بين رجالها وبين هذه المحافظة الخاطئة التي تغض من هذا المجد وتضع من قدره.. وعليه، الدولة المصرية والكنيسة القبطية يجب أن تتعاونا على إصلاح التعليم الديني المسيحي وتنظيم المعاهد التي تخرج القسيسين والرهبان والملاءمة بين هذه المعاهد الدينية الخالصة ومعاهد التعليم المدني، بحيث تفتح لطلاب المعاهد الدينية المسيحية أبواب الحياة المدنية، إن أرادوا أن ينهضوا بأعبائها…” انتهى الاقتباس من كلام طه حسين.

وعلى مدى حقب كثيرة، كانت لدى أقباط مصر شكوى دائمة من تغييب أمر طقوس وعبادات دينهم بشكل عام وعدم الاقتراب منها عبر كل وسائل إعلام بلدهم، إلا عند حدوث كوارث طائفية، عندها تتبارى الفضائيات والصحف في دعوة الكُتَّاب وأهل الرأي الأقباط للحديث عن أبعاد الكارثة وتداعياتها وتأثيرها.

الملف القبطي من الملفات التي لاقت في الفترات الأخيرة الاهتمام المعقول والملحوظ إلى حد قيام عدد من الإصدارات بتخصيص صفحات يومية لتناول أخبار الكنيسة وكل القضايا المثيرة للجدل وتهم المواطن المسيحي والأسرة القبطية، وأحيانًا إعداد ملفات كبيرة وملاحق حول قضية ما تشكل حالة جدل على الساحة الإعلامية.

ومن الملاحظ أن أغلب مَنْ يعملون في الملف القبطي غير محترفين على المستوى المهني والمستوى المعرفي والمعلوماتي للأسف، لذا يجد المتابع لهم أخطاء كثيرة في متن المواد المختارة ومدى مناسبة طرحها، وعليه نجد أن هناك أسماء غير مؤثرة بالمرة يعتمدونها كمصادر لهؤلاء الصحفيين مما يفقد الملف أهميته وتأثيره. وعلى الجانب المعلوماتي، نجد أن الكثير من هؤلاء ليست لديهم معلومات كافية عن أحوال الكنيسة والكهنة والأساقفة والأقباط عمومًا.

وهناك صحف تعي دورها التثقيفي والتنويري بتناول موضوعي نبيل ومتجرد من أي انحياز فكري أو ديني أو مذهبي متشدد، وتقدم للقارئ ما يسد الفراغ المعلوماتي عن الحالة التي عليها الشأن القبطي، وقد تساهم الإدارة الكنسية ذاتها في صناعة تلك الأزمة بعدم تيسير التواصل مع وسائل الإعلام..

ولدينا أيضًا إصدارات تعمل على طريقة “قلل من النذر وأوفي”، فتكتفي بإبداء المجاملات الطيبة في المناسبات. إنها صحف المناسبات الحاضرة بأقنعة الطيبة الرومانسية .

ونتيجة لندرة الإصدارات الصحفية القبطية الخالصة التابعة للكنيسة أو غيرها والتي يمكن تداولها في سوق الصحافة المصرية، باستثناء جريدة وحيدة “وطني” ولديها التزامات حيث تُفرض -إلى حد ما- على موادها ضوابط كنسية، فتضيع على صفحاتها فرصة إقامة حوار نقدي بين الإكليروس والعلمانيين لصالح تطوير وتفعيل نظم الإدارة الكنسية وسبل تواصلها مع الناس والدولة.

وإلى كنائسنا العتيدة وإلى منابر الإعلام الديني بشكل عام والمسيحي بشكل خاص أهدي إليهم نموذجًا مما كان يُكتب على صفحات إصدار كنسي رائع مثل مجلة “مدارس الأحد”، فقد جاء على سبيل المثال في عدد فبراير 1949 (أي منذ أكثر من 70 سنة) عبر سطور مقال حرره شباب الكنيسة موجهًا لقداسة البطريرك في زمانهم:

إلى حضرة صاحب الغبطة البابا المعظم ..

نتقدم إليك، نحن أبناؤك الشباب، بكل ما يفيض به قلب مخلص خاضع، يكن لك وللكنيسة كل حب وكل احترام، ويا ليتنا يا سيدنا كنا نستطيع أن نحدثك فمًا لفم، إذن لرأيت هذه المحبة وهذا الاحترام واضحين جليين –ولكن الدخول من بابك صعب عسير، فنكتفي بالكتابة، علّ حديثنا يصل إليك. .

إننا نريدك أن تفهمنا.. اقرأ يا سيدنا ما كتبناه عن الأنبا كيرلس الرابع في هذه المجلة بالسنة الأولى العدد 8، واقرأ ما كتبناه عن تاريخ المجلس الملي في العدد 7 من السنة الثانية، واقرأ ما كتبناه عن أن مشاكلنا لا تحل فرادى في نفس العدد، بل اقرأ العدد كله يا سيدنا، وحينئذٍ تفهمنا جيدًا، ولكنهم يخيفونك منا يا سيدنا ويصوروننا لك بصور تنفرك من أولادك، ولو أنحيتهم من الطريق، وفتحت لنا بابك، ولو تفاهمت معنا وفهمتنا، لظهر لك جليًا أنهم مخطئون ..

وأكتفي بذلك القدر من رسالة شباب الكنيسة التي حرروا سطورها بحب وشجاعة على صفحات ذلك الإصدار الكنسي الهام وبتوقيع “شباب مدارس الأحد”.

وقد نسأل في النهاية: ولماذا يتصور البعض أن مثل هذه النوعية من الإعلام الديني قد تساهم في زرع بذور الفتن بين الناس؟… ولماذا تهاجم بعض الصحف الكنيسة بدون معلومات موثقة؟… وهل الصحف تخصص ملفًا قبطيًا بهدف التوزيع أم الإيمان المخلص الحقيقي بهموم الناس وأحلامهم في تحقيق “المواطنة الكاملة” على أرض مصر الطيبة؟… كل كل تلك الأسئلة وغيرها لدي أمل في التعامل معها في عدد قادم بإذن الله..

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا