المدرسة الجشطالتية هي إحدى المدارس المشهورة في مجال علم النفس وقد ظهرت في أوائل القرن العشرين تقريبًا عام 1941 في ألمانيا ثم انتقلت إلى باقي أوروبا وأمريكا، وهي مدرسة تهتم بدراسة السلوك الإنساني كمصدر للحقائق السيكولوجية وهدفها الوصول إلى معرفة النفس البشرية وتحقيق النجاح في الحياة. وكلمة “جشطالت” مشتقة من اللغة الألمانية وتعني الصيغة الكلية أو الشكل العام Global أو مبدأ الكل، وهو من أهم المبادئ التي ركزت عليها هذه المدرسة حيث اعتبرت أن السلوك الإنساني لا يُفهم إلا من خلال إدراك عناصر الموقف الكلي حتى يمكن الوصول إلى الاستجابة الصحيحة. فنحن لا يمكننا فهم المواقف والأحداث التي تمر بنا طالما أن هناك أجزاء غامضة، فمثلًا لا يمكن أن نفسر مبنى كنيسة إلا إذا كانت هناك بعض العناصر التي تميزه مثل صليب أو قباب أو شكل هندسي معين؛ فإذا اختفت هذه العناصر لا يمكننا التمييز بين مبنى كنيسة أو مبنى آخر، كما لا يمكننا تفتيت عناصر الموقف إلى أجزاء فمثلًا أي مبنى يتكون من عناصر عديدة كالحديد والرمل والزلط والأسمنت فإذا رأينا كل عنصر بمفرده فلا يمكننا إدراك هذه الأجزاء على أنها مبنى، فالأجزاء تُفقِد الشيء معناه. كما اعتبرت هذه المدرسة أن تكامل عناصر الموقف يصل بالشخص إلى الإدراك أو الاستبصار الفجائي، وذلك مثل الطالب الذي يصل إلى حل المسائل الرياضية فجأة إذا توافرت عناصر المسألة أمامه.
وقد طبَّقت هذه المدرسة تجاربها على الفصيل الحيواني خاصةً القردة ثم استخلصت نتائج هذه التجارب وقامت بتطبيقها على الإنسان. وركزت في نظريتها على العمليات العقلية لتفسير الأحداث والمواقف التي نمر بها، إذ أن (المخ) هو الجزء الرئيسي الذي يمكنه ترجمة كل الأحداث وهو المسئول الأول والأخير عن تلقي الشفرة الخاصة بالموقف، حيث يقوم المخ بفك رموزها وترجمتها ثم إضفاء معنى عليها طبقًا للخبرات السابقة المختزنة لدى الفرد، وبذلك يمكن للشخص أن يقوم بالاستجابة المناسبة للموقف.
لذلك فقد يعجز العقل في أحيان كثيرة عن إدراك بعض الأشياء التي ليس لها مخزون سابق في الذاكرة، فالذكريات تلعب دورًا في إدراكنا للأحداث والمواقف، وهذا ما يفسر لنا محاولة الطفل اللعب بآلة حادة كالسكين أو الموس أو اللعب مع حيوان شرس لأنه ليس له مخزون سابق في عقله. كما تفسر لنا أيضًا تعدد استجابات الأفراد لنفس الموقف وذلك بتعدد الخبرات، فالحبل بالنسبة لعامل البناء ما هو إلا أداة من أدوات البناء بينما بالنسبة للطفل فهو أداة من أدوات اللعب.
لقد استخدم علماء النفس الجشطالتيون الإدراك البصري في تطبيق تجاربهم، فمثلًا شكل المثلث ليس له أي مدلول إلا إذا كان له مخزون سابق في الذاكرة وإلا أصبح مجرد خطوط تسقط من الرسم على عدسة العين التي توصله للخلايا العصبية والتي ترسله إلى المخ الذي يراه مجرد إحساسات بصرية ليس لها أي مدلول.
وقد استطاعت المدرسة علاج بعض الأمراض النفسية وذلك باستخدام العلاج المعرفي وهو مساعدة المريض على تغيير طريقة تفكيره إزاء أي حدث يسبب له ألمًا، فالمشكلة ليست في الحدث ولكن في ترجمة الشخص لهذا الحدث. لقد ساعدت المرضى في تبني فكر إيجابي جديد، وهذا الفكر يعمل على تغيير سلوكه إلى الأفضل وبالتالي يمكنه التغلب على المواقف والأحداث التي تثير لديه حالة من الخوف أو الحزن أو الغضب. وفي واقع الأمر فإن هذه المدرسة قد سعت لتقديم علاج ناجح للقضاء على المشكلات التي يعاني منها البشر غير مدركة تمامًا أن هذا العلاج هو ما قدمه السيد المسيح منذ أكثر من ألفي عام للبشرية، كما لم تدرك أيضًا أن ما قامت به من أبحاث ودراسات ونظريات ما هو إلا تأييد لما جاء في الوحي المقدس منذ آلاف السنين. وإليك بعض القواعد التي أرستها هذه النظرية والتي ذُكرت من قبل في الكتاب المقدس.
1- تغيير الذهن: استخدمت هذه المدرسة في علاجها طريقة تغيير التفكير (من السلبي إلى الإيجابي) وذلك للتغلب على المواقف الصعبة التي يواجهها الشخص وبالتالي يمكنه تغيير أسلوب حياته وهو ما ذكره الوحي المقدس: “تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة” (رومية12: 2).
2- مبدأ الكل: والذي تبنته هذه المدرسة هو ما نجده في الوحي المقدس الذي يبين لنا أن جوهر الله هو الآب والابن والروح القدس ولا يمكن معرفة الله إلا من خلال الثلاث أقانيم ككل.
كما أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يحتوي كله على رسالة الخلاص للجنس البشري كله.
وعندما تحدث الله مع آدم تحدث إلى الجنس البشري كله وأيضًا عندما تحدث إلى إبراهيم تحدث إلى كل المؤمنين (فيه تتبارك جميع الأمم)، وبسقوط آدم سقط الجنس البشري كله.
كما نجد أن مبدأ الكل والذي يعطي معنى للأشياء هو ما نادى به السيد المسيح حينما قال: “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك”، حيث لا يمكن أن نمنحه جزءًا من الحياة بل كل ما نملك حتى لا نفقد معنى الحياة.
وأيضًا الكنيسة التي هي رأس المسيح ما هي إلا مجموعة من الأعضاء الذين يمثلون جسد المسيح الكامل فإذا تألم عضو تألمت باقي الأعضاء.
كما أن رحلة خلاص الإنسان ما هي إلا قصة واحدة متكاملة تتم على مراحل متعددة وتحتوي على الخلاص والتبرير والتمجيد. لقد ظهر الفكر الجشطالتي (مبدأ الكل) في الكنيسة الأولى حيث كان كل شيء مشتركًا بينهم حينما باع المؤمنون بيوتهم ووضعوا أموالهم تحت أرجل الرسل، وأيضًا حينما كانوا يجتمعون للعبادة كانوا يشتركون معًا في مائدة الطعام. ويمكننا أن نجد هذا الفكر أيضًا في الآيات التالية والتي ذُكرت في الوحي المقدس:
– أنتم جنس مختار. كهنوت ملوكي. أمة مقدسة. شعب اقتناء (وأما الآن فأنتم شعب الله).
– هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به.
– اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.
– له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور.
3- الخبرة الشعورية: اعتمدت الجشطالتية على الخبرة الشعورية (الذكريات) في فهمنا للمواقف والأحداث، ونجد هذا ما أوضحه لنا الكتاب المقدس في قصة الفتية الثلاثة وأتون النار إلا أن كلمة الله تدفعنا إلى أن نتجاوز ونرتقي بالخبرات المؤلمة إلى حياة الإيمان.
لقد احترمت المدرسة الجشطالتية الخبرات الشخصية في استجابات الأشخاص للمواقف وهو ما نجده لدى السيد المسيح الذي تعامل مع الأشخاص بحسب خبراتهم الشخصية، فقد دعا التلاميذ “صيادي السمك” كي يصطادوا الناس، كما تعامل مع السامرية بحسب خبرتها الشخصية إذ علم أنها كانت في احتياج شديد للحب الحقيقي.
4- الإدراك البصري: اتخذت هذه المدرسة الإدراك البصري مصدرًا لتجاربها وهذا ما نجده واضحًا في تعاليم السيد المسيح لتلاميذه في مثل الزارع حيث كان يمشي بين الزروع ويعطي أمثلة من الواقع حتى يدركها العقل، أي أنه ربط الإدراك البصري بما يريد أن يعلمهم إياه.
5- البحث في داخل النفس: أرادت الجشطالتية أن تكشف عما يدور في داخل الإنسان وذلك بتفسيرها لما يحدث في العقل من عمليات معقدة لترجمة الواقع، وهذا ما نجده في الوحي المقدس الذي أعلن لنا أن الله فاحص القلوب والكلى وأنه يعرف خفايا القلب فكل شيء مكشوف وعريان أمامه.
6- الاستبصار الفجائي: أشارت الجشطالتية إلى أن التعليم يتم عن طريق الاستبصار الفجائي للأحداث وهو ما ذكره السيد المسيح عن عمل الروح القدس الذي يمنحنا الاستنارة والبصيرة فيرشدنا ويعلِّمنا ويقودنا إلى الصواب.
ولكن رغم أن هذه المدرسة أثرت الفكر البشري إلا أنها فشلت في علاج كل الأمراض النفسية التي عالجها السيد المسيح الذي جاء ليحقق للبشرية الشفاء الجسدي والنفسي والروحي، كما أنها تعاملت مع الجنس البشري على أنه جزء من الفصيل الحيواني أما الله فقد تعامل مع الإنسان على أنه مخلوق على صورته حيث نفخ فيه نسمة الحياة ليكون وارثًا للملكوت.
والخلاصة: رغم المحاولات المضيئة التي قدمها العلماء لإسعاد البشرية والتي أثبتت البراهين العلمية أنها مستمدة من الكتاب المقدس ومن تعاليم السيد المسيح إلا أنها عجزت عن أن تقدم رسالة الخلاص التي حملها لنا السيد المسيح بتجسده وفدائه كي يفتح لنا أبواب الحرية والحياة والخلود.