المؤسسات الدينية والأمن الفكري

21

مدحت بشاي

معلوم أن لِلدِّين قوة غير قابلة للمنافسة على الصعيد الإنساني، لأنه يوفر القاعدة الفكرية التي يستند إليها الاجتماع الإنساني. ولعل في تنوُّع الديانات واختلافها ما من شأنه الدفع في اتجاه دعم وسائل التعارف والتعاون وتحقيق التكافل الاجتماعي، إذ إن طبيعة الدين تترك تأثيرًا إيجابيا في هذا السياق، وذلك لاحتوائها على مبادئ تحفظ حرية الإنسان وكرامته، وتنظم حياة الأفراد والجماعات، وتؤسس أيضًا لبناء المجتمعات، وتنظم العلاقات بين أفرادها، مُستوعبة مفهوم التعدد والتنوع داخل هذه المجتمعات. إلا أن المجتمع الإنساني في الوقت الحاضر يَشعر بالإحباط وانعدام التوازن أمام التقلبات التي حدثت وتحدث في فهم الدين، ليفقد الدين بذلك وظيفته الأساسية في تنظيم الحياة المجتمعية، ويأخذ – ليس الدين وإنما الفهم الخاطئ للدين – وظيفةً هدامة، ويكون سببًا في النزاعات والخلافات.

وهنا تبرز أهمية الدور المجتمعي والأخلاقي والقيمي للمؤسسات الدينية التي يُعد الدين مرجعها الرئيسي وهي المعنية بشئونه وعون أتباع الديانات والمذاهب من أجل تلبية الاحتياجات الروحية والطقسية والمعرفية المرتبطة بالدين.

وبجانب الكنيسة والمسجد، هناك مؤسسات دينية خدمية أو بحثية أو حتى أكاديمية، فالأوقاف وكليات اللاهوت -على سبيل المثال-  تُصنف كذلك كمؤسسات دينية بمعنى ارتكازها على مرجعية دينية فيما تقوم به من أعمال.

ومعلوم أن أمر ارتباط المواطن المسيحي بمؤسسته الدينية (الكنيسة) وراعيها مختلف، فعلاقة المسيحي بكنيسته تبدأ بطقوس عماد الطفل وطقوس “التناول” والتي يسبقها “الاعتراف بالخطايا”، وكذلك الصلاة وحضور العظات وطقوس الخطبة والزواج، ونهايةً بالصلاة الجنائزية على أرواح الموتى.

وتخضع المؤسسات الدينية لقواعد مستقاة من الدين نفسه، كما تخضع في إطار الدولة الحديثة لقواعد مفروضة من قبل الدولة وينظمها القانون المدني غير الديني. أما عن رسالة المؤسسة الدينية، فهي تتباين؛ فبعضها يكتفي برسالة روحية، وبعضها ينشط في مجال العمل الخيري، وثمة مؤسسات تلعب أدوارًا هامة في مجالات أخرى كالتنمية وحقوق الإنسان، إلخ.

وتحظى المؤسسات الدينية باحترام المنتمين إليها، وهو احترام نابع من تقدير المؤمنين للدين ذاته، خاصةً وأن العديد من هذه المؤسسات تقدم العون لرعاياها في الظروف الصعبة. وهناك الكثير مما يمكن أن يُقال عن دور فعال للمؤسسات الدينية في حماية الكرامة الإنسانية ومساعدة البشر في أوقات الأزمات والحروب، وحتى أحيانًا في مواجهة الاستعمار والأنظمة الاستبدادية، ولكن في الوقت ذاته، ثمة سياق سياسي يشوبه الكثير من التشوه والتعقيدات.

والمؤسسة الدينية داعمة لمجموعة من الأفكار والمعتقدات والأعراف التي تُشكل كلًا متناسقًا ومنظمًا ويعمل على تأسيسها الأفراد بالتعاون مع الأفراد الآخرين في المجتمع من أجل ضبط سلوكهم الخارجي، وكذلك تقوية العلاقات فيما بينهم، فالدين تحكمه وتضبطه مجموعة المعتقدات والأفكار والقيم والطقوس السلوكية المتعلقة بكائنات وقوى وأماكن مقدسة تفوق بطبيعتها الأشياء التي يستطيع الإنسان خلقها واستعمالها والسيطرة عليها. ولهذا النظام آثار اجتماعية عميقة في نفوس الأشخاص الذين يعتقدون ويؤمنون به، إذ إنه يحدد سلوكهم ويرسم طراز حياتهم ويصنع أيديولوجيتهم التي تميز حياتهم الخاصة.

ومن هنا فإن المؤسسة الدينية معنية بدعم آليات ضبط اجتماعي غير رسمية تفرض قوانين على الأفراد بصفة دينية خالصة تهدف إلى تحقيق العدالة والإصلاح ومكافحة الفساد، مثلما تفرض الدولة القانون على الأفراد في مؤسسات الدولة من خلال واجبات وحقوق عليه.

هذا، وتدير المؤسسات الدينية عمليات تصميم خطاب ديني والعمل على تطويره وإصلاحه ودعم أنشطة التعليم الديني. وفي هذا السياق، أذكر ما قدمه الدكتور مصطفى لطفي، عبر دراسة هامة حول شخصية ودور الإمام محمد عبده، ودوره في إصلاح الأزهر، حيث يرى أن الإمام عبده يظل رائد إصلاح المؤسسات الدينية بامتياز، إذ كان دوره أوليًا وأساسيًا في السعي لتطوير هذه المؤسسات وإصلاحها فكريًا، كما لم تتجاوزه أطروحات الإصلاح، سواء على مستوى المؤسسة أو التعليم حتى الآن. ويؤكد الباحث أن إصلاح المؤسسة الدينية كان جزءًا من المشروع الإصلاحي لمحمد عبده، حيث توزع مشروعه على الأبعاد الثلاثة التي شملها، وهي المقاربة العلمية للظاهرة الدينية، والإصلاح الديني الذي يعتمد على المصالحة بين الدين والعلم، وتطوير المؤسسة الدينية من أجل هذا الغرض.

وفي هذا السياق، كان للدكتور ثروت صموئيل مدير تحرير الإصدار الرائع “الطريق والحق” مقال افتتاحي هام وبديع تناول فيه دور رموز الإصلاح عبر مؤسساتهم الدينية، وأرى أهمية تناول دور هؤلاء كلما سنحت الفرص في إطار إبراز دور المؤسسات الدينية في دعم الأمن الفكري… وفيما يلي بعض مما جاء في المقال أستأذن القارئ في عرضه لأهميته:

إن أعظم عمل للكنيسة هو إصلاح العالم. وفي عام 1830، قاد “فيني” نهضة عظيمة في مدينة “روشستر”، قال عنها النائب العام للإقليم بعد عدة سنوات إنه بينما كان يُراجع سجلات الحوادث الإجرامية في السنوات الماضية فوجد أن المدينة التي ازداد عدد سكانها ثلاث مرات منذ النهضة، صار عدد المحكوم عليهم فيها أقل من ثلث عددهم قبل النهضة. هذا هو الأثر العجيب الذي أوجدته النهضة في الحياة الاجتماعية لهذه البلدة. كان المتجددون الذين ينتقلون من الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة إلى جهات أخرى ويحملون معهم نيران النهضة إلى أماكن أخرى، وكانت أحياء ومناطق بجملتها تتأثر مع أن “فيني” لم يزرها بنفسه، ولكن بواسطة مَنْ استفادوا من خدمته.

واختتم الكاتب مقاله بهذه الكلمات عن الكنيسة:

‒ الكنيسة والدولة مؤسستان خلقهما وعينهما وأقامهما الله (رومية 13: 1-4).

‒ الكنيسة والدولة مسئولتان أمام الله وتخضعان لسلطانه.

‒ كل مؤسسة لها مهام خاصة بها وليست إحداهما بديلة للأخرى.

‒ مهمة الكنيسة: نمو الحياة الروحية لأعضائها والكرازة بالإنجيل وهي ليست من مهام الدولة، بينما مهمة الدولة: تنظيم المجتمع وحمايته وتطبيق القانون وهي بالطبع ليست مهمة الكنيسة.

‒ ليس على الكنيسة أن توصي بانتهاج سياسات معينة ومفصلة.

‒ الكنيسة ملزمة ومؤهلة لإدانة المجتمع الذي يتصف بالشرور.

‒ على الكنيسة أن تضع المبادئ وعلى المواطن المسيحي أن يطبقها.

‒ ليس على الكنيسة أن تناصر اتجاهًا معينًا أو برامج معينة لأنها لا تمتلك الخبرة .

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا