عنوان هذا المقال يثير تساؤلاً هو على النحو الآتي: ماذا يعني لفظ اللايقين؟ قد يكون الجواب بلا تردد: إنه نقيض اليقين، ويبقى بعد ذلك الانحياز إلى أيهما. والسؤال بعد ذلك: مَنْ الذي يسهم في تبني الانحياز؟ وللجواب عن هذا السؤال يلزم تحديد هوية المنحاز. إذا كانت هذه الهوية محصورة بين الإنسان والطبيعة على نحو ما هو شاهد في تاريخ العلم لكن ما هو هذا العلم المقصود؟ جاء جواب مدرسة بروكسل بقيادة العالِم البلجيكي إيليا بريجوجين بأن عالم الآلة منقسم إلى قسمين: أحدهما محكوم بمذهب مغلق، والآخر محكوم بمذهب مفتوح. وكان الرأي عندي في كتابي المعنون “المذهب في فلسفة برجسون” 1960 أن تاريخ الفلسفة محكوم بحركتين متضايفتين: حركة غلق وحركة تفكيك ما هو مغلق. وتتكرر هاتان الحركتان في كل فترة من فترات الفلسفة. وفي عام 1984، نشر بريجوجين كتابه المعنون “ولادة النظام من الفوضى”، وأشار فيه إلى هذه القسمة الثنائية بين المذهب المغلق والمذهب المفتوح. وفي عام 1998، نُشر حوار مع بريجوجين تحت عنوان: التفكير باللايقين، وذلك بمناسبة مرور عشرين عامًا على نيله جائزة نوبل في الفيزياء، أثار في بدايته أن غياب الاتزان في المعرفة الإنسانية لا يقف عند حد علم الفيزياء بل يتجاوزه إلى جميع العلوم باعتبار أننا نحيا في عالم من المتغيرات خال من الثوابت. فالكل في حالة تغير، ومَنْ يقبل التطور يتطور ومَنْ لا يقبل التغير لا يتطور. ومن هذه الفكرة تولدت فكرة أخرى هي أن الزمان له سهم محكوم بالحتمية على نحو ما كان يرى نيوتن. وبعد حصوله على جائزة نوبل، حاول التدليل على أن مسار الطبيعة محكوم بالاحتمال وليس بالضرورة. ومن هنا تم اكتشاف اللايقين، ولكن ليس بالمعنى السلبي الذي يشي بهزيمة العقل الإنساني إنما يشي ببزوغ الجدة التي تشي بانتصار العقل. وهذا الانتصار يدل على أننا نحيا في عالم واحد أو على حد تعبير برجسون: نحن لسنا وحدنا في هذا الكون لأننا لسنا منفصلين عنه. وفي عام 2005، صدر كتاب عنوانه الرئيسي “نهاية عالم اليقين” وعنوانه الفرعي “ماكس بورن وعلمه”، وماكس بورن هو مَنْ علماء الفيزياء الذرية أو بالأدق من علماء ميكانيكا الكوانتم الذين لا يعنيهم البحث عن هوية الطبيعة إنما يعنيهم ما يقوله كل عالم عن الطبيعة. ومثال ذلك ما قاله عالم الفيزياء النووية ماكس بورن عندما أعلن أن الذرات أو الجسيمات الدقيقة ليس لها وجود إنما هي مجرد مجموعة من الاحتمالات لا تصلح لأن نطلق عليها أنها أشياء أو وقائع. وإذا أردنا تحويل الاحتمالات أو وقائع، فالفضل في ذلك يرجع إلى الإنسان الملاحِظ، باعتبار أنه ليس ثمة فاصل بين الإنسان والطبيعة. وبفضل هذا التداخل بين الإنسان والطبيعة أصبح الحديث عن لايقين المعرفة ممكنًا، بل أصبح الحديث عن مبدأ اللايقين دافعًا لعلماء الكوانتم في مجال الذرة للبحث عن مكونات الذرة بما فيها من الكترونات وبروتون للقول بأن هذا المبدأ ليس مبدأً عرضيًا ناتجًا من عدم الاتساق بين ضآلة مكونات الذرة، وعجز الآلات العلمية عن التسجيل الدقيق إنما هو مبدأ مغروس في الطبيعة ذاتها. ومع ذلك فقد قيل أيضًا إن هذا المبدأ لا وجود له في العالم الكبير. وفي هذا السياق، أصبح التنبؤ بالأحداث ممكنًا، ولكن مع التطور أصبح هذا المبدأ مقبولاً ليس فقط من علماء الكوانتم بل من الجماهير المهمومة بتطور العلم، إلا أنه كان مقبولاً ومصحوبًا ببلبلة فكرية وهزة في القول بأن نتائج البحث موضوعية وخالية من أي تأثير إنساني.
وقد كان من شأن هذه الهزة أن أثيرت حول المعرفة ذاتها وجاءت على النحو الآتي: هل ثمة مجال يمكن أن يقال عنه إنه محكوم تمامًا باليقين، أم أن المجالات كلها بلا استثناء محكومة باللايقين؟ وحتى في الرياضيات التي هي قلعة اليقين فإن العالم الرياضي النمساوي كورت جودل برهن في بدايات الثلاثينيات من القرن العشرين على أن أي نسق منطقي مهما تكن صلابته يخلو من أجوبة يقينية. ومن هنا جاء الحكم الصادر في نهاية ذلك القرن على النحو الآتي: لا معرفة يقينية. ومع ذلك فقد أثير هذا السؤال: ماذا يعني هذا الحكم في مواجهة تقدم المعرفة؟ هل يوقف التقدم؟ وهل أصبحت المغامرات الفكرية في ذمة التاريخ؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك، إذ أن لدينا الآن جماعة مغايرة من العلماء تطلق على نفسها اسم “علماء البيئة”. والمعنى أننا لسنا وحدنا في هذا الكون، ولا أدل على ذلك من اختراع سفن الأرض الفضائية، فقد علَّمتنا أن الأرض معرضة للفساد بحكم تأثرها بأفعال الإنسان. ومع ذلك فإنها علَّمتنا أيضاً أن ثمة تداخلاً بين الأرض والإنسان، وأن من شأن هذا التداخل إعادة النظر في مدى موضوعية المعرفة، أو بالأدق في مدى يقينية المعرفة. وإذا حدث بعد ذلك وتشككنا في هذه اليقينية فيلزم إعادة النظر في علاقة العقل بمجالات المعرفة.