العدد 78 الصادر في مارس 2012
الكنيسة والبدائل المتاحة
مساكين المسيحيون في الشرق الأوسط وخاصة في مصر، فليس من يمثلهم أو يتكلم باسمهم لا على المستوى المحلي ولا على المستوى العالمي، وليس من يقف بجانبهم ويدافع عنهم ويصر على استرداد حقوقهم المسلوبة، فالحكومات والأحزاب والرؤساء لا يقيمون لهم وزناً أو حساباً، بل على العكس يزايدون عليهم ويستخدمونهم كآلة يرضون بها غيرهم ويتجنبون بها شرور غيرهم من فئات المجتمع باستخدامهم واستغلالهم ووضعهم في وجه المدفع، ودائماً هم كبش الفداء، فمنذ أن قامت ثورة العسكر “والإخوانجية” في 52 أصبح المسيحيون هم عسكري الشطرنج الذى يملأ الخانة الفارغة في اللعبة ليوقف تحرك قطع الشطرنج الأخرى عن التقدم إلى المكان الذي يريده محرك الأحداث، وإن مات هذا العسكري أو ذاك للدفاع عن الملك أو الوزير، فالخسارة ليست فادحة أو كبيرة، ففي النهاية فما المصاب أو المقتول إلا عسكري لا قيمة كبيرة له في اللعبة، ما دام سعادة الوزير أو جلالة الملك بخير وقادر أن يكش في الكل، فليمت دونه كل العساكر، فإذا اكتشفت مباحث أمن الدولة تنظيماً سرياً إسلامياً يخطط لقلب نظام الحكم، أو إثارة القلاقل والاضطرابات بين العامة، وتم القبض عليه فلابد من القبض على بعض المسيحيين أيضاً بين أعضاء هذا التنظيم، مع أن لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الأمر، لكن فقط لزوم الشيء، ولضبط الميزان في الأحداث، وللتأكيد على أن سبب القبض على التنظيم ليس لأنهم مسلمين فحسب بل ها هم قد قبضوا على المسيحيين أيضاً، وإذا قام المسلمون بالاعتداء على كنيسة ومداهمة بيوت المسيحيين، وتم القبض على بعضهم فلابد أيضاً من القبض على بعض المسيحيين حتى يصبح هناك مساواة في الظلم، فيتحقق العدل البوليسي الذي يؤمن بالمثل القائل “المساواة في الظلم عدل”، وإذا ألغى السادات وحل جماعة الإخوان المسلمين وجعلها بسلطته في أيامه محظورة، فلابد له من حل ما أسماه بمدارس الأحد وعدد من الجمعيات الخيرية المسيحية التي ما صنعت في مصر إلا الخير والرحمة للمصريين، مسلمين ومسيحيين، لكن فقط للمساواة بين الطرفين، بغض النظر عن الاختلاف في نشاط الاثنين، وتعاليمهما، وانتشارهما، وتأثيرهما على المجتمع إن سلباً أم إيجاباً. وإذا قُتل المسيحيون في الكشح أو العمرانية أو كنيسة القديسين كما حدث في أيام مبارك زج بالمسيحيين في السجون وخرج المعتدون والجانون قبل المعتدى عليهم والمجني عليهم، لا لشئ إلا لأنهم مسيحيون ولإرضاء الطرف المعتدي خوفاً من عنفه وتصلفه وتهوره ودمويته، وإذا قام الشباب المسيحي بمظاهرة سلمية في ماسبيرو أسرع العسكر لدهسهم بالمدرعة التي قالوا عنها إنها مسروقة مستخدمين المسيحيين كعبرة لمن يعتبر لتخويف غيرهم من الرافضين لحكم العسكر، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، طلباً لود ومغازلة المسلمين الذين ينتظرون، بفارغ الصبر، رؤية يوم أسود في المسيحيين، وليثبت العسكر لهم أنهم في النهاية وعلى كل حال مسلمون مثلهم ولن يساووا في المعاملة بينهم وبين النصارى، فهذا جزء من اللعبة وكش ملك للجميع.
والمسيحيون مساكين أيضاً بسبب فشل الكنيسة الكامل في حمايتهم، والدفاع عنهم، والمطالبة بحقوقهم، فمن الواضح أن الكنيسة بالرغم من أنها ليست مدعوة في المقام الأول أن تلعب سياسة أو أن تقوم بتمثيل المسيحيين المصريين والدفاع عنهم، إلا أنها حاولت محاولات عشوائية للقيام بهذا الدور الشائك، فلم تفلح فيه ولم تترك لغيرها أن يلعبه، برضاها أو بالرغم عنها، ولم تبحث عن بدائل أخرى لدورها، فقد وقفت في الباب كعادتها فلم تدخل ولم تدع الداخلون يدخلون. فالكنيسة عندما أرادت أن تلعب سياسة مؤخراً، لم تصمت في مواجهة الثورة في 25 يناير 2011، وليتها صمتت فكان ذلك خيراً لها وأنفع، فعندما أرادت أن تنزل إلى ملعب الأحداث شجعت الفريق الحكومي المتغطرس، الذى بدى أنه غالبٌ، وقد تصدر البطولة طوال الستين سنة الماضية منذ قيام انقلاب العسكر في 52 حتى وقوع الثورة الحقيقية للشباب المصري، ومنعت أولادها من النزول وتشجيع الثورة، والحمد لله أن هناك من الشباب المسيحي الحر من رفض الخضوع لأوامر الكنيسة، ونزل إلى ملعب الأحداث، بل قل وبدأ الثورة ومهد لها من خلال ثورته وقذفه للبوليس بالحجارة والرد على طغيانه في أحداث كنيسة العمرانية، ولعب مع الفريق الذي كان الجميع يراهن على خسارته، وهم شباب الثورة، حتى قضى ربك أمراً كان مقضياً، ولو لم ينزل المسيحيون إلى أرض الثورة إطاعة للكنيسة التي لم تكلف نفسها عناء قراءة الأحداث قراءة صحيحة، أو أن تسأل إلهها الذي أثق أنه كان سيلهمها إلى أي جانب تنحاز وتقف لخيرها وخير أولادها، أو حتى بأن تصمت وتشبه الهابطين إلى أرض السكوت كما صمتت في مناسبات عديدة سابقة، نعم، إذا لم يكن الشباب المسيحي قد نزل لأرض الثورة جنباً إلى جنب مع إخوانهم المسلمين في كل شيء حتى في أن يُقتلوا وأن يُصابوا ويفقدوا عيونهم، فالرصاص الطائر لا يفرق بين مسيحيين ومسلمين، لما كان لنا عين اليوم لنقول إننا مصريون ولَلحق بنا العار والدمار إلى أبد الآبدين.
وهناك عدة أسباب أوصلت الكنيسة إلى ما هي عليه الآن من كيان لا قيمة سياسية أو مجتمعية له، أولها هو أن الكنيسة فشلت من سنين وقرون عديدة في خلق جيل من الشباب، مثقف ومدرب سياسياً على التواجد بالساحة السياسية المصرية، ورفع أصواتهم بما فيه خيرهم وخير بلادهم، فلقد غذت الكنيسة في أولادها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن الروحانية المسيحية هي انعزال المسيحي عن العالم والتوحد، إما مادياً وجسدياً وانقطاعه حتى عن التواجد وسط الناس والتأثير فيهم، وإما معنوياً واجتماعياً بأن يبتعد عن السياسة فهي كما يصفها السياسيون أنفسهم بأنها قذرة، ليس لأنقياء القلب مجالاً للتعامل معها، ولذا، يصبح من رابع المستحيلات أن ترى سياسياً محنكاً مؤثراً وروحانياً في نفس الوقت والعكس صحيح.
أما ثاني الأسباب فهو أن الكنيسة فشلت في أن تفرق بين الخلافات العقائدية المسيحية بين فئاتها وطوائفها وبين الاتحاد المسيحي السياسي والاجتماعي، والعمل على تجميع صوتاً مسيحياً واحداً يكون مؤثراً ومسموعاً في مواجهة كل ما يجري في مصر من سنين، ولم تتعلم الكنيسة الدرس من الجماعات الإسلامية ولامتهم وانتقدتهم على إتباعهم مبدأ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فتطرفت إلى أقصى الجانب الآخر، متبعة حارب أخاك ظالماً أو مظلوماً، فبدلاً من أن تستخدم الكنيسة الخلافات العقائدية بين طوائفها ومذاهبها إلى إثراء الحياة الروحية المسيحية في مصر، كجنة تحوي العديد من الورود والثمار التي وإن اختلفت في أشكالها وروائحها وألوانها إلا أنها في النهاية جزء لا يتجزأ من جنة المسيح في أرضه، جسده التي هي الكنيسة، والتي لابد لها أن تجذب الجميع إليها ليقطف كل منا ما يحلو له من طيب ثمارها ويستمتع بما لها من أريج روائح مختلفة، ومناظر وأشكال متناسقة، تحولت الخلافات العقائدية المسيحية إلى آلات للتكفير والهجوم والحروب، وبدلاً من أن تنشغل الكنيسة بما يعزز موقفها من الأحداث في مصر والعالم العربى انشغلت فيمن يكون الأعظم والأكثر شهرة وتَحكم في الناس والأحداث، من هي طائفة وكنيسة الثورة، كيف يستطيع الفرد أو الجماعة جذب الأنظار إليه وإلى كنيسته وطائفته والتأثير سلباً أو إيجاباً في مجريات الأمور، بغض النظر عن أهمية ومدى الاحتياج لهذا الدور الملعوب، انشغلت الكنيسة بمن هم الأصل ومن هم الفرع، من هم الأم ومن هم الجارية، من هم المصريون ومن هم الأجانب، من هم المتمسكون بتقاليد الآباء وتعاليم الرسل ومن هم المنشقون والمعترضون من تبنوا الأفكار الغربية والتعاليم غير المستقيمة الرأي، وخُلقت لها، أي للكنيسة، أدوار ومواقف وقضايا لتقصيها عن هدفها الأسمى، وفي النهاية، وعلى كل وجه، فشلت الكنيسة في احتواء الجميع كمسيحيين في وحدة واحدة، في جسد واحد، وكنيسة واحده مقدسة جامعة رسولية، بالرغم من تكرارنا لهذه المقاطع تقريباً في كل اجتماع من اجتماعاتنا.
ثالثاً: فشلت الكنيسة في الدفاع عن أتباعها وأعضائها في وجه الاعتداءات والإهانات المتكررة عليهم، فلقد رضخت الكنيسة وخافت من مباحث أمن الدولة وارتضت بكل عجائب الدنيا في تعاملها مع الحكومات المتعاقبة عليها منذ قيام العسكر بانقلابهم، أليس من المضحك أن ترضى الكنيسة بأن يكون جميع ضباط مباحث أمن الدولة مسلمين، وحتى ضباط شئون الكنائس في مباحث أمن الدولة كلهم من نفس النوع، هل يعقل أن يكون المسئول عن شئون الكنائس الإنجيلية في مباحث أمن الدولة ضابطاً مسلماً، وهكذا المسئولون عن شئون الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكة مسلمين، ترى لماذا قبلت الكنيسة هذه الإهانة دون أن تسجل حتى اعتراضها ولو لمرة واحدة على هذا الوضع المهين، أليس هناك من ضابط مسيحي واحد محترم يمكن أن يكون مسئولاً عن شئون الكنائس في أمن الدولة، ولا عجب أن تفنن ضباط مباحث أمن الدولة المسلمين المسئولين عن شئون الكنائس في تعطيل كل ما يخص تقدم الكنائس، بداية من تصاريح بناء الكنائس الجديدة إلى ترميم كنيسة تساقطت دورة مياهها أو انهار سورها إلى آخره. ولقد دربت حكومة مبارك هؤلاء الضباط على تعطيل شئون الكنائس ودراسة الخلافات الدقيقة التعليمية والعقائدية بين الطوائف والكنائس المختلفة واستخدامها في ضرب هذا الجسد الحي، الكنيسة، بعضه ببعض حتى صار على ما هو عليه الآن. وللتدليل على ذلك تحضرني قصة طريفة مع رئيس مكتب شئون الكنائس الأسبق المقدم رجب عبد الحميد يومئذٍ، ولكوني رئيساً لاتحاد الشباب المسيحي، الجماعة المسيحية التي تضم شباباً مسيحياً غيوراً على دينه ووطنيته من مختلف الطوائف المسيحية في مصر، استدعاني المقدم المذكور سابقاً إلى مكتبه ورحب بي كعادته وسألني ماذا أريد أن أشرب، ومع أن المكان والجو المحيط بي في مكتبه كان، والحقيقة تقال، يسد النفس، لكني أردت أن أكون مجاملاً ولطيفاً، فقلت له قهوة سادة، فأمر سيادته العسكري الخدام أن يحضر لي قهوة، وبالطبع لابد من الدردشة في انتظارنا لحضور القهوة، سألني رجب عبد الحميد، إيه رأيك يا دكتور ناجي، هو كنيستكم بتؤمن إن التكلم بألسنة هو علامة معمودية الروح القدس، ولا هو موهبة وليست علامة، وقبل أن أجيبه على سؤاله أجاب هو من نفسه قائلاً، لا، هذا ليس إيمانكم بل هذا إيمان الكنيسة الفلانية والطائفة الفلانية، ابتسمت وقلت لنفسي ما الذي جعل هذا الضابط المسلم يسألني هذا السؤال، كيف عرف هذا المسلم هذه المعلومة العقائدية الدقيقة التي يؤمن بها نفر قليل من المسيحيين، فيقيني أنه على الأقل 90% من المسيحيين لم يسمعوا عن شيء يُعرف بمعمودية الروح القدس، و99% من ال10% الذين سمعوا عن معمودية الروح القدس لا يعلمون إن كان التكلم بألسنة هو علامة أم موهبة، ثم بعد أن شربت القهوة انتهت المقابلة ولم يسألني الضابط المسلم أي سؤال آخر. ولعل هذا الضابط قد قصد أن يوصل لي الرسالة التي دآبت مباحث أمن الدولة على توصيلها لنا نحن المسيحيين، بأنهم يعرفون عنا كل شئ حتى الدقائق العقائدية التي لا يعرفها أكثركم أيها المسيحيون، أليست هذه في حد ذاتها إهانة رضينا بها دون أن نعبر عن استيائنا حتى بمجرد التعبير بالكلام.
الكنيسة لم تدافع عن أتباعها عندما فُجرت الكنائس أرثوذكسية كانت أم إنجيلية، اكتفينا بمعاتبات وصراخ في الفضائيات وعبارات رددناها في كل هذه المناسبات، وقمنا باستقبال القتلة والمخربين، الذين أصبحوا فجأة وبقدرة قادر مهنئين لنا في أعيادنا، وشكرناهم من على منابرنا وهياكلنا على اعتنائهم بنا وحمايتهم لنا وأطعمناهم في مناسباتهم واحتفالاتهم، وظننا أننا بهذا نريهم المحبة المسيحية، والفرق بيننا وبينهم. ولم تقدم الكنيسة تظلماً واحداً للظالم الذي ظلم الكل بحكمه طيلة 30 سنة، ولم تقف في وجهه مطالبة إياه أن يخاطبها مباشرة كرئيس للبلاد ووضع النقاط على الحروف في حديث معلن عن خطته للكنيسة في عهده، الكنيسة لم تترك حتى الذين كانوا على استعداد للكلام والمواجهة أن يتكلموا، فعندما بدأنا الكتابة ضد حكومة مبارك والممارسات غير الآدمية من البوليس المصري مع المسيحيين والمتنصرين، (إقرأ مقال “وبرضه هتنضرب على قفاك”، و”هيبة الحكومة” و”لعبة المتنصرين وكش ملك” وغيرها من مقالات نشرت أيام مبارك)، وكنا الجريدة الأولى في مصر التى كتبت علانية عن المتنصرين، وطالبنا الحكومة برعايتهم وحمايتهم، وطالبنا الكنيسة بإحاطتهم بعنايتها وحل مشاكلهم، حاربنا قادة كنيستنا ووقفوا ضدنا، وعندما كتبت عن تحريف الكتاب المقدس في مقالة “تحريف وتخريف” تخلى عني أعز الأصدقاء والأحباء خوفاً من السلطات، وعندما كتبت عن جماعة الإخوان المسيحيين، أعلنت الكنيسة الإنجيلية على الملأ وفي الجرائد والمجلات الحكومية والخاصة، تبرأها مني ومن أفكاري المخيفة، وعندما كتبت عن ليلة سقوط القاهرة ارتعب الجميع، وحاولوا إيقافي عن استكمالها بشتى الطرق وبإيعاز من كبار المسئولين بحكومة مبارك، وعندما أصدرت مباحث أمن الدولة قرار اعتقالي في 1989 لم يقف بجانبي إلا الدكتور القس صمؤيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية يومئذ، وكم من المساكين المسيحيين الذين قبض عليهم رجال مباحث شئون الكنائس وعروهم وجرحوهم وتركوهم بين أحياء وأموات لم يجدوا من الكنيسة من يقف معهم ويدافع عنهم ولو بالكلام فقط.
وللأمانة أقول إن الكنيسة معذورة جزئياً في مواقفها هذه بالرغم من تقصيرها، فالكنيسة ليست اللاعب الوحيد في أرض المعركة الأمنية والسياسية، فهناك كثير من اللاعبين الأقوياء المحنكين والمدربين على كل أنواع ردود الأفعال والأفعال، حتى أن الكنيسة دائماً كانت ترى نفسها كالجراد في أعينهم، وهكذا في أعين نفسها، والكنيسة في موقف لا تحسد عليه، فإن سكتت على الظلم والجور والاعتداء على أولادها ثار ضدها أولادها واتهموها بالتقصير وهذه حقيقة، وإن تكلمت ودافعت عنهم ثار ضدها الجميع من حكومة وإخوان وسلفيين ومسلمين، واتهموها بالعمالة والخيانة وطالبوا بمحاكمة رموزها، والكنيسة تغط في نوم عميق جعلها تنسى من هو مسيحها وإلهها من يقول للشئ كن فيكون، ولم تجد الكنيسة الحل الأمثل طوال هذه السنيين ولن تجده إلا إذا أقام الله أناس فيها يؤمنون بالوعد، تكلم ولا تخف لا يقع بك أحد ليؤذيك، أناس يفهمون ويُعلمون أعضاءها المبدأ الكتابي، لا تخف من وجوههم لئلا أريعك، هائنذا قد جعلتك نورجاً محدداً ذا أسنان فيحاربونك ولا يقدرون عليك، فكل آلة صورت ضدك لن تنجح وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه، إلى آخره من الوعود التي تغير الحياة وتضمن الانتصار.
أما بعد فمادامت الكنيسة قد فشلت حتى الآن أن تقود الشعب المسيحي المظلوم للتعبير عن رأيه، والحصول على مكانه ومكانته في بلده، ولم تستطع أن تقف في وجه المحتلين الطالبين كل ماهو رجعي، ومُصرين على تطبيقه عليهم وعلى غيرهم من سكان البلاد الأصليين، إذًا، فلتبحث الكنيسة عن البدائل المتاحة لها قبل فوات الأوان وضياع بقية هيبتها، ليس في أعين أعدائها فحسب بل في أعين أولادها أيضاً. ولعل أهم البدائل هي أن تنسحب الكنيسة من لعبة السياسة بالكامل، وتوكل هذا الدور الخطير والمطلب المُلح إلى من هو قادر على أن يلعبه، لتتفرغ الكنيسة إلى مهامها الروحية وبناء جسد المسيح وإعداده إلى يوم اللقاء القريب معه، تبارك اسمه، ولتترك السياسة لمن له السياسة، وهذا البديل الذي لا غنى عنه ولا مفر منه يمكن أن يُنفذ بطريقتين، إما بأن تُمَثل كل الكنائس والطوائف المسيحية في مصر بأناس أكفاء يكونون قادرين على تمثيل المسيحيين وجمع أصواتهم المتفرقة كثيراً، والمتضاربة في معظم الأحيان، إلى صوت مسيحي واحد، وتكوين مجلساً للشعب ومجلساً للشورى، مجلسان مسيحيان على غرار مجلسي الشعب والشورى المصري، مجلسان لا يكون للكنيسة أية وصاية أو سلطان عليهما من قريب أو بعيد، وأن يصبحا هذان المجلسان هما المعبران عن الصوت المسيحي في مصر بالتنسيق مع الكنيسة ككيان مسيحي وليس كسلطة سياسية أو دينية، وإما الطريقة الثانية، وهي بأن تقوم جماعة من المسيحيين بعمل منظمة كجماعة الإخوان المسيحيين التي اقترحتها أكثر من مرة في سابق الزمان حتى في وجود مبارك ورجاله في الحكم، (اقرأ “جماعة الإخوان المسيحيين” و”مصر وجماعة الإخوان المسيحيين”) وفي هذه الحالة لن يكون هناك أية علاقة من قريب أو بعيد بالكنيسة، بل تصبح جماعة الإخوان المسيحيين هي الجماعة الأكبر أو الأكثر تواجداً وتأثيراً في الأحداث في الشارع المصري. وليس من المهم كم من الزمان تستغرق هذه الجماعة في تكوينها وإعداد نفسها والانتشار والتأثير في المجتمع المصري، فما نراه الآن من تأثير لجماعة الإخوان المسلمين استغرق 84 سنة من الإعداد والكفاح منذ أن أسسها حسن البنا في 1928.
وفي النهاية أقول إننى أعلم ردود أفعال الكنيسة الرسمية في مصر تجاه مثل هذه المقترحات، وهذا ليس بالجديد أو الغريب عليها، لكن ما أكتبه الآن في هذا المقال والمقام ليس مكتوباً للكنيسة فحسب، بل مكتوب للشباب المسيحي الذي أثق في قدراته وطاقاته ورجاحة عقله ورفضه للخضوع والخنوع والاستسلام، الشباب الذي فجر ثورة 25 يناير، والذي يتطلع إلى عيش كريم في بلده مصر التي أسسها له أجداده وآباؤه وتركوها أمانة في عنقه ليصونها ويرتقي بها من مجد إلى مجد، ومن قوة إلى قوة، ليت الكنيسة تفوق من غفلتها وتناقش مثل هذه المقترحات التي ما صدرت مني إلا لإيمانى بأهمية الكنيسة، على اختلاف طوائفها، لسلامة وأمن مصر، ومن قلب يحب الكنيسة ويحترم قادتها بالرغم من اختلاف رؤيته للأمور عن رؤيتهم في كثير من الأحيان، ذلك القلب الذي ما ابتغى يوماً تحقيراً للكنيسة أو إظهاراً لضعفها وفشلها أو التشهير بها، وما ابتغى وطلب إلا سلامتها وأمنها واستقرارها ورفعتها ومجدها إلى أن يأتي سيدها ويأخذها إلى حيث يكون هو فتكون هى أيضاً، عذراء عفيفة بلا عيب ولا دنس ولا غضن ولا شيء من مثل هذا، اللهم أنى قد أبلغت اللهم فاشهد.