أكثر من مرة خلال الفترة القصيرة الماضية وفي أماكن مختلفة ومواقف مختلفة، دار الحديث عن القيادة والقادة، سواء بالنسبة للعمل العام أو العمل الكنسي. وأتفق مع البعض الذين يرون أننا نمر بأزمة حادة فيما يخص القادة، وذلك لانعدام القدوة، ولسيادة نوع القيادة المتسلطة والديكتاتورية، مما أدى إلى ظهور حركات التمرد أو الخنوع والتملق والتطبيل، وكل منهما أمرّ من الثاني.
كنتُ قد قرأتُ عدة كتب في هذا الشأن وأحتفظ ببعض الملاحظات التي قمتُ بتسجيلها وأذكر بعضًا منها:
هناك أزمة قيادة تعم العالم، فالقادة السياسيون والاقتصاديون والناشرون يرفعون الصوت عاليًا، لأن الرجال الذين لديهم المعرفة والقدرة على توجيه الآخرين في الطريق القويم أصبحوا قلة قليلة.
تُعرَّف القيادة Leadership بأنها القدرة على تحفيز وإثارة اهتمام مجموعة من الأفراد، وإطلاق طاقاتهم نحو تحقيق الأهداف المنشودة بكل فعالية وحماس، كما يمكن تعريفها بأنها القدرة التي يتميز بها القائد عن غيره بتوجيههِ للآخرين بطريقةٍ يتسنى بها كسب طاعاتهم واحترامهم وولائهم، وشحذ هممهم، وخلق التعاون بينهم في سبيل تحقيق هدف بذاته. ولغويًا يأتي لفظ القيادة من الفعل قادَ يَقُود، قَوْدًا وقيادًا وقِيادَةً، فهو قائِد، والمفعول مَقُود، بمعنى مشى أمامه وتولّى توجيهه وتدبُّر أمره.
ومع بدايات الألفية الجديدة، بزغ توجه جديد من المنظمات العالمية يدعو إلى التخلي عن المفهوم التقليدي للقيادة المستند إلى الهرمية وسلطة المركز، وتبني أنماط قيادية جديدة، من بين الأنماط الجديدة النمط الإداري، عُرف بـ”القيادة الخادمة” (Servant Leadership). وذلك النمط الحريص على إنشاء مُناخ متماسك بين القادة والمرؤوسين، والذي بدوره يؤدي إلى تحقيق الألفة والوحدة والانتماء داخل المنظمات والمؤسسات.
المشاركة في سلطة صنع القرار هي من أفضل المظاهر التي تؤكد عليها القيادة الخادمة؛ فمن خلال تعزيز المشاركة وتمكين وتشجيع مواهب المرؤوسين، يعمل القائد الخادم على إيجاد مؤسسة أكثر فاعليةً وقوى عاملة لا ينقصها الحافز، ومن ثَمَّ مؤسسة أكثر نجاحًا. وأحيانًا يشار إلى الهيكل التنظيمي الناتج عن تلك القيادة بتعبير “الهرم المقلوب”، إذ يأتي الموظفون والعملاء والأطراف المعنية على قمة الهرم، بينما يكون القادة في قاعدته، أما المرؤوسون النموذجيون، وهم الناتج المحقق من تفويض السلطة والمشاركة في صنع القرارات، فهم على الطبيعة المعكوسة للقيادة.
وأعترف أن هذا النمط القيادي لا يتناسب مع كل المنظمات، حيث لا يتناسب أسلوب القيادة الخادمة مع جميع القطاعات والمجالات.
في هذا النوع من القيادة، يبقى القائد وراء الفريق بعيدًا عن الأضواء: وبالتالي يُسمح للفريق بتحقيق التقدير، في حين أن هذا النهج يحقق مستويات عالية من المعنويات للمرؤوسين، ولكن هذا لا يتناسب مع بعض الحالات التي تتعلق باتخاذ قرارات سريعة، في الطوارئ والأزمات مثل تفادي وقوع كارثة طبيعية، أو في حالات ضيق الوقت.
تغييب الأنا في القيادة الخادمة: التضحية بالنفس وتنحية الأنا سمتان أساسيتان في أسلوب “القيادة الخادمة”، ولهذا من الصعب إيجاد القادة الخادمين، لأنهم عمومًا يميلون إلى حب الشعور بالسلطة والقوة والتحكم، لكن الأنا ليس لها مكان في “القيادة الخادمة”.
واحد من أسس القيادة الخادمة هو التمكين، أي تكليف المرؤوسين، مع تقديم الدعم لهم، والمشاركة في التخطيط وصنع القرار، وضرورة توفير عنصرين مهمين للتمكين وهما: التعليم مع التدريب، والتفويض؛ وبذلك تُعطى فرصة للمرؤوسين لتحمل المسؤولية في ظل الثقة التي يحظون بها من القائد.
وبالرغم من الانتقادات الموجهة للقيادة الخادمة، فإن “القيادة الخادمة” كاتجاه قيادي قد وجد الكثير من الاهتمام وتمت دراسته بصورة مفصلة في كثير من أدبيات علم الإدارة، واستخدامه بصورة موسعة من القادة. فليس معنى أن القائد خادم أن يتنازل عن مسؤوليته القيادية المتمثلة في تحديد الرؤية والرسالة والأهداف، ووضع القواعد التي تحكم السلوكيات والتصرفات، ووضع المعايير، وتحديد المسؤوليات والمحاسبة عليها، بل تكمن الفكرة نفسها في التعامل الجيد مع المرؤوسين، وفي أن قوته من قوة معاونيه، وأنه من الضروري إعداد قادة لا أتباع. وهذا يؤدي في النهاية إلى الإسهام في تحقيق المؤسسة لأهدافها.
قد يبدو أن كلمتي “القائد” و”الخادم” متضادتان وصعب التوحيد بينهما، فالقيادة مرتبطة في أذهان الناس بالتسلُّط على الآخرين، فالقائد هو الذي يأمر وينهي، وهو صاحب المركز الأول والذي يشير بأصبعه فيتحرك الناس طوع أمره. وقد كانت هذه هي الصورة المألوفة للحاكم الروماني في زمن السيد المسيح الذي قال عن نفسه في إنجيل (متى 20: 28): “أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.” وبهذا التعليم غيَّر الرب يسوع المسيح المفاهيم الخاصة بالقيادة المتسلطة وحوَّلها إلى القيادة الخادمة الباذلة. ولم تكن هذه شعارات نادى بها السيد، لكنه قال هذا تعليقًا على هذا الموقف الرهيب في إنجيل (يوحنا 13: 13-15)، فهذا العمل كان يقوم به العبد الذي يخدم في البيت وكان يُعتبر من أحقر الأعمال. وفي حديثه مع تلاميذه أيضًا، أوضح الفرق بين ما ينادي به العالم عن القيادة وما ينادي هو به، فنقرأ في إنجيل (متى 20: 25-26): “فدعاهم يسوع وقال: ʼأنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا، ومَنْ أراد أن يكون فيكم أولًا فليكن لكم عبدًا، كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.‘”
إن مفهوم القيادة في العالم يعني: كم من الناس يعملون لأجلك ويخدمونك؟ ولكن مفهوم الله يعني: كم من الناس تعمل أنت لأجلهم وتخدمهم؟
فإن كنتَ قائدًا فما هو موقفك؟ هل أنت تأمر الناس بأن يخدموك؟ أم تخدمهم أنت؟