قبل أن أستطرد في مقالي عن القمص سمعان إبراهيم، أسد المقطم والحمل الوديع تستحضرني آية وردت في (عب13: 7) “اذكروا مرشديكم الذين كلمكم بكلمة الله انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم” وأيضًا ما جاء في (عبر12: 1) “لذلك نحن أيضًا لنا إذ لنا سحابة من الشهود.” لذا أود ان ألقي الضوء في نبذة على هذا القديس المعاصر الذي قل أن يجود الزمان بمثله ليكون قدوة ومثل أعلى للشباب والأجيال مثله مثل أبونا مكاري يونان.
وُلِدَ باسم فرحات إبراهيم موسي في 5/ 12/ 1941 بقرية ميت يعيش، إحدى القرى التابعة لمركز ميت غمر محافظة الدقهلية. وخلال السنوات الأولى من عمره، توفى والده فتولت والدته تربيته وحرصت على تلقينه التعاليم المسيحية ووصايا الكتاب المقدس. وفي سن الشباب، عمل في مجلة “الكرازة المرقسية” وبدأ في خدمة إلهه من خلال افتقاد الغرباء وخدمتهم والحديث معهم عن المسيح وحبه لهم ليحرك قلوبهم إلى التوبة حتى دعاه الله ووضعه على أول طريق خدمته.
ومن ضمن ما حُكي عنه أنه ذات مرة كان يتكلم عن ربنا مع عامل النظافة الذي جاء ليأخذ القمامة من شقته في منطقة شبرا، فقال له الرجل: “بدل ما تكلمني لوحدي تعالى اتكلم في بلدنا. الناس هناك كتيرة ومحتاجة ترجع للكنيسة وتسمع كلمة ربنا.” فقام الشاب فرحات وذهب مع عامل النظافة وبالفعل بدأ في الحديث مع أهالي منطقة المقطم عن أهمية التوبة وحب الله لهم حتى تحركت قلوبهم وتركوا حياتهم القديمة بما فيها من آثام وخطايا وتقربوا إلى الله بعد عدة سنوات وهو يصلي مع الناس في منطقة جبل المقطم حدثت زوبعة شديدة وطارت كمية كبيرة من الورق والأكياس والأتربة ومنها ورقة جاءت على الشاب فرحات وكان مكتوبًا فيها آية من الكتاب المقدس تقول: “لا تخف بل تكلم ولا تسكت؛ لأني أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك لأن لي شعبًا كثيرًا في هذه المدينة.” وفعلًا أخذ الورقة وذهب بها لأب اعترافه الذي أخذه للبابا شنودة الثالث وحكى له ما حدث وقال له: “يا قداسة البابا ده فرمان سماوي علشان فرحات يبدأ الخدمة.”
رُسِمَ كاهنًا باسم القس سمعان إبراهيم في 14/ 1/ 1978، بيد قداسة البابا شنودة الثالث على كنيسة القديس سمعان الخراز بجبل المقطم، وتمكن في العام نفسه من إنشاء كنيسة القديس سمعان الخراز لتكون الكنيسة الأولى التي تُبنى على اسم هذا القديس منذ وقت حدوث معجزة نقل جبل المقطم سنة 979 للميلاد في ظل حكم الخليفة المعز لدين لله الفاطمي، كما تمكن بعدها من بناء عدة كنائس في منطقة جبل المقطم واستخدمه الرب لجذب القلوب البعيدة وفي التعمير وبناء الكنائس. وتُعتبر كنيسة القديس سمعان الخراز أكبر كنيسة على مستوى العالم حيث تستوعب في أرجاء الدير 20 ألف مصلي. وكان قد انتقل ليسكن وسط شعبه في المنطقة المعروفة بمنطقة الزبالين ليحولها واحة جميلة ويقوم بتعميرها لتكون مجتمع يليق بأن يعيش فيه الناس بعد أن كانت منطقة زبالين ومنطقة مهملة. ورُقي لرتبة القمص في 15/7/1994.
وقد جمع القمص سمعان إبراهيم في شخصيته بين الحنان والحزم فكان محبوبًا من شعب الكنيسة الذين واظب على خدمتهم حتى وقت نياحته حيث تنيح بشيخوخة صالحة بعد معاناة مع المرض في يوم الأربعاء 11/10/ 2023، وشيعت جنازته في موكب جنائزي مهيب يوم الجمعة 13/10/2023 وخيم الحزن على شعب المقطم بل وكل الشعب في مصر والخارج.
رحل عن عمر يناهز الـ 82 عامًا قضى منها ما يقرب من الخمسين عامًا في خدمة الله والناس وكان معروفًا بطيبته وحنانه على الفقراء والمهمشين والمحتاجين. وكان أحد أشهر واعظي الكنيسة القبطية، وكان يحضر عظاته عشرات الآلاف من المسيحيين. وخلال فترة رئاسته للدير، قام بالعديد من الإنجازات منها إعادة ترميم الدير وإنشاء العديد من الخدمات الاجتماعية في الدير مثل دار المسنين ودار الأيتام، كما قام بإطلاق العديد من الحملات الخيرية لمساعدة الفقراء والمحتاجين وتحسين حياة جامعي القمامة في المنطقة. لقد كان القمص سمعان إبراهيم خلال رحلة خدمته مثلًا رائعًا في الحب والعطاء والبذل والتحمل. رحل عن عالمنا لكنه ترك خلفه إرثًا كبيرًا من الخير والعطاء وستظل ذكراه محفورة في قلوب أبنائه.
وفي يوم تشييع جنازته، احتشد آلاف المصريين مسلمين وأقباطًا من كل الطوائف والمذاهب بحضور لفيف من الأساقفة والكهنة والقسوس وأناب قداسة البابا الأنبا يؤانس أسقف أسيوط والقمص سرجيوس سرجيوس وكيل عام البطريركية بالقاهرة. قال القمص سرجيوس إن المتنيح القمص سمعان كان مثل يوحنا المعمدان لا يهاب أحدًا وقد عاد إلى وطنه السماوي، أما الأنبا يؤانس فقد نقل تعزيات قداسة البابا لأسقفية كنائس قطاع المقطم والآباء كهنة القطاع في نياحة الشيخ الجليل القمص سمعان إبراهيم والتمس عزاءً لأسرته المباركة ولشعب كنيسته. ولم يتمالك الأنبا يؤانس دموعه وهو يلقي كلمته، حيث قال: “إنني لم أجد احتفالًا مثل هذا فهو احتفال مهيب، فإذا كان هذا هو الوداع الأرضي فكيف يكون الاستقبال السماوي؟” حيث تحدث في ثلاث نقاط: الأولى هي رحلة جهاد هذا الرجل البار، فهو جاهد منذ سنوات طويلة فقال عنه البابا شنودة إنه ينحت في الجبل، والثانية هي بعض فضائل هذا القديس فهو اقتنى ثمار الروح، والنقطة الثالثة هي نهاية القمص سمعان فبانتقال القمص سمعان إبراهيم أُغلق السفر الخاص به، وفي يوم الدينونة عندما يُفتح السفر الخاص به سنجد أعماله وأتعابه في تأسيس الدير وفي خدمة الشعب، فهو كان سببًا في السلام بين الكثيرين.
وزف خورس الشمامسة جثمان المتنيح القمص سمعان إبراهيم حيث حمل الصندوق الآباء الكهنة وسط بكاء الألوف، ودُفن الجثمان الطاهر بسلام بالمقر المخصص له بدير القديس سمعان الدباغ الخراز. وقد نعاه أيضًا الدكتور القس سامح موريس من فوق منبر كنيسة قصر الدوبارة وقد امتلأت عيناه بالدموع، كما نعاه أيضًا الأنبا باسيليوس بالدموع في عظته بالكنيسة الكاثوليكية.
الأب سمعان إبراهيم ينطلق من الكنيسة المجاهدة إلى الكنيسة المنتصرة بعد أن كسر قارورة الطيب أمام قدمي السيد ليلحق بالأب مكاري يونان. وفي الحقيقة، أجد عوامل كثيرة مشتركة بين القديسين، فالمعذرة إذا كنتُ سأقتبس في كتابة هذا المقال عن القديس القمص سمعان إبراهيم أسد المقطم بعضًا ما كتبت عن القمص مكاري يونان في مقالي الذي كتبته في مطلع العام الماضي لجريدة “الطريق والحق”.
ومن وقع الدهشة تساءلتُ: أحقًا رحل الأب سمعان إبراهيم أم كذبًا وبهتانًا وإفكًا؟ أحقًا رحل الحكيم وقلب الكنيسة النابض قديس عصره وخادم جيله بأمانة؟ أحقًا رحل الفارس مفسر كلمة الحق باستقامة؟ أحقًا هوى النجم الروحاني الساطع في سماء المقطم؟ أعمود في الكنيسة سقط؟ لا وألف لا، فشمس الأب المبارك لن تغيب وإن كانت روحه قد أشرقت في نور الأبدية فسيظل ينير وسيظل منارة طوال السنين بأقواله وأعماله وتعاليمه وخدماته وعظاته وصلواته ومسحة الروح القدس فيه والمواهب التي أعطاها له الرب كإناء خزفي وقارورة طيب. كان شعاره شعار يوحنا المعمدان: “ينبغي أن هذا يزيد وأني أنا أنقص.” تختفي ذاته ليظهر مجد الرب وحده وليأخذ الرب وحده المجد. لقد استطاع أبونا المبارك القمص سمعان إبراهيم أن يكون متفردًا بين كثيرين من خدام جيله مثله مثل الأب مكاري يونان بإنكار الذات والتواضع والبساطة والتسامح ومحبة الجميع والبشارة بالخلاص والملكوت لجميع الناس معطيًا كل المجد لملك المجد. كان واعظًا قديرًا منحه الرب مواهب عدة في الشفاء وإخراج الشياطين من الأجساد المتعبة. جذب إليه الآلاف بل ومئات الآلاف من داخل مصر وخارجها فزحفت الجموع من أبناء الوطن الواحد ومن شركاء الوطن نحو كنيسته في الموعد ليلتقوا برجل الله ويحصلوا على الغذاء الروحي من كلمة الله. كان يرفع صلواته من أجل الشعب ومن أجل المرضى والتعابى والحزانى والمتألمين والمجربين والذين ليس لهم رجاء ليحصلوا على الرجاء وينتهر باسم الرب يسوع المسيح الأرواح النجسة والشياطين الساكنة في الأجساد والتي قامت بتعذيبها سنوات هذا عددها وسببت لها الأمراض والأتعاب فتطيعه الشياطين وتخرج صارخة لأنه أمرها بالخروج باسم الرب يسوع المسيح. وأيضًا صلواته من أجل سلام وأمن الوطن فقد كان عابرًا للأديان فأحبة المسلمون والمسيحيون على السواء لأنهم وجدوا فيه نعمة من الرب ورحمة للشفاء والتخلص من الأوجاع بفعل الروح القدس، فكان إناءً للكرامة كما كان راعيًا وكاهنًا وخادمًا وقسًا عابرًا للطوائف والمذاهب المسيحية داعيًا إلى وحدة الكنيسة والمحبة بين جميع المذاهب والطوائف والعودة إلى الكنيسة الأولى أيام الرسل، كنيسة المسيح الواحدة الجامعة الرسولية. حاربه البعض واضطهدوه وقاوموه وأتعبوه وتحمل الكثير من الألم والتعب والتجريح من أجل سيده واستمر يجول يصنع خيرًا مثل سيده. ورغم تحمله معاناة تنوء عن حملها الجبال والجمال سامحهم ومكَّن لهم المحبة جاعلًا نظره نحو الجعالة العليا.
اتهموه بالبروتستانتية والوعظ بأفكارها وكأن البروتستانتية رجز من عمل الشيطان، وكل ذلك لأنه جمع كل الطوائف والمذاهب المسيحية من أرثوذكس وكاثوليك وإنجيليين في مؤتمرات حاشدة للصلاة والترانيم وسماع كلمة الله الموحى بها في سفح جبل المقطم والكنيسة الكبيرة التي أسسها والدير الكبير الذي قام بتعميره وحمل اسم القديس سمعان الخراز. لم يهمه شيء سوى أن يأخذ المسيح وحده كل المجد.
أبى، حملت شعبك في قلبك وفكرك وكنيستك على منكبيك. أبي، غزوت القلوب بسلاح الحب والإيمان ولم يكن من شاغل لك إلا خلاص النفوس البعيدة عن رب الحياة, صرت شعاعًا يسطع عبر جبل المقطم. أبي، صرت صوتًا صارخًا في البرية بكلمة الحق الكتابية وبالحكمة والموعظة الحسنة والشجاعة في قول الحق لأن الحق يحرركم. لمسنا فيك الوفاء في أسمى معانيه لكنيستك فكنت الخادم الأمين لسيدك.
اصبغ يا رب عزاء السماء والروح القدس على شعبك وبلسمك على القلوب الجريحة ورحمتك للنفوس وعوِّض شعبك وكنيستك خيرًا خاصةً في جبل المقطم وفي كل أنحاء مصر بأمثال الأب سمعان إبراهيم.
أبى، يا مَنْ بكيتك مع شعبك بدمعي وقلبي، ارقد بسلام وسلامًا لروحك أيها الكاهن المجاهد. إنها استراحة محارب ضد العالم والشيطان وآن الأوان للفارس الروحاني أن يستريح. أبي سمعان إبراهيم، لن أقول وداعًا بل إلى اللقاء.