قضية أحد رجال الصوفية والذي له مريدون كثيرون من المثقفين الكبار، سواء كان شيخ طريقه حقيقيًا أم مزيفًا، فتحت نقاشًا فكريًا أكثر منه أمنيًا، وخلقت حالة جدل حول مفاهيم ملتبسة أكثر من حالة الجدل حول أخلاقيات أو ممارسات شاذة. وأكثر من وقع في حيص بيص كان صاحب الفكر العلماني، فهو يستمتع بقراءة مسرحية «الحلاج» لصلاح عبدالصبور، ويقتبس مقولات للرومي على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو مفتون برواية «قواعد العشق الأربعون» لأليف شافاق، ولكنه مصدوم مما شاهد وقرأ وسمع عنه من ممارسات في هذا المحيط الصوفي أو الذي يطلق على نفسه وصف صوفي.
طرحتُ هذا التساؤل الحائر على صفحتي، وقلتُ إن صاحب الفكر العلماني العقلاني العلمي انطلاقًا من تركيبة العقل النقدي عنده رافض لفكرة الكرامات والمعجزات الصوفية، مثلما هو رافض لفكرة تقديس وعبادة الماضي وتحنيطه وتفضيل النقل على العقل وحرفية التفسيرات السلفية، إذن لا خيار عنده بين الصوفية والسلفية، فكلاهما غير مقبول لديه.
هذا هو موقف العلماني الشخصي، لكن هناك إشكالية خطيرة، وهي أن رفض الصوفية والسلفية الجهادية من منطلق عقلاني علماني يظل موقفًا شخصيًا، للعلماني كل الحرية في تبنيه، لكن إذا كان يعيش في مجتمع يسيطر عليه التفكير الخرافي، وطُرح عليه سؤال: إذا خيرت بين السلفية والصوفية أيهما تختار أن تتعايش معه مرحليًا حتى يتحقق المجتمع العلماني الحداثة؟ –وهذا السؤال ليس افتراضيًا أو خياليًا، إنما تظهر إرهاصاته أمام أعيننا الآن حين نرى حماس السلفيين لاستغلال قضية شيخ طريقة صوفي لضرب تيار الصوفية كله، والسيطرة على بيزنس الدين كله– من الممكن أن تعتمد إجابته على أن السلفية الجهادية بذرتها بالضرورة لا بد أن تثمر عنفًا وقتلًا وتكفيرًا، أما الصوفية فمهما حملت من خرافات فهي في النهاية لن تتحول إلى سلاح وعنف وتدمير.
ومع ذلك، يظل العقل الواعي في مقابل العقل المغيب هو هدف العلماني الإستراتيجي، ولكنه في بعض الأحيان يضطر تكتيكيًا إلى دعم الفكر الصوفي المحب ضد الفكر السلفي الكاره. وللأسف في مصر التي يعاني الشارع فيها من تغييب عقلي، فإن ضرب الصوفية يصب تلقائيًا في خانة السلفيين التكفيريين الجهاديين، ويزيد من رصيد السلفية، ولا يصب في خانة انتصار العقل، وتلك هي المعضلة الكبرى، أن تُجبر على الاختيار بين هلاوس وضلالات وعصاب مرض عقلي، وبين مرض عقلي آخر.
السؤال التالي هو: هل رفض شيخ الطريقة الذي ظهر على الساحة أخيرًا يستتبعه رفض الحلاج وابن عربي والرومي.. الخ؟ هل كلهم باكيدج واحد؟ هل الصوفية تيار واحد، وشكل واحد؟ هل نحن لا نعرف أن عدد الطرق الصوفية في مصر يتراوح ما بين 60 إلى 80 طريقة معترفًا بها بشكل رسمي، وهذه الطرق تتبع أسُسًا ومناهج روحية مختلفة، ولكن كلها تشترك في الهدف المتمثل في التزكية الروحية والقرب من الله. وللتوثيق وتعريف مَنْ لا يعرف، نذكر أشهر تلك الطرق الصوفية في مصر: الطريقة الشاذلية والتي أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي، والطريقة البرهانية وتأسست على يد الشيخ إبراهيم الدسوقي، والطريقة النقشبندية وتعود أصولها إلى آسيا الوسطى، لكن أصبح لها حضور في مصر، والطريقة الرفاعية وأسسها الشيخ أحمد الرفاعي، والطريقة الخلوتية وهي من أقدم الطرق في مصر، والطريقة البدوية نسبةً إلى السيد أحمد البدوي، والطريقة العزمية وهي من أشهر الطرق في العصر الحديث، والطريقة القادرية وأسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني، والطريقة السمانية وأسسها الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان، والطريقة الجازولية وهي فرع من الشاذلية، والطريقة المحمدية وأسسها الشيخ محمد عثمان.
وهناك أيضًا طرق فرعية متفرعة من هذه الطرق، وكل واحدة منها تتبع أسلوبًا خاصًا في العبادة والذكر وتجذب مريدين مختلفين بناءً على التراث والتوجيه الروحي. فهل يخاصم صاحب التوجه العلماني كل تلك التيارات، وهو يعرف أن خصومته معهم ستصب أوتوماتيكيًا عند الطرف الجهادي التكفيري؟ وهل يخون منهجه العلمي التجريبي الحداثي، ويسير في ركاب التيار الصوفي بكراماته؟
سؤال آخر مهم: هل كل إنسان مهما بلغت صرامته العقلية يحتاج إلى نافذة روحية يطل منها على العالم؟ فما هو البديل لكيلا يرتمي في حضن فكر خرافي أو إرهابي؟ إنه الفن، النافذة الروحية التي كان يجب أن تكون ترياق الروح الحائرة العطشى، لكن –للأسف– هناك جفاف وتصحر فني لا يتسع لكل تلك الطاقات الإنسانية التي كان يجب أن تجد لها متنفسًا في قصور الثقافة ومراكز الشباب والمدارس والجامعات.. الخ.
وللأسف الأشد صار قطاع كبير من المجتمع كارهًا للفن متربصًا بصناعه، الفن صار استهلاكيًا ولا بد أن ننقذه من عجلة التيك أواي والدليفري وأغاني المهرجانات.. الخ، الفن هو طاقة روحية تحميك من الاحتياج إلى طاقات مدمرة سالبة أخرى، تسلب منك العقل، حتى لو منحتك تلك النوافذ الأخرى زادًا روحيًا كما تتوهم، إلا أن ثمن تضحيتك بعقلك باهظ وخطير الأثر.
بينما غبار تلك المعركة يتصاعد، كان لا بد أن تكون تلك التساؤلات والتحذيرات والتحديدات نصب أعيننا، حتى لا تتوه ملامح الطريق، فالبوصلة الصحيحة لا بد أن تحمل مؤشرين، العلم والفن.