العدد 134الصادر في نوفمبر 2016 العقلية الإسلامية والنصوص الإلهية المسيحية
مرة أخرى يتكرر الحديث عن إشعياء ١٩ وعلاقة النبوة التى فيه بمصر، وواضح أن كل منا في مصر يقرأها بطريقته، فالمسيحيون يؤمنون أن إشعياء ١٩ ما هى إلا جزء من كلمة الله الحية المعصومة المتضمنة بين ضفتي كتاب الله الوحيد، التوراة والإنجيل، وبين المسيحيين بعضهم وبعض ترى كل طائفة تفسيرًا خاصًا لما ورد في إشعياء ١٩، وبالرغم من اتفاق المسيحيين جميعًا في أن إشعياء ١٩ موحى به من الله وهو وحي من جهة مصر، إلا أن الخلاف يبدأ بينهم من العدد الأول في الإصحاح، فأول كلمات الإصحاح يقول تنزيل الحكيم العليم: “وحي من جهة مصر: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر ويذوب قلب مصر داخلها”. فمن المسيحيين من يؤمن أن إشعياء ١٩ يتكلم عن مجئ المسيح إلى مصر في زيارة العائلة المقدسة عندما كان في المهد صبيًا، ومنهم من يظن أن 19: 19 من نبوة إشعياء والتى كتب فيها أشعياء مساقا من الروح القدس -كما نؤمن نحن المسيحيون جميعًا- “في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها” إن المذبح المذكور هنا هو مذبح الكنيسة الأرثوذكسية وهكذا الحال بين المسيحيين، أما أغلب المسيحيين فلا يعرفون ولا يعترفون إلا بجزء بسيط من الآية الواردة في أشعياء ١٩ والعدد ٢٥ وهو العدد الأخير من الإصحاح القائل: “مبارك شعبي مصر” وهو المقطع الذي يتكرر مئات المرات في الكنائس والاجتماعات واللقاءات بين المسيحيين والمسلمين، وكأنه الوحيد في إشعياء ١٩. أما المسلمون فلا يعلم إلا الدارسون المتخصصون أو القراء المحترفون أن هناك سفرًا في كتاب الله، الكتاب المقدس، يعرف بسفر إشعياء، ولا فكرة لديهم أن هناك نبيًا للمولى تبارك اسمه يدعى إشعياء. وحتى المثقفون الدارسون من المسلمين لا يأخذون ما جاء في التوراة كوحي من الله، حيث أن لديهم الاعتقاد، غير المبنى على أدلة تاريخية أو عقلية أو دينية أو علمية أو جيولوجية أو غيرها من الأدلة التي يمكن أن تؤكد أو تنفي هذا الاعتقاد وهو أن التوراة قد تحرفت ولعبت بها يد البشر بالزيادة والنقصان. بل على العكس فمن الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة والمتواترات ما يؤكد أن نبي الإسلام ما كان يؤمن بتحريفها، حتى نقل عنه القول عن التوراة: “آمنت بك وبمن أنزلك”.
أما بعض العلمانيين ومنهم من هم ملحدون، الذين لا يؤمنون لا بالتوراة أو الإنجيل أو القرآن، فليكن فليؤمن من يؤمن وليكفر من يكفر، وليصف من يصف نفسه أنه كافر أو مؤمن، لكن أن يتناول أديب أو كاتب أو صحفي كتاب غيره من الأديان بتفسير خاص ويطرحه وكأنه اكتشف ما خفي عن أصحاب الكتاب أو كأنه نبي أرسل من المولى في القرن الواحد والعشرين ليهدي الناس، أو أن هذه النصوص تحتاج إلى مراجعة أو تصحيح أو إعادة صياغة وخاصة إذا تضمن هذا التفسير ما ينطوي على التهكم أو الإهانة أو التشكيك في كتاب المولى تبارك اسمه، حتى لو لم يكن مؤمنًا أن هناك كتابًا للقدير على الأرض اليوم.
وهناك عدة نوعيات من البشر، عندما يأتي الأمر إلى التعليق والكتابة عن وحي من الله تبارك اسمه:
١- هناك المخلصون المجتهدون المؤمنون أو حتى المتشككون في صحة النصوص ومصدرها، وهؤلاء تكون كتاباتهم كأسئلة وحوار جادًا بناءً ينتهي إلى فائدة الجميع وتصحيح المفاهيم وخير البشر.
٢- وهناك المتكبرون المتغطرسون الذين يظنون في أنفسهم أنهم أنبه إخوتهم وهم الفاهمون وعلى الناس أن تسمع وتطيع وتقول آمنا بما أنزل إليكم ورجعنا فيما تسلمناه من أجدادنا واختبرنا صحته في نفوسنا.
٣- وهناك طالبوا الشهرة والأضواء ومحاولي جذب الانتباه لأنفسهم وهؤلاء يتلونون بكل لون لتحقيق مأربهم.
٤- أما النوع السائد في مصر الآن هو أهل العلم والخبرة والمعرفة الذين يقولون الحق في مواقف كثيرة ما أن يلقوا تهديدًا من الجماعات المتطرفة بالقتل أو التكفير أو من الحكومة والقضاء بالحبس جزاء لآرائهم المضادة لدين الأغلبية، فيتحولوا فجأة إلى زعماء ينقدون ويستهزؤون بدين الأقلية وكتبهم ومعتقداتهم، حتى يظهروا للمجتمع أنهم أبطال يكرهون إسرائيل ولا يؤمنون بالمسيحية وربما المسيح. فالكاتبة التي طالما دافعت عن قضايا حقوق الإنسان والحيوان ورفضت ذبح الأضاحي وحكم عليها بالسجن فجأة تناولت المسيحيين باللوم والتقريع، والكاتب المحترم الشهير من تعودنا منه التدقيق فيما يقول عندما لاحت في الأفق تهمة ازدراء الأديان تحول لنقد التوراة والإنجيل، وأصبح في ليلة وضحاها من المفسرين والمتهكمين عليهما، لا وأصبح عليم بالنبوات وتحقيقها وتفسيرها، يا سبحان الله!
لقد كتبت أكثر من مرة عن إشعياء ١٩ وعلاقته بمصر. وإليك بعض المقتطفات مما كتبت، في مقال “إشعياء 19 والأحداث الجارية”
عندما يمر العالم بأحداث غريبة وعنيفة، كتلك التي مرت وتمر بمصر والشرق الأوسط في هذه الأيام، عادة ما يسرع المرء إلى مراجعة النبوات الواردة في بعض مقاطع الكتاب المقدس، ومحاولة تفسير هذه الأحداث وفهمها مما ورد في كلمة الله، وهذا أمر رائع أن يكون الكتاب مرجعنا والنبوات دليلنا والحق سراجنا في فهم ما يحدث حولنا. لكن ينقسم الناس في التعامل مع هذا الأمر إلى عدة أقسام أذكر منها: أولاً: من يحاولون أن يجدوا ذكرًا دقيقًا تفصيليًا في الكتاب لكل حدث يبحثون عنه، وهؤلاء إن لم يجدوا ما ينطبق تمامًا على الحدث المعين بكل حذافيره ودقائقه اتجها إلى جهة من اثنين، إما استبعاد النبوة أو النص الذي لم يفِ بالغرض من وجهة نظرهم وإما أن يطوعوا، لو كانوا مخلصين، أو يلووا النبوة، إن كانوا مغرضين، لتطبق تمامًا على الأحداث الجارية، فيحملون النصوص الكتابية أكثر مما تحتمل ويضخمون بعض النقاط الواردة في النبوة تلك التي تتوافق مع أغراضهم، ويصغرون من النقاط غير المنطبق عليها.
ثانيًا: أولئك الذين يبحثون النصوص الكتابية والنبوات المستقبلية ويفهمونها ويفسرونها ويؤمنون بها، بغض النظر إن انطبقت بحذافيرها ودقائقها على الحدث المراد فهمه أو لا. أولئك يعلمون أن الأحداث لابد أن تفسر في ضوء كلمة الله وليس العكس، أي لا ينبغي أن تفسر كلمة الله في ضوء الأحداث، لكنهم يرون إما أن النبوة تنطبق أو لا تنطبق على الحدث.
ثالثًا: المجموعة الثالثة هي التي تفهم النبوة في أبعادها التاريخية، أي زمن هذه النبوة التي قيلت فيه وزمن تحقيقها. وعن زمن تحقيقها هل ستتحقق كلها في زمن واحد ومرحلة واحدة وحدث واحد أم ستتحقق في مراحل متتالية وأزمنة مختلفة؟! ثم لابد أن نفهم البعد الشخصي لمن يلعب الدور الأساسي في هذه النبوة، والبعد الجغرافي، والوحي النبوي… إلخ. ولضيق المساحة أقول: إن تفسير النبوات وتطبيقها على واقع الأحداث ليس بالشيء اليسير. ومهما أوتينا من حكمة ومعرفة ودراسة، فلن نعرف كلمة القدير ولن نفهمها بعمقها الكامل، إلا متى جاء الكامل وأبطل ما هو بعض أو جزئي. فنحن الآن نعرف بعض المعرفة ولكن حينئذ سنعرف كما عرفنا.
ولعل النبوة الواردة عن مصر في سفر إشعياء 19 تكون هي الأكثر تداولاً في هذه الأيام، نظرًا لما يحدث في مصر من أحداث تفوق تخيلات أهلها، وتتوالى الأحداث فيها بأسرع مما يمكن الإحاطة بها وتفسيرها، ويشوبها غموض في مستقبلها، يكذب من يقول أنه بقادر على فك كل طلاسمه وأسراره.
وأنا من المدرسة المسيحية السلفية التي تؤمن أن كل ما حدث ويحدث وسيحدث في عالمنا، إنما هو مدون بصورة أو أخرى، تلميحًا أو تصريحًا، تفصيلاً أو إجمالاً، في كتاب القدير، الكتاب المقدس، لكنني لست ممن يحاولون أن يجدوا نصًا كتابيًا منطبقًا تمام الانطباق على كل ما حدث ونمر به، بل أحاول أن أفهم الأحداث الجارية في ضوء ما دونه الكتاب المقدس. فالأحداث هي التي ينبغي أن تفهم في ضوء كلمة الله وليس العكس كما قلت. فالكلمة النبوية هي الأثبت وهي الأوسع جدًا من كل كمال في هذا العالم. وليس هدفي من هذا المقال أن أدرس وأسرد النصوص الواردة في إشعياء 19 وأحاول تفسيرها، بل محاولة إلقاء الضوء على بعض ما ورد في هذه النبوة من نقاط في غاية الأهمية لفهمها في وقتنا الحالي، وإليك هذه النقاط:
– وحي من جهة مصر، أي أن ما نحن بصدد الحديث عنه هو وحي أي إعلان الله سبحانه وكلمته من جهة مصر، والوحي يُقبل ويخضع له ولا ينقض. وهناك فرق بين الوحي وهو الكلمة النبوية التي هي أثبت، وتفسير الوحي. فتفسير الوحي ليس وحيًا. فالوحي- كما قلت- هو ما خرج من فم القدير وهذا هو الملزم، أما التفسير فهو محاولة لفهم الوحي وشرحه وتبسيطه، لذلك فالوحي واحد أما التفاسير، فقد تكون كثيرة، والوحي ثابت أما التفاسير فمتنوعة وقد تكون متضاربة، لكن يبقى الوحي وحيًا سواء أمكننا تفسيره أم لا. ويخطئ الكثيرون عندما يتعاملون مع تفسير الوحي وكأنه هو الوحي نفسه، لذا قلت لن نعرف التفسير الكامل بكل أبعاده للنبوات إلا عند مجيء الكامل، مع علمي باختلاف تفسير حتى كلمة الكامل ومن هو أو ما هو ومتى يجئ هذا الكامل في تفسير هذه الآية. ولقد حدد الوحي بحصر اللفظ أن هذا الوحي هو من جهة مصر، أي خاص بمصر، وهنا لا مجال للتفسير مع الاحتفاظ أيضًا بمحاولة معرفة أي مصر تلك التي تكلم عنها الوحي، أهي مصر مصرايم وأولاده وأحفاده، أم هي مصر الفرعونية، أم هي مصر المدنية التي كانت الغالبية العظمى من شعبها الأقباط المسيحيين، أي مصر القبطية، أم مصر الإسلامية الحالية مع وجود الأقلية القبطية بها، أم أن مصر في فكره تعالى كانت مختلفة عن كل هذا، أم أنها مصر بكل أحقابها وتفرعاتها؟! وفي رأيي الخاص (وهذا تفسير وليس وحيًا)، إن المقصود بمصر هنا هو مصر في كل عصورها وأزمنتها. فالنبوة تبدأ “هوذا الرب آت سريعًا على سحابة ليهز أوثان مصر، ثم تتحدث عن فرعون، وهو شخص بذاته وقد يكون شخصية اعتبارية تشير إلى إنسان أو جماعة حكام من الفراعنة أو حتى عملاً شيطانيًا أو روحًا شيطانيًا، كما جاء بالوحي أن ذراع فرعون كسرت ولن تجبر إلى الأبد، وواضح أنه لم يكن يتكلم عن فرعون الإنسان بذاته، وغيرها. ثم يذكر رؤساء صوعن، فجفاف مياه النيل وأنين المصريين، وعن المشورات البهيمية التي لرؤساء صوعن ونوف، ثم عن روح الغي التي مزجها الرب في وسط مصر، ولم يقل إنه سيحبسها أو يوقف تأثيرها في وقت من الأوقات، ثم المولى القاسي الذي سيغلق على المصريين في قبضته، ثم عن ضربات تأتي على مصر، فيضرب الرب مصر ضاربًا فشافيًا، ثم البركة التي ستأتي إلى مصر عندما تعبد هي والمملكة الآشورية القديمة وإسرائيل (وهنا أقول صدق أو لا تصدق أن مصر وإسرائيل والعراق وجل سوريا وإيران وغيرها من هذه المملكة القديمة سيعبدون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، يهوه القدير الجالس على كرة الأرض والمتسلط في مملكة الناس. يا للعجب!!)، وهذا لم يحدث من قبل في التاريخ أن اتحدت هذه الممالك في عبادة يهوه القدير. كل هذا سيحدث فيما أطلقت عليه هذه النبوة “في ذلك اليوم “.
اختلف المفسرون والشراح والنقاد في تعريف عبارة “ذلك اليوم ” ، أي يوم هو، هل هو يوم واحد كما نعرفه الآن، أم أنه حقبة زمنية معينة، أم أنه عدة أيام سيأتي فيها السيد للتنكيل بأوثان مصر وتجفيف النهر وترك روح الغي يعمل فيها وضربها وشفائها ثم ضربها ثم شفائها، ثم تولي المولي القاسي عليها وصراخ المصريين لله من كثرة مظالم هذا المولي وقسوته فيرسل لهم القدير المخلص؟! وكيفما كان التفسير لعبارة “في ذلك اليوم”، فهي لا يمكن أن تقبل على أنها تتكلم عن يوم كأيامنا المعروفة لنا الآن. و “في ذلك اليوم” في رأيي الخاص أنها حقبة زمنية يتم فيها كل هذا وتنتهي ببركة مصر وأشور وإسرائيل. ولن تسع مجلدات كثيرة تفسير هذه النبوة، لكنني حاولت أن أفهم بعض النقاط الواردة بها والأحداث الحالية في ضوء هذه النبوة، وإليك ما توصلت إليه:
أولاً: روح الغي، وقد كتبت عنه أكثر من مرة من قبل، (راجع مقال روح الغي). فهل مازال روح الغي يعمل في مصر حتى اليوم؟ أم أن النبوة كانت تتكلم عن فترة ما في الماضي وانتهت ولا عمل لروح الغي هذا في مصر الآن؟! إن نظرة سريعة على الأحداث تبين كيف يعمل هذا الروح في هذه الأيام. ثورة من الشباب المصري في 25 يناير، بم كانوا يطالبون؟ أعتقد أن ما كانوا يطالبون به لم يكن واضحاً تماماً في أذهانهم. ثورة ضد الفساد وغطرسة الحاكم وعائلته والأمن المصري صاحب السمعة الدولية العريضة في الإساءة لنفسه وبلده والفقراء والمحتاجين من شعبه، والتعذيب بأبشع وسائل عرفها العالم، وإدارة رموزه وضباطه لأوكار الدعارة والرذيلة، وفرضهم الإتاوة والابتزاز على الغلابة الذين لا حول لهم ولا قوة، والتفرقة والتمييز العنصري بين صفوفه وبين المواطن العادي المسكين المغلوب على أمره، ثم طالبت الثورة بإقالة النظام. ومن هو النظام التي طالبت الثورة بإقالته؟ أعتقد أنهم لم يكونوا يعرفونه، وحتى الآن فهم لا يعرفون ما هو النظام المراد إقالته. فالنظام بالنسبة للأغلبية العظمى تمثل في مبارك وعائلته، ثم اتسعت الدائرة لتشمل وزير الداخلية وعز وأولئك القطط السمان الذين نهبوا خيرات مصر لحسابهم. لكن هل هذا هو النظام؟! ألم يكن قادة الجيش الذين تولوا الحكم المؤقت من النظام؟ وهل قادة البوليس المصري من اللواءات ومديري الأمن ورؤساء الفروع المختلفة منهم، أليسوا هم جزءًا من النظام؟! ألم يكن المحافظون المعينون بالقرارات الجمهورية ورؤساء تحرير الصحف القومية المعينين بنفس القرارات الجمهورية، أليسوا جزءاً من النظام؟ أولا يمثل رئيس مجلس الشعب ورئيس مجلس الشورى النظام؟! فأي نظام هذا التي قامت ضده الثورة لإقصائه؟! وهل نجحت الثورة في إقصاء النظام؟ فهل تغيرت مصر؟ وهل أسقط النظام؟ وانفضت المظاهرات ومازال النظام القديم قائمًا بكل شروره، ما خلا القليل من رموزه؟ أليست هذه أعمال روح الغي الموجود بمصر حتى الآن؟ مثال آخر، الشعب يريد تغيير النظام، لكنه يبقى على الدستور القديم ويكتفي بترقيع بعض الثقوب الموجودة به، وهو الدستور الذي سيعيد مصر إلى أسوأ مما كانت عليه في القديم. فرغم أن تحديد عدد مرات انتخاب رئيس الجمهورية شيء مهم وأساسي، لكن تولي رئيس جمهورية ظالم وحرامي لن يمنعه من نهب ما كان سينهبه في اثنين وثلاثين سنة في 8 سنوات فقط، ثم يأتي حرامي آخر بعده وينهب هو الآخر في 8 سنوات ما نهبه غيره في 32 سنة. وهكذا، تتوالى 4 لصوص على الحكم على مدى 32 سنة ينهبون فيها أربعة أضعاف ما سينهبه حرامي واحد في 32 سنة، اللهم إلا إذا قام رئيس شريف أمين، وهو ما لا أراه على الساحة اليوم.
أليس من أعمال روح الغي أن يوافق الناس على دستور تتضارب مواده؟! ففي إحداها يقرر الدستور أن المواطنين جميعهم سواء، بغض النظر عن اللون والدين والعقيدة، وأن حرية العبادة مكفولة لكل المواطنين بالتساوي، ثم ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع والإسلام دين الدولة، وبالتالي، فكل ما يخالف الشريعة الإسلامية ليس دستوريًا بحسب تفسير هذه المادة، فالكرازة بالإنجيل ضد مبادئ الشريعة، وبناء الكنائس ضد مبادئ الشريعة، وتولي المسيحي رئاسة الجمهورية لا يتفق مع الشريعة. أليست هذه جزءًا من الأمور التي قامت ثورة 25 يناير لإصلاحها؟! فكيف وافقوا على هذا الدستور المرقع وهو ما يسمح بإبقاء الحال على ما هو عليه؟! كيف يحرم على المسلمين، الذين اللغة العربية المكتوب بها قرآنهم لغتهم، والإسلام الذي هو دين الدولة دينهم، والشريعة الإسلامية التي هي المصدر الرئيسي للتشريع شريعتهم، كيف لا يسمح لهم بإقامة أحزاب على أسس إسلامية دينية؟! وإن سمح لهم بأحزاب دينية إسلامية، فهل يسمح بحزب يسمى بالحزب المسيحي الديمقراطي مثلاً أو حزب الإخوان المسيحيين؟ ثم من يخدعون هؤلاء الموافقون على الدستور القديم، أيخدعون أنفسهم فيقررون أن لا أحزاب ذات مرجعية دينية، فتقوم الجماعة الدينية التي كانت محظورة علنًا وحرة طليقة سرًا حتى في عصر الرئيس المخلوع بتأسيس حزب ولتسميه حزب العدالة والديمقراطية، أو حتى لو أسمته حزب حسن ومرقص. هل المشكلة في اسم الحزب أم في أيديولوجيته الدينية وعناصره الدينية وأجندته المعلنة والخفية؟! أليست هذه الخدع والحيل هي من صميم روح الغي الموجود في مصر والذي قالت عنه النبوة إن الله مزجه فيها؟ أليس من الغي والشر والخداع أن يتحول الاقتراع على المادة الثانية للدستور بفضل خفافيش الظلام إلى حرب وغزوة أسماها أحدهم غزوة الصناديق وأعلن انتصاره والمسلمين جميعًا في هذه الغزوة على أعداء الإسلام ممن اعترضوا على ترقيع الدستور القديم وطالبوا بدستور جديد؟! هل هناك تجل لروح الغي وعمله في مصر أوضح من هذا الحادث اليوم؟! إذن فهذا الجزء من نبوة النبي إشعياء مازال فعالاً عاملاً ممتدًا عبر التاريخ وحتى يومنا هذا.
ثم ماذا عن المولى القاسي الذي وعد الله في قضائه على مصر أن يوليه عليها، أهو فرعون تلك الأيام التي قيلت فيها النبوة، أم آخر جاء في فترة من الزمان لحكم مصر؟ هل هو شخص إنسان واحد، أم هو نظام أم روح شرير يعمل في أبناء المعصية ويسلطهم على الضعفاء العزل من أهل البلاد؟ وهل هناك أقسى من المولى المعروف بروح ضد المسيح الذي يضطهد عبيده تبارك اسمه؟! هل هناك أقسى من مولي يأتي بجيوش وخيول وعتاد ورجال، عاشوا طوال أعمارهم في صحراء جرداء في خيام وحر وبرد لم يروا نيلاً ولا خضرة ولا بيوتاً بل كانوا ساكني خيام، يحاصر مصر ويفتحها ويتسلط على مواردها ويستعبد أولادها ويأخذهم إلى صحرائه ليعلموه الصناعة والزراعة والعلوم، ويهدم كنائسها ويغير لغتها ويعلن أنه صاحب البلاد ويحدد إقامة سكانها ويجبرهم على دفع الجزية عن يدهم وهم صاغرون، ذلك الروح الذي يعتبر كل من يؤمن أن المسيح جاء في الجسد فهو كافر ومشرك وأن من يؤمن أنه صلب وقبر ومات، فهو ضال وعدو لديانته ويحق عليه الجهاد؟ أليس هذا ما تنبأ عنه يوحنا الحبيب في رسائله؟ ألا يزال هذا الروح الشرير يعمل حتى الآن في مصر ويزداد قساوة وحنقًا على أتباع المسيح الحي؟ لكنني أثق (وهذا تفسير واجتهاد وليس وحيًا) أن مصر لم تر حتى الآن هذا المولي القاسي المذكور في إشعياء 19 بعد. وما به مصر الآن من أحداث وقهر وظلم للمسيحيين والغالبية العظمى من المسلمين، ما هو إلا ما قبل مبتدأ الأوجاع، فمبتدأ الأوجاع لم يأت بعد، فكيف وكيف يكون وقت الولادة؟!
فستأتي أيام لن يتمكن المسيحيون من العبادة في كنائسهم، بل في مغاير وشقوق الأرض، وستقام عليهم الحدود وقد بدأت بقطع آذان البعض في مصر وما خفي كان أعظم، ستصبح الشهادة والاستشهاد أحداثًا يومية متكررة حتى تصير أمرًا عاديًا طبيعيًا. سيصبح لدينا في مصر جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطريقة أو أخرى، كنسخة لما يحدث في السعودية الوهابية. ستحدد إقامة الكثيرين في مدنهم وبيوتهم، فلا يرون الشارع إلا بأمر المولي القاسي، لن يسمع فيها صوت العروس وصوت العريس وستخرج نار من فم هذا المولي القاسي، لتحرق وتهلك وتقتل، وسينقي المولى التبن من الحنطة في ذلك اليوم. هوذا السيد الرب آت إلى الكنيسة الأسمية المنتشرة في كل الطوائف المسيحية التي لها صورة التقوى، لكنها منكرة قوتها، فهي إيزابل العظيمة التي أشركت بمسيحها وأقامت تماثيلها وعبدت أصنامها وحولت بيته، تبارك اسمه، إلى مغارة لصوص فسيلقيها والذين يزنون معها في نار المولي القاسي وسيسلمها القدير لذلك المولي القاسي، فتستعبد له حتى تصرخ إلى إلهها فيخلصها. وستظل البقية التقية الأمينة، وهي أيضًا منتشرة في كل الطوائف المسيحية، والعابرين الحقيقيين شاهدة لإلهها، سيظل القدير يضرب مصر ضاربًا فشافيًا حتى تعبد إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فتتم النبوة “مبارك شعبي مصر” وعمل يدي أشور وميراثي إسرائيل.
والسؤال: ألا يمكن أن تتغير مصر تغيرًا حقيقيًا ويرضى المولى عنها؟ وللإجابة أقول: إن الله قادر على كل شيء وهو غفور رحيم وطويل الروح وكثير الرحمة، فإذا أرادت مصر تغييرًا حقيقيًا، فعلى جيل ثورة 25 يناير أن يعلموا أولادهم من سن الرابعة فما فوق أن الله محبة، وأن الدين عند الله هو المحبة، وأن من لا يحب لا يعرف الله ولا يمكن أن يكون من حزب الله ولن يحصد في حياته وآخرته، إلا الحقد والكراهية وعذاب النار في الآخرة.
لا يمكن أن تتغير مصر وتشفى إن لم تعرف أن في وسطها روح غي، وأنه إن لم تقم بثورة حقيقية ضد هذا الروح الشرير، “روح ضد المسيح”، وتوقعه وترد المسلوب للمسيحيين، وتصلح طرقها من كذب وسرقة وظلم وخداع وقهر اليتيم والمسكين وتبني على شريعة العدل والرحمة والمودة بين الناس، لن ترى الإصلاح والتغيير، وإن لم تأخذ الكنيسة دورها في بناء الإنسان السليم وتقبل الآخر وتتنازل عن كبريائها وعنادها وتمسكها بقشور المسيحية دون روحها، روح الحق المعزي لن تصلح مصر أبدًا، وإن لم يتغير ضمير الإنسان المصري من الداخل فينبذ الكراهية والإثم والعدوان، فلن تتغير مصر أبدًا.
وفي مقال “ماضي وحاضر ومستقبل مصر في إشعياء ١٩” تساءلت:
والحل؟، أليس من أمل في إصلاح مصر ونجاتها مما هي فيه؟ لقد ذكر إشعياء النبي أيضًا في نبوءته ما على المصريين أن يعملوه، حتى يرفع عنهم هذا العقاب. أولاً، لابد لهم أن “يصرخوا إلى الرب بسبب المضايقين فيرسل لهم مخلصًا ومحاميًا وينقذهم” . فبدون الصراخ والتضرع لله لن يرسل الله المخلص والمحامي عن مصر ولن ينقذهم. ولا بد أن “يعرف الرب في مصر ويعرف المصريون الرب”. فالمعروف في مصر اليوم أن أتباع الرب هم الكافرون المشركون العابدون لثلاثة آلهة، لذا فيحق ضدهم الجهاد والإرهاب ولتحرق كنائسهم، ولترمل نساؤهم، ولييتم أولادهم، ولا يسمح لهم بإقامة الصلاة في أراضي المسلمين، حتى لو كانوا قد استولوا عليها بالقوة وبدون وجه حق. والمعروف عن إلههم أنه الإله الضعيف الذى علم أتباعه الخوف والخنوع، عندما أوصاهم “من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر”. والمعروف في مصر اليوم أن “لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن الدين عند الله الإسلام، وما المسيح عيسى بن مريم إلا بشر رسول ” فليؤمن المسلمون بما يؤمنون وليعرفوا ما يعرفون، ولكن لن تصلح حال مصر إلا إذا عرف المصريون جميعًا، مسيحيين ومسلمين، من هو المسيح الرب، وأن ليس بأحد غيره الخلاص، وأنه هو الديان العادل من سيحاسب ويكافئ ويدين البشرية جمعاء، فهو ديان الأحياء والأموات، وأنه الجالس على كرة الأرض والمتسلط في مملكة الناس، هو الأول والآخر البداية والنهاية الألف والياء، من يقول فيكون، يأمر فيصير، يحيي الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة. ولن يصلح حال مصر إلا عندما يعرف المصريون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، أنه الإله الحقيقي وحده ويسوع المسيح الذي أرسله تعالى رحمة للعالمين، ولن يؤمنوا إلا بعد أن “يضرب الرب مصر ضاربًا فشافيًا فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم”.
وفي النهاية.. أقول إن من يريد أن يفهم نبوات الكتاب المقدس كما أرادها القدير لا يكفيه أن يكون دارسًا لها ومفسرًا وقارئًا لبعضها أو كاتبًا حولها، لابد أن يكون له علاقة شخصية بالقدير من أنزل هذه النبوات، ولا بد له أن يكون ممتلئًا من روحه تعالى، حتى يفسر له ويجيبه على أسئلته، ولابد أن يكون تلميذًا للكتاب المقدس، ومتواضعًا يقرأه في خوف ورعدة ويطبقه على حياته قبل أن يستخدمه في تصحيح أفكار الآخرين. حمانا الله من الكبرياء والعبث بالمقدسات.