العدد 130 الصادر في يوليو 2016 الصعايدة وصلوا…. إلى أين؟!!
لا يزال فيلم الاضطهاد والأحداث العجيبة المرعبة المقرفة والمستنفذة مستمرًا في العرض بأنحاء قرى ونجوع ومدن مصر، مصر الحضارة والأصالة والقيم. والعجب العجاب ليس في أحداث الفيلم التي لا يصدقها عقل بشري سليم فحسب، بل وفي القائمين بالأدوار المختلفة في هذا الفيلم من الكبار والصغار المسؤولين والتابعين العقلاء والمتطرفين، حتى أولئك الناس المتفرجين عليه، وكأن مصر بما فيها ومن فيها من بشر وطيور وحيوانات تحولت إلى دور للسينما، لابد أن تتواجد أيها القارئ العزيز فيها شئت أم أبيت، ولا بد أن تجلس في هذه السينما إلى نهاية هذا الفيلم المرعب السخيف بكل أوصافه السابقة غصبًا عنك، ولا بد أن تشترك ويكون لك رد فعل حقيقي عملي وأنت تشاهد هذا الفيلم الذي لا يصدقه عقل. وردود الأفعال هذه هي إما أن تقف متعجبًا ضاربًا الكف على الكف ومعلنًا عن استيائك ورفضك لأحداث هذا الفيلم وعندها سينظر لك من حولك على أنك مجنون وستجد من يخالفونك في الرأي بشدة، وسينتهي بك المطاف، في معظم الأحيان، بالاشتباك بالألفاظ أو حتى الأيدي في بعض أحداث هذا الفيلم، وإما أن تتصرف كالمغيب غير الموجود أو غير المكترث لأي شيء يحدث في مصر، وحتى في هذه لن يرحمك من حولك من المتفرجين، فعلى الأقل سيتهمونك بالتخلف والرجعية والسلبية وأنك بعت القضية ويدفعون بك في كل اتجاه، حتى تقول أو تعمل شيئًا في مسألة التفاعل مع الفيلم الذي نعيشه جميعًا وليس فقط نشاهده عن بعد.
أما المقطع الذي شاهدناه وعايشناه أخيرًا واستغله البعض فينا بأسوأ أو أحسن ما يكون الاستغلال، أبطاله في هذه المرة هم الصعايدة. وأخذت دور البطولة فيه امرأة ريفية مسيحية في سن السبعين من عمرها بقرية الكرم بمحافظة المنيا من صعيد مصر، وحيث أنني صعيدي أصيل أبًا عن جد وبالتحديد من عائلة اللجايبة، بقرية دير الجنادلة محافظة أسيوط، لذا فأنا أعرف من هم الصعايدة ومن حقي أن أتكلم عنهم ولهم كواحد منهم، حتى لو لم أكن قد ولدت في هذه القرية أو عشت فيها أبدًا.
ففي أيام الخير الخوالى، كان الصعيد بالنسبة لي هو مكان الرجولة والشهامة والأدب والأصول واحترام الكبير والمرأة ومكان البطولات التي طالما رواها لي والدي قبل رحيله إلى سماء ربه، الرجل المثقف الطيب الشجاع من كان في نظري أعظم وأحكم وأشجع رجال الدنيا، فكم روى لي والدي كيف أنه كان يصر، وهو في العشرينات من عمره، على أن يحرس الأرض الزراعية التي كانت عائلته تمتلكها في قريتنا بنفسه، وكيف كان يقضى الليل كله مختبئًا بين عيدان الذرة أو القصب حتى لا يراه المطاريد (الرجال الفارون من تنفيذ أحكام قضائية ضدهم ويعيشون في الجبال) عندما ينزلون من جبالهم بالليل ويسطون على البيوت والحقول، وكيف كان يضرب خلفهم الأعيرة النارية ليعلمهم بوجود حرس سهران لهذه الأرض ولتحذيرهم من أن يمدوا أيديهم بالسرقة لمحصولاتهم الزراعية، كل هذا كان دون أن يستطيع المطاريد أن يعرفوا مكانه وأين يختبئ، القصص التي كانت تثير دهشتي وتعجبي كطفل وتساهم في اقتناعي بأن أبي هو أشجع رجل في صعيد مصر، حتى أصبح الصعيد بالنسبة لي هو المكان الجميل الذي كنت أحلم بزيارته كل عام منذ أن قمت بأول زيارة له عندما بلغت من العمر خمس عشرة سنة، فالصعيد بالنسبة لي كان هو أعمامي وعماتي وأولادهم وبناتهم والهواء الخالي من التلوث والهدوء والبعد عن كلاكسات السيارات والحقول الخضراء ذات الرائحة الجميلة المميزة وهو أيضًا الحمار أو الفرس الذي كنت أعشق أن أركبهما وكان الحمار المسكين يجري بي عشرات الأميال ذهابًا وإيابًا في الشارع الوحيد، نصف المرصوف، المؤدي إلى الوحدة الصحية والمدرسة الابتدائية الوحيدة الواقعتين خارج البلد، وبالرغم من كل ما كان عليه الصعيد يومئذ من فقر واحتياج وشوارع ضيقة وتراب وكان أقل ما يمكن أن يوصف به أنه المكان الغير صالح للاستخدام الآدمي، بمقاييس أيامنا الحالية، فالقرى كانت محرومة من الكهرباء وبالتالي من كل ما تستخدم فيه الكهرباء من أجهزة إن كانت المصابيح، أو المياه الصالحة للشرب أو الثلاجات أو التليفزيونات أو سخانات المياه وخلافه، وبالتالي كان الصعيد يعتمد في طهيه للطعام على الكانون أو وابور الجاز وفي شربه على المياه التي يمده بها “السقا” والتي كان يحملها إلى البيوت من الحنفية الحكومية الوحيدة بالبلد يومئذ، ولا زلت أتذكر ذلك الرجل البدين الذي كان يعرج في سيره والذي كان يدخل إلى بيوت أهل القرية وهو حامل لقربة أو قربتين من المياه يصبهما في الزير المصنوع من الفخار والذي عادة ما يكون مكانه في الدور الأول، قريبًا من باب البيت الرئيسي، هذا السقا الذي لم يكن يستطيع أو يجرؤ على الدخول إلى بيوت الصعايدة، إلا إذا قال بأعلى صوته: “يا ساتر” حتى يسمع كل من في البيت صوته العالي، فيجيبه أحدهم أو إحداهن “ادخل” وعندها فقط يستطيع الدخول، وإن لم يجبه أحد من داخل المنزل كان يعاود الكرة مرة ومرتين وهو يقرع على باب البيت، حتى لو كان مفتوحًا على مصراعيه، كنت أعلم أن هذه الفقرة من مسلسل دخول السقا إلى أي بيت من بيوت الصعايدة كانت بسبب وجود النساء في البيت، فهو يقوم بكل هذه الطقوس تحسبًا أن تكون هناك امرأة “ خالعه رأسها” أي عارية الرأس على حد تعبير عادل إمام في إحدى مسرحياته، فكل ما كانت تستطيع النساء أن تكشف عنه حتى وهن داخل بيوتهن بين أولادهن وأزواجهن هي كفوفهن ووجوههن وعادة ما كن يغطين شعرهن، لكن حتى رؤوسهن لم يكن مسموح للسقا الذي كانت البيوت تعتبره كأحد أفرادها، نظرًا لدخوله البيت كل يوم، أن يراها. أما خارج البيت فكانت النساء ترتدي ما كان يعرف في قريتنا ب”الشُجَّة”. والشجة هذه هي وشاح من قماش أسود اللون تشبه إلى حد كبير النقاب الذي ترتديه المسلمات اليوم، لكنها كانت أكثر تغطية لرأس وجسد المرأة من النقاب، فالنقاب يظهر العينين وبعض تفاصيل جسم المرأة على الأقل، لكن الشجة كانت تخفي أجسادهن تمامًا وحتى عيونهن أيضًا بحيث أنه كان من المستحيل أن يتعرف أحد على امرأة تسير في الطريق إن لم تكشف هي عن وجهها بإرادتها من تحت الشجة، كانت العادات والتقاليد، بغض النظر عن نوعيتها صحيحة ومفيدة أم كانت خاطئة ومضرة، هي كالإنجيل والقرآن بالنسبة للصعايدة، أي الأمور التي لا يمكن لهم التفكير في التنازل أو التخلي عنها مهما كانت الظروف والأحوال، كان احترام المرأة وكبار السن من البديهيات والمسلمات وهي الخط الأحمر الذي لا يمكن للصعيدي أن يتخطاه مهما كانت الظروف. كانت حرمة المرأة تقتضي أن لا يمسسها حتى رجلها في الشارع، ففي القرى كان الرجال يمشون خطوة أو خطوتين أمام نسائهم، وإن اختلفت المرأة مع رجل في الطريق العام لأي سبب حتى لدرجة أنها صفعته على وجهه، لم يكن الرجل يرفع عينيه في المرأة أو يرد عليها الإساءة حتى ولو لم يكن مخطئًا في حقها بأي شكل، أما إذا انفعل الرجل ورد الإساءة بالإساءة للمرأة كان الجميع يعيرونه ويتهمونه بانعدام الرجولة ويؤكدون له المبدأ الاجتماعي القديم القائل (مثل الرجل بطشه) أي أن ما يبطش بالرجل لا بد أن يكون رجلاً مثله وفي مثل مكانته ووضعه الاجتماعي، وتحضرني قصة، حدثت معي أنا شخصيًا، تدل على مدى ما كان عليه الصعايدة من التمسك بالعادات والتقاليد واحترام الناس بعضها لبعض وخاصة احترام المرأة، ففي إحدى الزيارات التي قمت بها للصعيد وأنا في سن الخامسة عشر، كنت أركب الحمار للتنزه كما سبق القول وكان أحد أبناء عمومتي يسير أمامي ويمسك بلجام الحمار، مررنا أمام بيت من بيوت القرية به غرفة كبيرة جدًا، بابها مفتوح على الشارع كان الصعايدة يسمونها (مندرة)، والمندرة هي بمثابة غرفة جلوس واسعة جدًا في بيوتنا في أيامنا هذه التي نعيش فيها، كانت بالمندرة كمية من المقاعد متراصة وملاصقة لحوائط الغرفة، ويسع كل منها أربعة أو خمسة أشخاص ليجلسوا على إحداها والتي كانت تعرف بـ(الدكة)، وكانت الدكة هي أيضًا ما يستخدمه الزائر الغريب عن البيت كسرير لينام عليه في الليل، إذ إنه غير مسموح له أن ينام داخل البيت لأنه غريب وأن هناك نساء في البيت فلا يصح أن ينام في البيت أي شخص غريب، مهما كانت مكانته وصفاته، مررت أنا وابن عمي وقد كان في نفس عمرى أمام باب المندرة التي بها الجنازة وما دريت إلا وقد هاجت الدنيا وماجت، فهذا يسأل عن اسمى بصوت مرتفع من هو هذا الصبى الراكب على الركوبة وابن من هو، ومن قائل هذه، قلة أدب أن يمر هذا الصبى من أمام الجنازة دون أن يترجل وينزل عن الحمار، وأخذ ابن عمى يتأسف على تصرفي الأحمق الذي لم أكن وقتها أعرف ما هو. هدأ ابن عمتي الجو وانصرفنا من أمام باب الجنازة، فسألته: “هو فيه إيه” هو إيه الخطأ الذي ارتكبته حتى يحدث كل هذا. قال ابن عمتي، لأننا في الصعيد مش في القاهرة وقانون احترام المتوفي وعائلته أن لا يمر أحد أمام الجنازة إلا بعد أن ينزل عن ركوبته أي حماره. لكن من الواضح أن الصعايدة الآن مختلفون عن صعايدة زمان ولا يعلم أحد (الصعايدة وصلوا… إلى أين؟)، فقد قبلوا ليس فقط تغيير أحوالهم المعيشية والحضارية، وهذا مطلوب ومحمود منهم بل قبلوا أيضًا تغيير أخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم واحترامهم لبعضهم البعض و احترامهم للكبير والمرأة ومحو كل الصفات الحميدة التي كان الصعيد يتمسك بها. وفي زيارتي الأخيرة لقريتنا في الصعيد والتي كانت في سنة 2001 وجدت أن كل شيء في الصعيد قد تغير ولم أعرف كيف أصل إلى بيوت عائلتي التي نزح أغلب كبارهم سنًا عن القرية. وقد دلل أحد الصعايدة على التغيير الكبير الذي حدث للصعيد بالقول: “الصعيد أتغير الآن حتى أصبح فيه محلات للفول والطعمية”.
تفكرت في كل هذا ولازلت في حالة من الصدمة والذهول من أن سيدة قرية الكرم في الصعيد تم تجريدها من ملابسها في الشارع أمام الجميع. فما أبعد شبه الأمس عن اليوم. وأولئك الذين كنا نضرب بهم المثل في حسن التعامل مع المرأة، أصبحوا هم الذين يهينون المرأة ويجردونها من ملابسها. فمن الواضح أن التعصب الديني يضعف رجولة الرجال ويخلط الأدوار بين الرجل والمرأة ويعمي المرء عن تبعة تصرفاته وينسيه ما تربى عليه من حسن المعاملة وحسن الجوار.
وفي تتبعي بدراسة التغييرات التي طرأت على مجتمع الصعايدة وأسباب تغييره وانحداره إلى أسوأ ما يكون الانحدار رأيت أن الأصل في هذا التغيير جاء بسبب ثلاثة عناصر أساسية اتحدت وأدت إلى وصول الصعيد إلى هذه الحالة التي نحن بصددها. وهذه الثلاثة عناصر هي:
١- استغلال دول الخليج لحالة الفقر عند الشباب المصري.
٢- تخلي المسيحيين عن أراضيهم وهجرتهم خارج مصر وداخلها.
استغلال دول الخليج وعلى رأسهم السعودية لحالة الفقر التي كان يعيش فيها الشاب المسلم المصري العادي الذي لا يجد عملاً متناسبًا مع دراساته وهواياته وإمكانياته واحتياجه إلى المال للعيش الشريف والزواج وتكوين عائلة مستقرة، وهؤلاء الشباب هم عمالة رخيصة، حيث أنهم لا يحصلون على نفس المرتبات المالية التي يحصل عليها غير المصريين، عند قيامهم بنفس الخدمة التي يعملها حتى العرب من الدول العربية الأخرى ليس فقط الأجانب، فقررت دول الخليج وخاصة بعد ظهور البترول في أراضيها وتدفق السيول من الأموال، قررت جذب مثل هؤلاء الشباب وغمسهم في البيئة الخليجية السعودية التي تمنع المرأة من سياقة سيارتها، أو أن تخرج للشارع دون محرم وإن ظهر كعب رجلها من تحت العباية التي لا بد لها أن ترتديها، فستضرب من المطوعين، وغيرها من الأمور التي تروق للرجل المسلم الصعيدي المصري الخشن، في مجتمع غريب أقل ما يقال فيه إنه يحكم بأرواح التدين والعنف والغي الخ.
يتعرض هؤلاء الشباب المصريون لحرارة الحركة الوهابية التي هي في صراع خفي دائم مع قيادة الإسلام الحقيقية الممثلة في الأزهر المصري، رائد ومعلم وناشر الإسلام في العالم كله ومفرخ ومنمي الحركات الإسلامية المختلفة على مستوى العالم بما فيه السعودية نفسها، فتسعى الحركة الوهابية بكل قوتها لتحفظ السعودية في دور قيادي يحرصون على أن يكون أكبر وأكثر تأثيرًا في العالم كله، وخاصة العالم الإسلامي، من دور الأزهر المصري العريق. وبالتالي تمت وضع الخطط المحكمة لتغيير المجتمع المصري وخاصة المجتمع الصعيدي، تغييره ماديًا واجتماعيًا وفكريًا للوهابية السعودية لعلمهم أن هذا المجتمع هو أصل مصر الذي يضم أكبر نسبة من المسيحيين الأغنياء، وأراضيه كانت الغالبية الساحقة منها ملكًا للباشاوات المسيحيين وكان المفروض لأولادهم من بعدهم، تلك الأرض التي كانت تضم الآلاف من الشباب المسلم الفقير الذي يظل يعمل في الحفر والزراعة في حر الصيف القاتل وبرد الشتاء القارس ليحصل بالكاد على قوت يومه من الباشا الذي يتمتع بخيرات لا حصر لها، مما جعل الشباب المسلم في مجتمع الصعيد، الذي يتمتع بقوة وصلابة في الرأي واندفاع في التعبير عن المشاعر بدرجة كبيرة تفوق الرجل المصري العادي في ظروفه العادية، يهرب من خدمة البشاوات المسيحيين الكفرة المشركين، على حد علمه وإيمانه ووفقًا لما علموه أئمة المساجد في القرى، ويلجأ إلى إخوانه المسلمين الموحدين بالله في دول الخليج الذين يعلمونه أن لا ولاية لغير المسلم على المسلم وأن مال ونساء المسيحيين غنيمة للمسلمين وأن الدين عند الله الإسلام ولا بد أن يخضع العالم كله للإسلام والمسلمين ويبدأون في تدريسه القرآن وكلماته من منظور وهابي متطرف ويؤكدون له أن كل ما يقولونه عن اليهود والنصارى من أول سور القرآن، فالمغضوب عليهم والضالين التي تختتم بها السورة المفتاحية في القرآن هم اليهود (المغضوب عليهم) أما النصارى فهم (الضالون). ويعدونه بتحقيق أحلامه القديمة والتي كان أقصاها أن يحصل على أو أن يشتري قيراطًا واحدًا من الأرض من الباشا المسيحي بل يعدونه بمده بما يكفي أن يشترى فدانًا كاملاً بفلوسه التي تعب أو لم يتعب في الحصول عليها، حتى لو دفع في هذا الفدان أضعاف ما يساوي من ثمن، وبهذه الطريقة ونظرًا للضغوط والاضطهاد الممنهج من قبل الحكومات المصرية منذ قيام ثورة يوليو على يد اللواء محمد نجيب وشركاه ضد المسيحيين أصحاب الأرض الأصليين وتأميم أراضي الباشاوات وسلب أموالهم وممتلكاتهم وتوزيعها على عامة الشعب وخاصة المسلمين منهم، الذين بدأوا في الانتقام من المسيحيين والعمل على تهجيرهم من قراهم وإجبارهم على بيع أراضيهم بأبخس الأثمان، ونظرًا لكثرة العائدين من دول الخليج بأموالهم الطائلة تساوت الرؤوس وتغير ميزان القوى في صعيد مصر وأصبح المسيحيون هم الغرباء المضطهدون من لا يمتلكون أرضًا ولا عرضًا ولا يمكنهم بناء دور للعبادة أو ترميم ما انهدم منها ويكفي أن ينادي مسلم واحد على أمة لا إله إلا الله أن أعينوا، فهناك مبنى في قريتنا سيصبح كنيسة إلا وتقوم القرية بأكملها في حرق المبنى وقتل أصحابه وإجبارهم على ترك قريتهم، أو أن يتهم أحد المسيحيين الشباب أنه على علاقة عاطفية بإحدى الفتيات المسلمات، حتى تقوم القيامة وفي النهاية النصرة لأتباع الدين الجديد. ولم يعد الصعيد هو الصعيد الذي كنا نعرفه بل أصبح صعيدًا وهابيًا متطرفًا يأكل أصحابه وناسه، هل كان يمكن أن يصدق أحد أن الرجال يخرجون لضرب امرأة عجوز في شارع من شوارع الصعيد وتعريتها من ملابسها! فمع أن هذا الحدث ما كان ممكنًا أن يحدث بأي شكل من الأشكال في الصعيد القديم الذي كنا نعرفه، لكن على افتراض أنه حدث، لكانت الحرب الأهلية قد قامت بين أهالي هذه البلدة ولم تنته لسنين عديدة. أما في صعيدنا الجديد، فالموضوع اتنسى وخاصة لأنه حدث لامرأة مسيحية. إن أقصى عقوبة يمكن أن تقع على أي إنسان رجل كان أو امرأة هو أن يجبر على أن يقف عاريًا أمام الغرباء، وهى الوسيلة التي طالما استخدمها البوليس المصري ضد الكثير من الذين يقبض عليهم في تهم مختلفة حتى قبل صدور الحكم بإدانتهم، عندما سألت صديقي مجدي الذي قبض عليه رجال أمن الإسكندرية بسبب نشاطه المسيحي، بعد تكسير محل الأدوات المنزلية الذي كان يملكه، عن أي نوع من التعذيب كان الأقصى بالنسبة له، قال لي: “بالرغم من أن عساكر القسم كانوا يضربونني على كل أجزاء جسمي وبالرغم من إجباري على الوقوف لمدة ساعتين في الدولاب (طريقة تعذيب معروفه للمتخصصين) وكهربتي بالتليفون، إلا أن الأصعب على كان عندما أجبرني العساكر أن أخلع كل ملابسي وأخرج في الشارع عاريًا”. كان هذا أيضًا اختبار أشهر الشيوخ الإنجيليين المشيخيين (وهو قس حاليًا في أمريكا) والذي قبض عليه بسبب تبشيره للمسلمين بالمسيح عندما سؤل عن أصعب وقت وتعذيب مر به قال: “عندما نزعوا عنى ملابسي وتركوني عاريًا اليوم كله في زنزانة تضم خمسة عشر مسجونًا”.
ولي اقتراح بسيط كنت أتمنى أن لا أفكر فيه، وبالطبع لن أوافق عليه إن كان ممكنًا أن يحدث، فإيماني بالمسيح وبتعاليمه يمنعني عن الموافقة علي مثل اقتراحي هذا ولكنه مجرد اقتراح لزوم الموقف، ألا وهو إن كانت مثل هذه الجلسات العرفية مع العائلة التي عرت سيدة المنيا من ملابسها يمكن أن تحل الأمور، فأنا أقترح أن تقام جلسة عرفية تحضرها امرأة عارية من العائلة المسلمة التي عرت المرأة العجوز المسيحية، تحضرها عارية تمامًا، ليس أمام الرعاع والمارة في الشارع، كما حدث مع العجوز، لكن فقط أمام العمدة وشيخ البلد ورئيس مباحث القرية والمحافظ الذي لا يعرف كيف أن يحافظ على محافظته وشيخ موحد بالله من شيوخ المسلمين والمطران الأرثوذكسى المنوط به التعامل مع هذه القضية، بشرط أن يحضر اللقاء أحد أبناء المرأة وأخيها وزوجها وأبيها إن كان حيًا، أليست هذه شريعة المسلمين القائلة: “عين بعين وسن بسن والبادي أظلم”؟، ألا يمكن تطبيق المبدأ الإنساني القائل أن يكون الجزاء من جنس العمل؟ فمن أحرق بيت غيره، يحرق بيته، ومن ضرب أمًا، تضرب أمه، من عرى امرأة تعرى أخته أو أمه أو زوجته، فلا يمكن أن تطبق شريعة المحبة والتسامح والتسامي على طرفين مختلفي الإيمان والعقيدة والشريعة.
في النهاية أقول لهذه المرأة التي قد تعرت بسبب أعداء الحياة والسلام والمحبة والصفح والغفران، وإلى صديقي مجدي وإلى القس الإنجيلي اللذين اختبرا اختبار العري والهزء والضرب: “إن مسيحكم يعلم ما كنتم تجتازون فيه، فلقد تعرى هو أيضًا وعلق على الصليب بين الناس عريانًا، فهو مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية، يعرف آلامنا، فخفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر ثقل مجد أبديًا، وإنه حتى لو كان الناس قد عروكم في الأرض، إلا أن عزاءنا أن سيدنا ومسيحنا قد ألبسنا ثياب الخلاص وكسانا رداء البر الذي لا يستطيع أحد أن ينزعه عنا”.