اعتاد المروجون لمصطلح الدولة الدينية سواء على المستويين التنظيري أو الشعبي الجماهيري أن يستخدموا عبارة تونس إسلامية، سورية إسلامية، الكويت إسلامية، الإمارات إسلامية، مصر إسلامية رغم أن المحروسة بالفعل لا ولن تحتاج إلى تأكيد يقين هذه الحقيقة التي تعد أبرز سمات الدولة والمجتمع معًا. لكن يبدو أن مؤيدي فكرة الترويج هذه تنتابهم فترات من الغياب عن استعمال العبارة من حين لآخر، أبرز تلك الفترات وقت الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية بكافة البلدان العربية والإسلامية.
لكن وسط فترات الغياب تلك التي يصمت فيها المروجون لمصطلح الدولة الدينية عن استخدام واستعمال مفردات القاموس السياسي الديني نجدهم أكثر بزوغًا وسطوعًا وربما انتشارًا عبر الوسائط الإعلامية المختلفة قبيل تدشين أي استحقاق ديموقراطي يمر على البلاد العربية الإسلامية بطبيعتها ليستقر بها، تمامًا مثلما حدث في انتخابات لبنان التشريعية، وتونس، ومصر أيضًا والتي رأينا فيها كيف تم استغلال ولع المصريين بالدين وشدة تمسكهم بالمعتقدات الدينية وحرصهم اللانهائي على التحلي بالفضائل والمناقب المحمودة، وهي الأمور التي مهدت الطريق بيسر وسهولة لكافة تيارات وفصائل الإسلام السياسي للعبور نحو آذانهم وقلوبهم الوجلة من أجل تحقيق مطامح سياسية بدت شخصية لا تعني سوى فصيل أو اثنين من فصائل التيارات المحسوبة على التوجه الديني.
والخطاب السياسي بهذا المنطق نص تنقصه الصراحة السياسية عند طرحه للجماهير التي هي بالفعل متعطشة وعلى تهيؤ مستدام لتقبل كل ما هو ديني، قائمة إسلامية، مصرف إسلامي، تجارة إسلامية، قناة فضائية إسلامية، رياضة إسلامية، وكأن الإسلام الذي هو بالفعل دين المصريين الفطري الذي لا يحتاج إلى تدعيم من أهله لأن الله داعم وكفى بالله ـ أمر استثنائي وليس القاعدة الأصيلة. وحرص هؤلاء الذين يروجون لمصطلحات تضيف للمجتمع العربي ولا تنقص منه هم بالفعل يلجأون إلى معسكرات دعوية وترويجية لها تأثير إيجابي لدى المواطنين العرب يمكن الاختباء من خلالها للوصول إلى مآرب شتى، وهذا الاختباء لا يقوم به إلا من يشعر بالخوف أو القلق على مستقبله ومصيره السياسي الذي أصبح اليوم مرهونًا بقرارات الشعب وحده وليس مكتبًا للإرشاد أو أمير للجماعة.
وحينما يفتقر الطامح سياسيًا إلى برنامج سياسي واجتماعي له سمات يمكن التقاط تفاصيله ومن ثم تحقيقه، فإن أيسر الطرق لدغدغة مشاعر البسطاء أن يمرر هذا الطامح مشروعه الوهمي بالطبع من خلال قنوات دينية وممرات ومعابر عقيدية تسهل له فرصة القفز إلى السلطة والسيادة التي يبتغيها. وبمناسبة القول عن الطموح السياسي بغير برنامج أو مشروع حقيقي للنهضة فإن صاحب هذا الطموح الذي يعاني فقر التفكير وخوف المستقبل عادة ما يلجأ إلى العنف الذي يقترن بالإرهاب والتطرف بالقول والفعل والسلوك الاجتماعي، لأنه باختصار يعاني من افتقاد الأمن الاجتماعي.
وكلما اقترب الوطن العربي من أي استحقاق ديموقراطي تبدأ تيارات الإسلام السياسي حائرة بين الحفاظ على معالم الأصولية والأخذ بأطراف الحداثة، والأخيرة في حد ذاتها لا تنشأ إلا من خلال توتر قائم ودائم. ففكرة تعاطي القليل من عقاقير الديموقراطية لا تؤدي بنتائج طيبة مثمرة لأن الحداثة التي ترادف أحيانًا مفهوم الديموقراطية في حالة صدام مستدام مع ثوابت الفكر وركائز الأيديولوجية سواء لفرد أو جماعة. وهذا التجاذب العكسي بين الأصولية والحداثة يجعل بعض أقطاب فصائل الإسلام السياسي مضطرًا إلى دحض نظرية احتكار تفسير السياسة وفقًا لتوجه ديني، وأحيانًا كثيرة يعتمدون فكرة أنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة. ورغم أن المروجين لدولة دينية حسب منظور ضيق لا تهتم سوى بالمأكل والمشرب وطريقة ارتداء الملابس وتجريم السياحة وعمل المرأة فحسب يصرون على شرعنة السلطة أي إضفاء طابع ديني على ممارساتهم السياسية إلا أنهم مضطرون لممارسة بروتوكولات سياسية ترتبط بالحريات والحوكمة الذاتية واحترام التعددية الدينية والسياسية، وهذا ما يجعل طرح إقامة دولة دينية ظاهرية تصطدم بعلامات أخرى مثل القومية والوطنية والطائفية وشكل الدولة بصفة عامة.
ورغم محاولات فصائل الإسلام السياسي في إيجاد شهود سياسي لها في الحالة المصرية والسورية والتونسية الراهنة على وجه الاختصاص إلا أن أنصارها ومريديها لم يحصلوا بعد على صفة ناشط سياسي بخلاف المنتمين لكافة الحركات والتيارات السياسية القائمة أو التي اندثرت بفضل هبوط أدائها السياسي، فلم نسمع أو نطالع اسمًا منتسبًا لجماعة الإخوان المسلمين أو حزب سيسيوديني آخر أو أي فصيل ديني سياسي يسبقه ناشط سياسي رغم أن ظهوره الشرعي على القنوات الفضائية أو صفحات الصحف والمجلات مشروط بطرحه السياسي فقط دون أية إطلالات دينية. وهذا يعكس بالضرورة حالة المد والجزر بين السياسي والديني حسب ظروف المشهد السياسي نفسه.
ولعل هذا الغياب في استخدام لقب ناشط سياسي هو الاحتكار شبه النهائي لهذا المسمى الحصري من قبل شباب الثورة المصرية التي انفجرت في الخامس والعشرين من يناير.
ويبدو أن فكرة شرعنة السلطة فلسفة خاصة بالحالة العربية قديمًا وحديثًا تحديدًا منذ أيام الغزوة الفرنسية العسكرية على مصر، والتي كرس لها ونظَّر لفلسفتها محمد علي، حيث سعت السياسة المصرية منذ أكثر من قرنين إلى شرعنة السياسة ضمانًا لبقاء يدوم، وأصحاب هذه الفلسفة يلجأون إلى استخدام سلاح الهجوم على اليساريين والعلمانيين بوصفهم أنهم من دعاة تقويض الدولة الدينية، والمدهش حقًا أن رواد الحركة السياسية المصرية منذ نهضة محمد علي وحتى إسماعيل باشا كثير ما أضفوا الشرعية الدينية على ممارساتهم السياسية بقصد التأييد والاستقطاب رغم كونهم من دعاة المدنية والليبرالية.
وبين حداثة الواقع والحنين إلى الأصولية في تحديد شكل وطبيعة الدولة نجد أنصار كل فريق منهما يعاني خوف الهيمنة للفصيل الثاني، ويسعى إلى تحجيم النخب الأخرى وهذا يحدث عادة في حالات الركود السياسي، أما وقت الذروة السياسية فإن كافة الأطياف السياسية متنوعة التصنيف بين دينية وعلمانية وليبرالية ومحافظة تتكاتف كرهًا لكسب أكبر قدر من التعاطف والتأييد الجماهيري من أجل تقاسم وقتي للسلطة ثم يلبث كل فصيل بعد ذلك لتقويض الفصائل الأخرى، وربما خير مثال لذلك ما حدث عقب ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952.
وخير مثال لنظرية شرعنة السلطة هو ما طرحه الكاتب الأمريكي سكوت هيبارد في كتابه الجديد “السياسة الدينية والدول العلمانية”، حيث أشار إلى ظاهرة تأميم الإسلام التي انفردت بها مصر قديمًا والتي استهدفت بادئ الأمر تقويض النخبة الدينية واستقطابها ثم الوصول إلى حالة من السيطرة على المؤسسات الدينية الرسمية ولو بشكل خفي مستتر أو صورة علنية كالسيطرة على بعض المساجد ضمانًا للبقاء السياسي الذي لا يشوبه الضعف، انتهاء بتطويع الإسلام نفسه إما لخدمة نظام سياسي أو لتحقيق مطامح سياسية شخصية. ويؤكد سكوت هيبارد حقيقة أن المؤسسة الدينية الرسمية في مصر اعتادت قديمًا أن تجد تبريرات في صورة فتاوى من أجل تدعيم الأنظمة السياسية الحاكمة وتوفير الأساس المعنوي لأي نظام حاكم، الأمر الذي دفع كثيرًا من حركات الإسلام السياسي إلى رفض الاعتراف بشرعية هذه المؤسسة الدينية وخلق نظام احتكاري جديد للدين ظهر أيضًا في هيئة فتاوى تقلل من شأن الأزهر أو ضد الحاكم وسياساته.
خلاصة الأمر، أن الإسلام استخدم ولا يزال لأغراض أيديولوجية هدفت إلى إعادة تشكيل الفكر والوعي الجمعي العام، وبين الترويج لعبارة مصر إسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية وتطويع الدين لخدمة السياسة واستخدام الدين كملمح بارز في الخطاب السياسي ظل المواطن حائرًا من أمره في الأخذ بما يردده المروجون للدولة الدينية، أو ما تنادي به النخب الدينية من ضرورة التوافق بين الديني والمدني، وبات هذا المواطن ملتحفًا بأية إشارة دينية تصدر من مسئول أو نظام سياسي حاكم يطمئن بها نفسه على مستقبله دون الالتفات إلى الممارسة السياسية نفسها.
ويظل هناك تساؤل مستدام يؤرق العقل العربي بحثًا عن إجابة شافية له: هل كان من الممكن أن تظهر الدولة الإسلامية (داعش) في دول مثل الأرجنتين أو البرازيل أو كوبا التي تحترف تجارة الكوكايين وهي أحرى بوجود جماعات وتنظيمات دينية تواجه التحلل الأخلاقي؟ وهل كان من الطبيعي أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تؤدي أدوارها الجهادية في إسبانيا التي ظلت طيلة ثمانية قرون إسلامية تدين بها وتخضع للحكم الإسلامي؟ والأهم من أسئلة أخرى لا تبدو مغايرة، كل يوم وليلة أفتش بجدية عن تنظيم إسلامي في السويد أو النمسا أو النرويج وكافة الدول الإسكندنافية يسعى إلى التصدي لحالات الانتحار الجماعي وانهيار القيم في هذه المجتمعات لاسيما المتعلقة بالدين، أو نشر ثقافة تدويل السلطة وبناء مرجعية دينية واحدة، لكنني لم أجد مقصدي ومبتغاي سوى في شرق يبدو مضطربًا.
ومما دعم هذا الجمود في تطوير الاجتهاد الفقهي ونماء التفكير الديني تغلغل التيارات الإسلامية السياسية التي سعت نيل محوري الدين والسياسة في وقت واحد، فكانت النتائج توظيف الدين لتحقيق مطامح سياسية ومطامع سلطوية، وإقصاء سياسيًا لكافة الأطراف السياسية المغايرة في الأيديولوجيات التابعة لتلك التيارات، ويكاد يتفق الجميع على أن الشعوب العربية جميعها في حالة ولع بالدين عمومًا وهي فطرة محمودة لكن تلك التيارات التي وجدت الفرصة سانحة على أرض الشعوب العربية نتيجة التفكك الذي أحدثته الأفكار والمنظمات والهيئات الأجنبية لتقويض الوطن العربي الكبير ـ فلعبت على هذا الولع وهذا التعطش المعرفي صوب الدين وتعاليمه.
وحالة التعطش تلك أوجدتها النظم التعليمية العربية البائدة والباهتة، فبدلًا من تدعيم الاحتياجات المعرفية لدى الطلاب وجدنا أنظمة تعليمية عربية لمدة سنوات طويلة تغاير هذه المطالب وتتجه منحى بعيدًا عن حراك معرفي ووعي معلوماتي لدى الأبناء هو أحق بالاهتمام، فكأن المواطن العربي بصفة عامة والطالب العربي على وجه الاختصاص وقع فريسة بين مطرقة الهيئات والحركات الأجنبية الهادفة لتقويض العقل العربي وحراكه، وسندان تيارات وجماعات تسترت خلف أراء الدين وسماحته والدين غريب عنها تمامًا.
واستقرت التيارات الدينية على استخدام شعارات مراوغة تستهدف تقويض الوطن من الداخل عن طريق التشكيك في الحكومات والأنظمة السياسية، وتنصيب أنفسهم وكلاء لله في الأرض مستغلين في ذلك أمرين؛ الأول حالة العطش المعرفي الديني لدى الكثير من البسطاء، والثاني غياب المؤسسات الدينية الرسمية في أداء وظائفها الوجوبية التي تعد فرض عين عليها. وسرعان ما طفقت التيارات الدينية إلى تكوين جمعيات وأحزاب سياسية تحت دعاوى الوازع الديني وضرورة مواجهة مظاهر التحلل الأخلاقي والديني في المجتمعات العربية، والمدهش حقا وربما يحتاج إلى تفسير هو لماذا سقطت جميعا هذه الحركات، بل وواجهت حملات ضارية من الغضب الشعبي؟
الإجابة تبدو بسيطة وسهلة أيضًا يمكن تحديدها في عبارة “احتكار الدين”، إن تلك الجماعات والحركات والتي يمكن تحديدها وفقا لخريطة الانتشار الجغرافي التي رصدها الدكتور جمال سند السويدي في كتابه الصادر عام 2015 بعنوان “السراب”، في جماعة الإخوان المسلمين، والتيار السلفي، والتيار السروري، والتنظيمات الجهادية بمصر وباكستان وأفغانستان والعراق وإندونيسيا، فجميع تلك الحركات حاولت وحدها بغير شراكة احتكار واقتناص الحق في توضيح معالم الإسلام وبالقطع من زاوية واحدة، رغم أن الإسلام نفسه يشير إلى التعددية الدينية التي هي من أبرز ملامحها، والإسلام وحده الدين الذي أباح التنوع الثقافي وتعدد الروافد الصحيحة والصالحة لكل زمان ومكان دون ربطها بأشخاص أو بعصر أو بطائفة دون غيرها.
لكن الإشكالية التي طرحتها هذه الجماعات هي الطبيعة الاحتكارية للصوت الديني الواحد، مما يتيح لها حق التصرف في المسلمين ومصائرهم لاسيما المتعلقة بالشأن السياسي مثل الدساتير والرئاسة والملك والانتخابات البرلمانية مرورا بحياة المجتمع. وهذه التيارات وصولًا إلى تنظيم داعش ارتأت عدم الاكتراث بأولوية العقل ومكانته في الاستنباط والاستقراء لمقاصد الشريعة ما دامت تلك الجماعات قادرة على تقديم وجبة يسيرة من المبادئ والتعليمات الدينية يمكن الاكتفاء بها.
ولكي تكتمل صورة الشرق المضطرب بوجود داعش وحالات الشره السياسي لدى التنظيمات الدينية نحو اعتلاء السلطة كما حدث في مصر وتونس وبعض الأوقات بالعراق الذي تبدد، وجنوح مؤقت في الجمهورية السورية، نجد تخاذلًا شديدًا من قبل تلك الفصائل والتيارات صوب العدو الحقيقي وهو إسرائيل والأفكار الصهيونية التي ترابط لنا في السر والعلانية، ورغم توافر كم كبير من المعلومات والمعارف حول حقيقة العدو المرابط للشرق العربي والإسلامي إلا أن الصورة دومًا تبدو معكوسة ومغايرة لدى هذه التيارات، فخطابها السياسي ليس بنفس القوة والضراوة أمام عدو يحيط ويحيك لنا المفاتن والمثالب والمخاطر إذا ما قيس خطابها بشأن الأوضاع السياسية الخارجية، فعلى سبيل المثال نجد أصواتًا كثيرة متشابهة تطل علينا في الصحف والمجلات والفضائيات الفارغة من المضمون والهدف تهاجم أوضاعًا عربية وتكيل الاتهامات للأنظمة السياسية بها وهي غافلة تمام الغفلة والنسيان عن كيفية مواجهة الخطر الصهيوني الوشيك.