لعله من المفيد في بداية مقالي هذا أن أعرِّف معنى الرهائن حسب القواميس العربية، فكلمة “الرهائن” تعني “حجز إنسان دون إرادته واشتراط إطلاق سراحه مقابل فدية أو ضمانات أمنية”، كما حدث في الثمانينيات حيث تم اختطاف العديد من الرعايا الغربيين في الشرق الأوسط بغية الضغط بهم لإطلاق سراح المعتقلين العرب في سجون أمريكا وإسرائيل، أو ما حدث في مايو من سنة 1995 حيث اعتقلت القوات الصربية في البوسنة جنودًا من قوات الأمم المتحدة آملة أن تستخدمهم لثني قوات الحلف الأطلسي عن الهجوم عليها، أو ما نحن بصدده الآن في غزة.
فما من شك في أن أمر الرهائن الذين اختطفتهم حماس ولم تفرج عن الكثير منهم حتى الآن كان ولا يزال أكثر الموضوعات الساخنة تأثيرًا في العالم كله. ولستُ أظن أن رجال حماس الذين خططوا لأمر اختطاف الرهائن والاعتداء على الحفل الموسيقى الذي كان به المختطفون وقت اختطافهم، كانوا يعلمون أو يتخيلون أن هذه ستكون تداعيات هذا التصرف الأحمق من جهة حماس، فالنتيجة المرعبة التي نعيش في ظلالها اليوم من تدمير غزة بالكامل، وقتل العديد من قيادات حماس ورجالها، وتدمير مناطق سكن وقيادة حزب الله في لبنان الجميل، واغتيال قياداته، وتورط إيران في هذا الصراع وتدمير بعض منشآتها الحيوية بواسطة الصواريخ الإسرائيلية، واحتلال إسرائيل لمناطق كثيرة في الضفة الغربية ولبنان وسوريا، وزيادة الصراع بين الدول والحكومات وغيرها الكثير الذي لم نعرفه ولم يظهر للنور حتى الآن، كانت كلها بسبب اختطاف رهائن وحبسهم في غزة أملًا في أن تخضع إسرائيل لمطالب حماس.
ومن الواضح أن رجال حماس وقيادات الفلسطينيين الذين نفذوا عملية الاعتداء على الحفل الموسيقي واختطفوا الرهائن، هم أنفسهم ضحية ورهائن للوسواس الخناس الذي يوسوس في صدورهم وعقولهم، وهم ضحية لعدة أمور أذكر منها ما يلي:
أ- التعاليم الإسلامية التي تطالبهم بأن يعدوا لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل يرهبون بها عدو الله وعدوهم، وأن أقتلوهم حيث ثقفتموهم، وإن وجدوا المشركين فضرب الرقاب إلى آخره، وتكرار الصلاة التي تنتهي بالمغضوب عليهم والضالين خمس مرات في اليوم، وما يردده الأئمة في الجوامع من أدعية تطالب المولى أن ييتم أولادهم ويرمل نساءهم ويخرب بيوتهم، إلى جانب ما هو وراد ومكتوب من مواد دراسية تحض الصغار والكبار على العنف والقتل والتنكيل باليهود القردة والخنازير.
ب- التربية العدائية لكل ما هو غير مسلم وخاصةً لإسرائيل، حيث يصفونهم بأنهم المعتدون وجيش الاحتلال، فلا يعرف جُل الفلسطينيين وخاصةً الأطفال منهم أنه لم تكن هناك على مر التاريخ دولة متحدة قائمة بذاتها اسمها فلسطين كما هو الحال مع إسرائيل التي كانت دولة متحدة ذات أسباط تنتمي إلى رأس واحد وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الله، لها ملوك وحكومات وأنظمة سياسية. وقد قامت إسرائيل بشراء المساحات الشاسعة من الفلسطينيين في الحديث، وقام إبراهيم وإسحق ويعقوب بشراء أغلب الأرض من أقطاب الفلسطينيين في القديم يوم أن كان الفلسطينيون قبائل وأسباطًا وأقطابًا متفرقة لم تتحد أبدًا يومًا مع بعضها لبناء دولة تُعرف بدولة فلسطين إلا في السنين القليلة الماضية، حيث تم الاعتراف بدولة فلسطين حديثًا في الأمم المتحدة.
ج- الموسيقى والأغاني الوطنية الفلسطينية التي تلهب ظهر الشباب والأطفال وتصور لهم أن الحل الوحيد هو الحرب مع إسرائيل وتحرير فلسطين. لقد حفظتُ أنا الطفل المصري يومئذٍ، وليس الفلسطيني، عن ظهر قلب يوم كنتُ طفلًا أغنية “البارودة” التي تقول كلماتها:
بارودة عالبارودة يا ماشالله
وأنا بدي بارودة دخيل الله
وأنا مهما تعطوني ما ترضوني
ما في غير البارودة لا لا والله
والله لحملها بيدي ليلة عيدي
وأبقى غني نشيدي هالله هالله
وأنا لآخذ بثأري وأطفي ناري
وأنا لعمَّر داري يا خلق الله
وكان من شدة تأثري بها أنني كتبتُ، وأنا في سن العاشرة من عمري، خطابًا للرئيس جمال عبد الناصر يومئذٍ أطلب منه أن يسمح لي بأن أتطوع في الجيش المصري لأدافع عن فلسطين وأحارب إسرائيل.
د- بعض القادة العرب المغيبين الذين كانوا يتحدثون ويخطبون فينا قائلين إننا سنلقى إسرائيل ومَنْ هم وراء إسرائيل في البحر، فيصفق لهم المغيبون من رعاياهم وتأخذهم الحماسة ويبيعون أنفسهم وأجسادهم بأثمان بخسة ليفجروا أنفسهم لأنها كما علَّموهم أن هذه هي أسهل وأضمن طريقة يضمنون بها غفران المولى لما تقدم وما تأخر من ذنوبهم، ويسكنهم فسيح جناته ليستمتعوا فيها بفض بكارة حور العين وبما يقدمه لهم الأولاد المخلدون من تمر وخمر وعسل وعنب وفاكهة.
ومع كل احترامي وتعاطفي وإدانتي الشديدة لأمر اختطاف رهائن في أي مكان في العالم أو أية دولة من الدول على اختلاف مسمياتها وأديانها وقومياتها، وصلاتي أن يُفرج الله سبحانه عنهم بأسرع ما يمكن، إلا أنني أرى أن العالم يركز على رهائن حماس الذين لم يتجاوز عددهم 251 رهينة وينسى أو يتناسى عدد الرهائن المحتجزين، سواء أكانوا في أسرهم أو في سجون بلادهم أو في قراهم وبيوتهم، وخاصةً المسيحيين منهم. فكم من أسرى محتجزين إما في السجون أو الكنائس أو حتى في بيوتهم في الكثير من الدول الهندوسية أو الإسلامية وخاصةً الإفريقية منها، في مصر، ليبيا، الجزائر، موريتانيا، السودان، نيجيريا، الصومال، العراق، سوريا، إيران، الهند، باكستان، أفغانستان وغيرها الكثير من البلدان التي لا مجال لذكرها كلها بسبب ضيق مساحة النشر.
فلديَّ كناشط في مجال حقوق الإنسان والمدافع عن الرهائن والمختطفين والمضطهدين، كل المضطهدين، بغض النظر عن أديانهم وانتماءاتهم، لديَّ المئات من الأسماء والأوضاع المزرية التي يعيشها هؤلاء المضطهدين. ولعله من المفيد أن أوضح أن هناك نوعين من الرهائن: رهائن الجسد ورهائن النفس والروح. رهائن الجسد هم أولئك الذين اختطفتهم أمثالهم من الأجساد المعتدية عليهم كما حدث مع رهائن حماس، وهؤلاء منهم مَنْ هم ليسوا فقط من رهائن الجسد بل أيضًا منهم مَنْ هن من رهائن الروح في نفس الوقت، ومنهم مَنْ هم أحرار في أرواحهم لكن أجسادهم فقط هي التي اختطفها غيرهم من البشر وأخذهم كرهائن. أما النوع الثاني من الرهائن فهم رهائن الروح، أي أولئك الذين اختطفهم الشيطان ليصبحوا من معسكره والمنفذين لأوامره والمستعبدين له، وعليه فإن كل رهائن الروح هم أسرى غير محررين، نفسًا وروحًا وجسدًا، أما رهائن الجسد فمنهم الأسرى بالجسد ومنهم الأحرار في الروح حتى وهم أسرى ورهائن بالجسد.
وداخل النوعين السابقين من الرهائن، هناك عدة أنواع فرعية من الرهائن أيضًا:
أ- فمن الرهائن مَنْ هو الرهينة والراهن في نفس الوقت، أي مَنْ استسلم وأخذ نفسه كرهينة ووضعها في قفص أو سجن من أفكاره أو مخاوفه الشخصية أو أحلامه الوردية أو تخيلاته المرضية، والتي عادةً ما يكون لا وجود لها في عالم الواقع الملموس. وهذا الشخص يصر على أخذ نفسه رهينة ولا يريد إطلاقها لسنين قد تطول أو تقصر، منتظرًا أو مطالبًا نفسه بتحقيق أمر ما في نفسه. وهذه الفئة تضم أكثر فئات الرهائن عددًا في العالم كله. وأتجرأ وأقول إنه ما من أحد على وجه الأرض لم يختبر يومًا ما أن يكون في وضع الرهينة خلف أسوار نفسه. وهذا النوع من الرهائن يحتاج إلى مناقشات ومساومات ووساطات بينه وبين نفسه أولًا، وقد يكون بحاجة لمساعدة الآخرين أيضًا، ليُفَك أسره وإطلاق سراحه من نفسه. ولعل أوضح مثال كتابي لهذا النوع من الرهائن هو ما ورد عن الابن الضال في إنجيل لوقا 15، حيث أخذ الابن نفسه رهينة وذهب بها إلى كورة بعيدة وبذر ماله بعيش مسرف حتى حُددت إقامته في العيش مع الخنازير، وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت تأكله الخنازير ولم يعطه أحد، حتى بدأ النقاش والمساومة مع نفسه وعقله، وقال في نفسه: “أقوم وأرجع إلى أبي”، وعندها تم الإفراج عنه من حبس نفسه، وقبله الأب بعد رجوعه إلى عائلته.
ب- هناك نوع آخر من الرهائن يختطفهم الناس لا بالسلاح والسيارات كرهائن كما فعلت “حماس”، بل يختطفهم مَنْ حولهم بكلامهم وأفكارهم وآرائهم في الرهينة، سواء بالمدح المفرط فيُسجن المرء في نرجسيته، أو بالذم والإهانة والتقريع، فكم مَنْ والدين اختطفوا أولادهم وبناتهم كرهائن مطالبينهم بما لا طاقة لهم على دفعه أو عمله، ومختطفينهم بتربيتهم تربية خاطئة فقيدوهم بأفكارهم الشيطانية، حيث قالوا لابن أو ابنة: “أنت فاشل، لن تنجح في حياتك أبدًا”، أو “أنت غبي”، أو “أنت جئت إلى هذه الحياة الدنيا نتيجة غلطة منا فلم نكن نريد أن ننجب بعد أن أنجبنا إخوتك”، وهكذا، وكانت النتيجة أن عاش هؤلاء الأبناء رهائن لما وصل إليهم عن نفوسهم من خلال المحيطين بهم ولم يجدوا مَنْ يدافع عنهم ويعمل على إطلاق سراحهم الفكري من البيئة المحيطة بهم.
ج- نوع ثالث من الرهائن يختطفهم بعض رجال الدين بتصرفاتهم أو بوعظهم أو إرشادهم وممارساتهم الدينية، سواء أكان رجال الدين هؤلاء مخلصين أم مغرضين. فكم من رهينة محبوسة خلف أسوار “لا حل ولا بركة” و”ابن الطاعة يحل عليه البركة” و”لا تناقش ولا تجادل” و”مَنْ بدل دينه فاقتلوه” و”أنت تعيش في حالة من الزنا مع زوجتك لأنك لم تتعمد أو تتزوج في كنيسة تابعة لطائفتنا”، وغيرها من الأقوال والأفعال الكثير.
د- نوع آخر من الرهائن هم الذين يعيشون في بلادهم، لكن يحرم عليهم استخدام الحرية في الكلام أو إبداء رأيهم في أية قضية مجتمعية، أو لا يمكن أن تتم ترقيتهم أو ترشيحهم لمناصب معينة في الجماعة أو الدولة كما هو الحال في مصر وكافة البلاد المعروفة بالإسلامية حتى لو لم تكن إسلامية من الأصل بل دخلها الإسلام بالقوة.
هـ- وبالطبع هناك رهائن السلاح مثل أولئك الذين اختطفتهم حماس، لكن ما أقل عدد هؤلاء بالمقارنة بالأنواع السابقة.
و- لكن أخطر أنواع الرهائن هم مَنْ اقتنصهم الشيطان لإرادته، أي أخذهم رهائن، وأغلق عليهم وهو في انتظار قتلهم وأخذهم إلى حيث سيذهب هو وجنوده، إلى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت التي أعدها له المولى تبارك اسمه جزاء له بما كان يفعل في بني البشر. هؤلاء الرهائن، أسرى الشيطان، لا يمكن الإفراج عنهم وليس لهم من مدافع أو نصير أو شفيع إلا شخص المسيح نفسه تبارك اسمه، فهو الوحيد من يقول للشيء كن فيكون، وهو الوحيد الذي دفع ثمن تحرير الإنسان، كل إنسان، من عبوديته لنفسه وللآخرين ولإبليس الحية القديمة، وهو الوحيد الذي ليس بأحد غيره الخلاص، الصادق، الأمين، الحق، المحبة.
لقد تواردت إلى ذهني عدة أسئلة عندما أخذتُ أفكر في رهائن حماس: لماذا لا يفكر العالم كله في بقية الرهائن الذين عددتُ بعض أنواعهم عاليه؟ لماذا لا يقف العالم أجمع ضد المختطفين والقتلة والسفاحين في كل حكومات العالم والقيادات والجماعات الدينية المختلفة؟ أُصلي أن تنتبه الكنيسة في مصر والعالم أجمع لأولئك المضطهدين والمقيدين والرهائن، ليس الجسديين فقط بل الروحيين أيضًا، والله على كل شيء قدير.