نحن نواجه ثنائية متناقضة، نعيش في أعظم فترات التقدم العالمي وابتداع الثروة من جهة، ونعيش حروبًا دينية من جهة أخرى. كما نعيش رؤية مستقبلية يكون فيها الدين مطلبًا للإرادة الشعبية كما هو مطلب للدولة، كما يكون متداخلاً مع الإرهاب في الوقت ذاته. ونعيش مع نزعة كوكبية، وفي الوقت ذاته نعيش مع نزعة انفصالية بدعوى الاستقلالية. ونعيش في فترة ما زالت فيها نتائج أحداث 11 سبتمبر.
وفي الصين، على سبيل المثال، يعيش الكل في سياق أمل في تحقيق استقرار سياسي واجتماعي، وفي سياق التشكك في الحداثة من حيث هي تنطوي على إضعاف الدين والإيمان. وفي الوقت ذاته، نعيش في زمن يتشكك فيه البشر من أيديولوجية الدولة في مواجهة الإحياء الديني. وثمة صراع خفي بين الدول الأوروبية والأقليات الإسلامية، وإثر موت البابا يوحنا بولس الثاني وانتخاب خليفته تساءلت الكنيسة الكاثوليكية عن إمكانية أن يكون بابا روما من جنسية إيطالية بعد مرور45 عامًا منذ اعتلاء البابا يوحنا بولس الثاني وشيوع النزعة الكوكبية في الدين والعلم والسياسة. إلا أن التناقض هنا قائم بين مؤسسات دينية أصبحت قائمة كوكبيًا، مثلها في ذلك مثل التكنولوجيا، كما هو قائم بين تصور نظام عالمي واهتمامات محدودة بالأسرة والعمل. وهكذا بدأ التداخل، أو بالأدق بدا التناقض واضحًا، بين تصور نظام عالمي محكوم بعالم يعيش في حالة فوضى. وكانت النتيجة هيمنة الأصوليات الدينية التي هي على يقين من أن لديها حلولًا مطلقة. ومن هنا حدث توتر حاد بين ما هو إقليمي وما هو كوكبي. وفي هذا السياق، أراد البابا يوحنا بولس الثاني الانفتاح على الأديان الأخرى ولكن مع التمسك بالعقيدة الكاثوليكية. وكذلك أصبح الحال ذاته مع العقائد الأخرى. إلا أن ما هو أهم من ذلك هو الذي ترتب على هيمنة الأصوليات التي يمتنع معها الانفتاح على العقائد الأخرى كما تلزمها ولادة الانتحاريين. لكن هؤلاء ليس بالضرورة أن يكونوا مسلمين، فاليمين المتطرف في أوروبا ليس أقل تعصبًا من المسلمين الانتحاريين. ففي 3 نوفمبر من عام 2007، نشرت مجلة الإيكونوميست تقريرًا خاصًا عن الحروب الدينية الجديدة، وكانت تقصد بذلك أنه، إثر أحداث 11 سبتمبر 2001، لم تعد العلاقة بين الدين من جهة والحرب والعنف من جهة أخرى موضع اهتمام من المتخصصين، إنما موضوع اهتمام من كل فرد. وقد خصصت مجلة سانت أنطوني الدولية في عددها الصادر في يناير من عام 2008 مقالًا تناول قضية الدين والنظام العالمي تحت عنوان “الدين والعنف” أو “كل شيء قد تغير”. ولا تفرقة بين الدين والسياسة وبالذات مع بداية القرن الحادي والعشرين، أي أنه منذ 11 سبتمبر والكل مهموم بدور الدين في العنف والصراع السياسي بعد أن لم يكن كذلك، بل مهموم بمدى تحدي العلمانية في دفع الدين إلى أن يكون محصورًا في الحياة الشخصية، بحيث لا يكون سببًا أساسيًا للحرب أو العنف. وهنا يلزم التنويه بأنه إثر اشتعال الحرب الأولى في الخليج، تصاعد الصراع بين العالم الإسلامي والغرب، أو بالأدق بين العالم الإسلامي والثقافة الغربية. وفي هذا السياق، قررت الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية تأسيس جمعية فلسفية أخرى تتبنى أفكار الفيلسوف المسلم ابن رشد، باعتباره يمثل جسرًا بين الثقافتين في سياق مفهومه عن التأويل الذي يعرِّفه بأنه إخراج اللفظ من دلالته الحسية إلى دلالته المجازية. وبسبب هذا التعريف، اتُهم ابن رشد بالكفر والزندقة وأُحرقت كتبه ونُفي إلى قريته أليسانة، وظل بها إلى أن غادر هذه الدنيا في عام 1198. وبعد ذلك أصبح هامشيًا وأفكاره أصبحت من المحرمات، وفي الصدارة مفهوم العلمانية في تاريخ الثقافة الإسلامية، في حين أن أفكاره شاعت في أوروبا وكانت تمهيدًا لعصر التنوير في أوروبا. ولكن مع بزوغ الفكر الإصلاحي في العالم الإسلامي، كان من رأي كل من جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده عدم الانشغال بالعقيدة إنما الانشغال بالتحديات الأوروبية للثقافة المصرية. وكان من رأي محمد عبده أنه على العقل أن يقبل كل ما هو وارد في القرآن بلا تردد، وبالتالي فإنه يكون محكومًا به وخاضعًا له، لأن ما هو وارد فيه مرادف لمبادئ المجتمع الإنساني، باعتبار أن هذه المبادئ ذاتها هي مفتاح التقدم، ومن ثَمَّ يكون من اللازم القول بأن الإسلام يكون مرادفًا لعلم الاجتماع الحق وعلم السعادة في هذه الدنيا كما في الآخرة. وفي هذا المعنى، يمكن أن يقال إن المجتمع ينتعش مع تطبيق الشريعة ويفسد مع عدم تطبيقها. وعندما تدخل مصر في حوار مع الغرب في القرن الحادي والعشرين، فعلى أوروبا المساهمة في توليد العلمانية والتنوير بحيث يشتركان معًا في إجهاض أي محاولة لبزوغ الأصولية الدينية المعادية للعلمانية بحكم تعريفي لكل منهما من حيث إن العلمانية هي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق، وأن الأصولية هي التفكير في النسبي بما هو مطلق وليس بما هو نسبي. وفي سياق هذين التعريفين، يلزم أن تكون العلاقة بين الدين والنظام العالمي الجديد بحيث نتجنب السقوط في براثن الدوجماطيقية. ومن هنا يلزم التنويه بأن هذه العلاقة تكون مانعة من نشوب حرب نووية عالمية. وقد أشار سافا جانوفسكي كبير فلاسفة الكتلة الشيوعية سابقًا في بحث ألقاه في مؤتمر القاهرة في عام 1978 إلى أن الأهم ليس الأيديولوجيا، وإنما الإنسان. وهو يعني بذلك أن تحقيق الوحدة البشرية أمر لازم لتجنب حرب نووية عالمية. وأظن أن هذه الدعوة قد أفضت إلى تأسيس جمعية الفلاسفة الدوليين لمنع الانتحار البشري النووي.