الدعوة الجماعية للكنيسة العالمية من قادة إنجيليين في الشرق الأوسط

103

  لم أكن أعلم وأنا أكتب مقالي السابق لشهر أغسطس ٢٠٢٤ بجريدتنا “الطريق والحق” والمعنون “المحكمة الدستورية العليا للكنيسة الإنجيلية في مصر” أن الأحداث ستتسابق بسرعة مُذهلة وستؤكد احتياجنا المُلح والشديد والسريع إلى مثل هذه المحكمة في الكنيسة الإنجيلية المصرية. ولستُ أدري لماذا كتبتُ في ختام مقالي السابق ما نصه: “أعلم أن الأمر الذي أكتب عنه هنا في هذا المقال (والمقصود هو مقال شهر أغسطس ٢٠٢٤ السابق في كتابته لهذا المقال)، الأمر شائك وجديد على الكنيسة، لذا سأحاول أن أعاود الكتابة فيه بتفصيل وتوضيح أكثر، لعل المسئولين عن الكنيسة الإنجيلية المصرية يأخذون الأمر على محمل الجد ويبدأون في التفكير فيه ومحاولة تنفيذه إن أرادوا أن يحكموا بالعدل ويقسطوا بين المذاهب المختلفة، والله المستعان.” وبالطبع لم أكن اخطط أن أعاود الكتابة في الموضوع نفسه في الشهر التالي لنشر المقال السابق مباشرةً، أي شهر سبتمبر الجاري ٢٠٢٤.

لكن ما حدث هو إصدار الوثيقة أو البيان الذي عنونه أصحابه وكاتبوه “الدعوة الجماعية للكنيسة العالمية من قادة إنجيليين في الشرق الأوسط”، حيث جعلوا بعض القسوس الذين يُعرف أغلبهم، وليس كلهم، بسطحيتهم وبتسرعهم وتهورهم ومعاداتهم للسامية بكل أشكالها وطرقها يوقِّعون بأسمائهم عليها، والذين منهم 2 قسوس إنجيليين مشيخيين من مصر، أحدهم ملأ الدنيا بصراخه ووعظه ومقابلاته الصحفية وتصريحاته العنترية، بالرغم من أنه كعادته لم يتكلم في عظته عن أصل المشكلة وتفاصيلها التي أعتقد أنه لا يعي بالكامل أبعادها ولا أصلها أي شيء، ولا أسباب كتابتها من قِبل مَنْ كتبوها وطلبوا منه ومن غيره التوقيع عليها، ولا خلفيات كاتبيها وتعاليمهم وما يدرسونه في كليات لاهوتهم تلك التي تناولها العزيز رشيد بالبحث والدراسة. وأجزم أنه لم يفكر في عواقب وضع توقيعه عليها ولم يتخيل ردود الأفعال المختلفة ضدها وضده، وإلا ما كان ليوقِّع عليها إن كان حقًا يريد أن يخضع في هذا الأمر لإرشاد الروح القدس. والحقيقة أن التوقيع على هذه الوثيقة وانفعاله في التعامل مع منتقديه أضافا إلى تصريحاته السابقة الرعناء تصريح خطير آخر، بل وأخطر تصريحاته على الإطلاق لأسباب لا داعي للخوض فيها في هذا المقام، تصريحاته على غرار تصريح أن الخبز والخمر الذي نتناولهم في مائدة الرب يتحول داخلنا إلى جسد الرب ودمه الحقيقيين، أو تصريح أن جسد القديس شربل ما زال ينضح دم وماء بعد سنين من موته، أو أن الروح القدس قد فارق المسيح وهو في القبر أو ما يتعلق بظهور القديسين للناس في عالم الأحياء مثلما حدث يوم قيامة المسيح تبارك اسمه من الأموات، وصلاته أن تظهر القديسة العذراء مريم فوق كنيسته، وعدم وجود جهنم بها نار حرفية حقيقية ودود لا يموت وبكاء وصرير الأسنان وغيرها الكثير مما تكلم عنه الرب يسوع المسيح نفسه في أيام وجوده بجسده على الأرض، وهو لم يبرر أيضًا لماذا اشترك في إصدار هذه الوثيقة إلا بأنه رأى انه إن لم يوقِّع على هذه الوثيقة فهذا يعني حسب قوله أنه جبان، وكأن هذا التوقيع على هذه الوثيقة هو المقياس للفصل بين الشجعان الأقوياء الذين وقَّعوا عليها وبين الجبناء الذين لم يوقِّعوا أو الذين قاوموها وفندوها وأظهروا مساوئها وغشها وكذبها، والذين من بينهم أنا كاتب هذه السطور. وكعادته عندما يبدأ الناس على وسائل التواصل الاجتماعي في الفيس بوك وغيرها في رفع أصواتهم وانتقاده وإدانته على تعاليم خاطئة، يسارع في تقديم عظة من منبر كنيسته ينسخ فيها كلامه ويغير ويرجع فيما خرج من شفتيه ويركز في عظته على نقطة واحدة بعيدة عن لب الأمر وعن بيت القصيد الذي تكلم فيه والذي اعترض عليه سامعوه وأدانوه لأجلها. وفي هذه الوثيقة أيضًا خرج علينا جنابه وقدم القسيس عظة عاطفية مطولة عن “أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم” وعن كلام المسيح العظيم في الموعظة على الجبل، واكتفى برفع الوثيقة وكأنه يتكلم عن مضمونها وتفاصيلها، لكن الحقيقة، وهو مُساق بروح الغي الذي مزجه الرب في أرض مصر كلها، والذي أضل وجوه أسباطها ومسئوليها والغالبية العظمى من قسوسها وشيوخها وشمامستها، ونجح في النهاية أن يجعل الكثير من المغيبين يتعاطفون معه ويصفقون له واقفين، وبعضهم يبكون لبكائه على المنبر، وبعدها خرجوا وخرجنا بلا شيء أو فائدة من كل ما قاله سوى بما عرفناه وحفظناه وطبقناه من تعاليم المسيح، وأهمها أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم. أما بنود الوثيقة فلم يقترب منها لا في الكنيسة ولا على الميديا بكل أنواعها.

أما القس الثاني الذي اشترك في التوقيع على هذه الوثيقة، وهو ليس أقل من القس الأول في الشهرة أو التأثير في الكنيسة الإنجيلية المشيخية المصرية فلم نسمع له صوت ولا حس ولا خبر، ولم أقرأ أن أحدًا على الفيس بوك سأل عنه: أين هو؟ ولماذا لم يخرج ليقول لنا لماذا وقَّع على هذه الوثيقة؟ وهل وقَّعها بصفته الشخصية أم بصفته رئيس السنودس الإنجيلي لهذا العام؟ وبالطبع من وجهة نظري أن ترجمة موقفه هذا من عدم الظهور والحديث عن هذه الوثيقة وإبداء رأيه فيها يمكن أن يكون لسبب واحد أو أكثر من الأسباب التالية:

أ- إما أنه لا يحترم الرأي العام المسيحي في مصر، فلا يرى ولا يهمه في قليل أو كثير أن الشارع الكنسي في حالة غليان من توقيعه هو وشركاه على هذه الوثيقة، وربما يرى أنه أكبر من أن يرد على أسئلة الناس الغلابة الذين لا يعرفون ما ستسفر عنه الأحداث في الأسابيع القادمة.

ب- وإما أن جنابه لا يحب وجع الدماغ، فقد فعل ما فعل وعلى المتضرر اللجوء للقضاء الكنسي أو المحكمة الدستورية العليا للكنيسة الإنجيلية المصرية غير الموجودة في الواقع والتي أطالب أنا بتأسيسها في هذا المقال ومقالي السابق.

ج- وإما أنه وقَّع على الوثيقة إرضاءً لكاتبيها للاحتفاظ بعلاقات خاصة معهم، فهو في كل الأحوال يؤمن بانتهاء دور شعب الله إسرائيل بمجرد أن قال لهم المسيح تبارك اسمه: “هوذا داركم يُترك لكم خرابًا” وأن عقيدة المُلك الألفي هي عقيدة صهيونية دخيلة على كتاب الله الكتاب المقدس، كما يؤمن جُل المشيخيين، والذين يؤمنون أن إسرائيل الحالية ليسوا هم أولاد وأحفاد إبراهيم خليل الله وإسحق ويعقوب مَنْ وعدهم الله سبحانه أن لهم ولنسلهم سيُعطي هذه الأرض التي لم تكن تُعرف يومئذٍ بأرض فلسطين، لأنه لم يكن هناك كيان أو دولة أو أمة تُعرف بفلسطين، كما كان الحال مع إسرائيل، ولذا لم يخاطب المولى في كتابه الكريم الوحيد الكتاب المقدس شعب يُعرف بشعب فلسطين بل خاطبهم كأقطاب عديدة من كنعانيين وأموريين وفرزيين وحويين ويبوسيين وغيرها، أقطاب يسكنون أماكن متفرقة من الأرض التي يطلقون عليها اليوم أرض فلسطين.

ومن الواضح أنني لن أكتب في هذا المقال عن محتويات الوثيقة نفسها أو ملحقاتها أو كاتبيها والموقَّعين عليها أو ما يدرسه القسوس الفلسطينيون في كلية لاهوتهم ببيت لحم لطلابهم الذين سيصبحون يومًا ما قسوس وقادة مسئولين عن الكنيسة العامة، وما كتبوه من أمور بهذه الوثيقة والتي أقل ما يقال عنها إنها مغرضة وكاذبة ومضللة وخادعة لكل مَنْ لم يدرس تاريخ إسرائيل وأقطاب الفلسطينيين في الكتاب المقدس ويحاولون إقناع الكنائس العالمية بها.

لن أكتب عن كل ذلك لسببين أساسيين:

أولهما: هو أن الأخ رشيد والأستاذ مجدي خليل قد كفياني شر القتال مع كاتبي الوثيقة بما كتباه من حقائق، وشرحاه وفصلاه تفصيلًا دقيقًا وأتقناه إتقانًا أكاديميًا وحرفيًا ومهنيًا، وسجلاه في الميديا المسيحية والذي اتفق معهما تمامًا وكليًا في كل كلمة كتباها أو أذاعاها، فلا مزيد من جانبي على تعليقاتهما سيضيف للأمر شيئًا جديدًا.

الأمر الثاني الذي جعلني أحجم عن نقض الوثيقة، هو أنني كتبتُ سابقًا أكثر من مقال عن عدة عناصر وأمور مدونة في الوثيقة المذكورة، كمقال “الإسلاموفوبيا”، ومقال “إسرائيل وغزة والمسجد الأقصى” ومقال “أصل المرارة والعداء مع إسرائيل”، ‪ومقال “حدث في رمضان (٢)”، ومقال “دروس من أمن إسرائيل”، ومقال “نعم، هناك شياطين وإسرائيل هم شعب الله المختار” ومقال غزة وراحت”، ومقال “الإرهاب في الإسلام”، ومقال “يا صديقي.. كلهم بن لادن”، ومقال “روح ضـد المسيـح”، ومقال “روح الخوف”، ومقال “روح الإرهاب “، وغيرها من المقالات الكثير التي يمكن للقارئ الدارس أن يقرأها أو يسمعها على موقع جريدة الطريق والحق .“eltareeq‪.‬com” ‬‬

ومع كل ما تقدم وما كتبته سابقًا إلا أنني أريد أن أتناول الأمر من جهة روحية مسيحية كتابية أكثر من سياسية أو اجتماعية أو كنسية تقليدية، فمن منا في الكنيسة المصرية فاهم أو حاول أن يفهم أن أمر الصراع بين إسرائيل وفلسطين، اليهود والمسلمين في شتى بقاع الأرض، عباد يهوه إلوهيم إله إسرائيل وعباد الله إله الإسلام، هو أمر روحي في المقام الأول والأخير، صراع يحدث في السماويات أولًا ثم تتم ترجمته وتنفيذه على الأرض في صورة خطف رهائن واحتجازهم وتعذيبهم وسرقة وقتل واغتصاب واعتداء على الأطفال والنساء والكبار. وكالعادة لم أسمع أحد ولا حتى القسيس الذي قدم محاضرة طويلة عن الحدث في كنيسته لم يتطرق لدور قوات الشر الروحية في السماويات وعملها على الأرض، مع أنه ذكر الآية التي تقول إن مصارعتنا ليست مع لحم ودم، لكنه كان يدلل بها على أننا كمسيحيين لا أعداء لنا من البشر، ولم يتطرق إلى دور هذه الرياسات والسلاطين وأجناد الشر الروحية في السماويات في الصراع العربي الإسرائيلي. ومن الواضح أننا نحتاج أن نفهم أمر هذا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بطريقة روحية ونعرف دور الأرواح الشريرة المصارعة فيه والساكنة السماويات، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

أ) روح الغي: الذي مزجه الرب في أرض مصر كما ذكر إشعياء النبي في الإصحاح التاسع عشر، والذي أضل رؤوس أسباطها سواء المسئولين الكنسيين فيهم أو السياسيين وغيرهم، وجعلهم يسيرون ويتصرفون كالسكارى الذين لا يعرفون ما يكتبون أو يوقِّعون عليه مما كُتب لهم دون رؤية الأمور بطريقة روحية من السماويات.

ب) روح الضلال: كما وصفه الكتاب المقدس أنه خرج إلى العالم مضلون كثيرون، يحرفون الكلم عن موضعه ويصورون الباطل على أنه الحق ويناضلون لأجل الباطل ويصرون على السير في الباطل ويصورون الحق على أنه الباطل.

ج) روح ضد المسيح: الذي لا يعترف بأقنوم المسيح واتحاده في إلوهيم بالمولى وروحه، وإنكار تجسد المسيح ومجيئه في الجسد وإنكار صلبه وموته وقيامته وبأنه آخر مَنْ أرسلت السماء رحمة للعالمين.

د) روح رئيس مملكة فارس المتمركز في إيران، التي هي المحرك الأول لكل ما يعمله الحماسيون ومقاومو إسرائيل منذ أيام دانيال النبي وحتى الآن، هذا الروح الذي حاصر أورشليم موضع الخلاف اليوم، وقام بفتحها وسبى فتيانها الحسان إلى بابل وغيَّر أسماءهم، والذي حاول قطع الاتصال بين دانيال اليهودي وبين إلهه يهوه القدير، والذي مارس مع الشعب اليهودي المسبي في القديم كل ما يمارسه معهم الفلسطينيون المتطرفون بقيادة حماس حتى اليوم.

هـ) هذا بالإضافة إلى روح السبات أو النوم العميق الذي يغشى الغالبية العظمى من المسيحيين في الشرق الأوسط، وخاصةً الكنيسة وقادتها في مصر، وروح الكذب الذي سيطر حتى على كثير من الخدام والقسوس والوعاظ الذين لا يتورعون عن أن يكذبوا بطريقة أو بأخرى على سامعيهم والهتيفة الذين يصفقون لهم على كل ما يقولون، والشيوخ الليبراليون الذين ينامون إما حرفيًا أو روحيًا في اجتماعات مجالس كنائسهم وعندما يستيقظون من سباتهم يخرجون ألسنتهم لمن ينتقدهم أو ينتقد كنائسهم أو قسوسهم ويكيلون لهم الاتهامات الباطلة العارية من الصحة.

وعليه يبقى هناك أهم سؤال يمكن أن يُسأل للمتعاركين في الشرق الأوسط وهو: إن كان المسلمون، سواء أكانوا مسلمين شيعة أم سُنة وغيرهم، يريدون أن تترك إسرائيل أرض فلسطين ويرحل شعبها عن ما يسمونه ديارهم، فلماذا لا يطبقون هم أيضًا على أنفسهم ما يطالبون الآخرين به من مبادئ وقناعات؟ فهناك قواسم مشتركة بين ما يسمونه الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين وما أسميه أنا والغالبية العظمى من المسيحيين سكان بلاد الوطن العربي اليوم “الاحتلال الإسلامي” لأرض مصر أو لبنان أو العراق وغيرها من البلاد، فكما دُوِّن في التوراة أن المولى تبارك اسمه هو الذي أمر شعب إسرائيل بمحاربة شعوب القبائل والعشائر والقرى المتناثرة في الأرض التي أقسم هو سبحانه لإبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم إلى الأبد، ونصرهم وطرد الشعوب من أمامهم، هكذا يقول المسلمون وهكذا يتعاملون مع فتوحاتهم المختلفة للبلاد التي أسموها البلاد العربية، فلقد سيطر المسلمون الأوائل على البلاد المعروفة بالعربية الآن واحتلوها وأخضعوها بحد السيف وأخذوا مدخرات وممتلكات سكانها وغيروا لغاتهم. وكما تقول الدكتورة سناء المصري في رسالة الدكتوراه الخاصة بها، والتي نالت بناءً على ما ورد بها درجة الدكتوراه بتقدير امتياز من لجنة أساتذة كلهم مسلمون، ولم يعترض أحدهم على ما ذكرته الدكتورة سناء من أن المسلمين الذين حكموا مصر بعد أن دخولها بسلام آمنين، فرضوا على سكانها تعلم واستخدام اللغة العربية ووصل بهم الأمر لدرجة أن يقطعوا ألسنة مَنْ يتكلم من أهل مصر باللغة القبطية، التي لم يكن يعرف المصريون غيرها وخاصةً المسيحيين منهم. هذه الحقائق معروفة ولا يستطيع أحد أن ينكرها أو يثبت من التاريخ عكس ما أقول، ونتيجة لما تقدم ذكره تكونت لدى أصحاب هذه البلاد المختلفة التي استوطن بها المسلمون ما يُعرف اليوم في علم النفس بـ “الفوبيا”، أي الخوف المرضي الذي لا مبرر له، وهو التعبير الذي اخترعه وأطلقه قادة المسلمين أنفسهم واستخدموه والصقوه بكل من يتكلم بالسوء عن الإسلام أو يخاف من الإسلام والمسلمين، والهدف منه أن يصوروا أن المسلمين يدعون للسلام والعدل والمساواة بين الناس، وكل مَنْ يتهمهم بغير ذلك فهو مريض بـ”الإسلاموفوبيا” ويحتاج إلى علاج نفسي وشفاء وهداية من الله سبحانه وتعالى، ويحتاج ألا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يناقش أو يجادل ويعيش في خوف مستمر من جيرانه وغيرها، بسبب مرض الإسلاموفوبيا الذي من المؤكد أن الكثير جدًا جدًا ممن وقَّعوا على هذه الوثيقة يعانون من هذا المرض الخطير. لقد كتبتُ سابقًا ردًا في مقال مطول لي بعنوان “الإسلاموفوبيا” عندما سُئل أحمد الطيب شيخ الأزهر في أحد لقاءاته العامة: “لماذا نسمع عن الإسلاموفوبيا ولا نسمع عن المسيحيوفوبيا أو اليهوديوفوبيا”، ويمكنك عزيزي القارئ أن تقرأه على صفحات جريدة “الطريق والحق”.

ولا شك أنه ينبغي لنا أن نفكر في إجابة السؤال الهام: لماذا وقَّع هؤلاء الأشخاص بالذات على هذه الوثيقة؟ هل بسبب عدائهم لإسرائيل الذي لا يستطيعون أن يخفوه حتى لو تكلموا ووعظوا وساقوا آيات كثيرة عن محبة المسيح تبارك اسمه ووصيته أن نحب أعداءنا ونبارك لاعنينا ونصلي لأجل الذين يسيئون إلينا ويضطهدوننا، وحتى إذا تظاهروا بالحيادية والنزاهة والبعد عن الإدانة للآخرين؟ كأن يقف أحدهم ويدين ما تفعله إسرائيل ضد الفلسطينيين وأطفال الفلسطينيين ولا يذكر كلمة واحدة عن الإسرائيليين وأطفال الإسرائيليين ولا يدين حماس التي بدأت الأزمة الحالية والحرب والقتل والأسر والسبي للأبرياء، الحرب الذي لا يعلم نهايتها ونتائجها إلا علام الغيوب وحده تبارك اسمه.

وللإجابة عن سؤال لماذا هذه الشخصيات بالذات هي التي وقَّعت على هذه الوثيقة، أقول بالرغم من التماس الأعذار للبعض من الإخوة والقسوس الفلسطينيين الذين وقَّعوا على هذا البيان، لأسباب كثيرة، مع عدم إعفائي لهم من المسئولية الكاملة والإدانة الشديدة واستحقاقهم لنوال أجرهم أو عقابهم من القدير خيرًا كان أم شرًا، فأهم هذه الأسباب هي:

أ- لأنهم جميعًا بشر، وما زالوا في الجسد وكل ابن آدم خطّاء، ومتسرع ومتهور في كثير من الأحيان حتى لو كان مؤمنًا ومحبًا لله الذي قال: “أحبوا أعداءكم”.

ب- لأنهم فلسطينيون وقد يكون أحدهم أو كلهم قد شاهدوا العسكر الإسرائيليين يسيئون معاملة ذويهم أو معاملتهم هم أنفسهم لسبب أو لآخر، بغض نظرهم عمن هو الذي ابتدأ بالإساءة، فالعسكر اليهود هم أيضًا بشر لهم أخطاؤهم وتعدياتهم ومرارة نفوسهم من الفلسطينيين والتي تدفعهم لأعمال عنف وقتل.

ج- لأنهم فتحوا أعينهم على الكراهية والخطاب المُعادي لإسرائيل في بيوتهم ومساجدهم وكتاتيبهم ومدارسهم، وأقنعهم مَنْ حولهم أن الجهاد في سبيل فلسطين هو جهاد في سبيل الله يثابون عليه.

ولعل المشكلة التي نعاني منها جميعنا اليوم هي أن رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر لا تمتلك محكمة دستورية عُليا للكنيسة الإنجيلية المصرية، حتى تستطيع مساءلة أو محاسبة مَنْ يخطئ ويجر وراءه الطائفة الإنجيلية كلها إلى ما لا يعلمه إلا الله. ليس لدينا الحكماء الذين يحكمون بيننا، علينا أو لنا، حُكمًا إلهيًا سماويًا كتابيًا، فلقد شابهنا رعاة إسرائيل في زمن نبي الله حزقيال الذي أمره المولى قائلًا: “يَا ابْنَ آدَمَ تَنَبَّأْ عَلَى رُعَاةِ إِسْرَائِيلَ، وَقُلْ لَهُمْ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِلرُّعَاةِ: وَيْلٌ لِرُعَاةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْعُونَ أَنْفُسَهُمْ. أَلاَ يَرْعَى الرُّعَاةُ الْغَنَمَ؟ تَأْكُلُونَ الشَّحْمَ وَتَلْبِسُونَ الصُّوفَ وَتَذْبَحُونَ السَّمِينَ وَلاَ تَرْعُونَ الْغَنَمَ. الْمَرِيضُ لَمْ تُقَوُّوهُ، وَالْمَجْرُوحُ لَمْ تَعْصِبُوهُ، وَالْمَكْسُورُ لَمْ تَجْبُرُوهُ، وَالْمَطْرُودُ لَمْ تَسْتَرِدُّوهُ، وَالضَّالُّ لَمْ تَطْلُبُوهُ، بَلْ بِشِدَّةٍ وَبِعُنْفٍ تَسَلَّطْتُمْ عَلَيْهِمْ. فَتَشَتَّتَتْ بِلاَ رَاعٍ وَصَارَتْ مَأْكَلًا لِجَمِيعِ وُحُوشِ الْحَقْلِ، وَتَشَتَّتَتْ. ضَلَّتْ غَنَمِي فِي كُلِّ الْجِبَالِ وَعَلَى كُلِّ تَلٍّ عَالٍ وَعَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ. تَشَتَّتَتْ غَنَمِي وَلَمْ يَكُنْ مَنْ يَسْأَلُ أَوْ يُفَتِّشُ. [فَلِذَلِكَ أَيُّهَا الرُّعَاةُ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ غَنَمِي صَارَتْ غَنِيمَةً وَمَأْكَلًا لِكُلِّ وَحْشِ الْحَقْلِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ رَاعٍ وَلاَ سَأَلَ رُعَاتِي عَنْ غَنَمِي، وَرَعَى الرُّعَاةُ أَنْفُسَهُمْ وَلَمْ يَرْعُوا غَنَمِي، فَلِذَلِكَ أَيُّهَا الرُّعَاةُ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ. هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَئَنَذَا عَلَى الرُّعَاةِ وَأَطْلُبُ غَنَمِي مِنْ يَدِهِمْ، وَأَكُفُّهُمْ عَنْ رَعْيِ الْغَنَمِ، وَلاَ يَرْعَى الرُّعَاةُ أَنْفُسَهُمْ بَعْدُ، فَأُخَلِّصُ غَنَمِي مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَلاَ تَكُونُ لَهُمْ مَأْكَلًا.”

فلو كانت لدينا محكمة دستورية عُليا في الكنيسة الإنجيلية المصرية، لربما كان القسوس الإنجيليون عندها سيفكرون ألف مرة قبل أن ينادوا لأعضاء كنائسهم بما يخالف عقائدها، وإن فعلوا وشرحوا وجهات نظرهم لحكم المحتقرون في الكنيسة، كما أمرنا بولس الرسول في رسالته إلى كنيسة كورنثوس في بداية تأسيس الكنيسة، كانوا قد حكموا عليهم وعلى ما يقولون أو يعملون ويعلِّمون. وعندها لتركنا الأمر لله، فمن شاء فليؤمن من الإنجيليين بما أنزله الرب، القادر على كل شيء، في كتابه الوحيد، التوراة والإنجيل، فليؤمن، ومَنْ شاء أن يكفر فليكفر، لكننا نرفض أن يملي أحد منا إيمانه وقناعاته على الآخر المخالف له في العقيدة أو المذهب أو حتى الدين. وإني أهيب برئاسة الطائفة الإنجيلية أن تخرج علينا بتعليق على هذه الوثيقة تشرح فيه موقفها منها بوضوح إن كانت على اتفاق أو اختلاف مع ما ورد بها، وتوجه إنذارًا للقسوس الذين وقَّعوا عليها إن كانوا يرون أن هذه الوثيقة عارية عن الصحة والدقة الكتابية والروحية، وأن تصلي من أجلهم وتطلب منهم الاعتذار علنًا للشعب المسيحي المصري. وإن لم تفعل رئاسة الطائفة هذا الأمر ستكون مشتركة مع كاتبيها في مسئوليتهم عنها أمام الله، وستحاسب عن ذلك حسابًا عسيرًا في الأرض كما تنبأ حزقيال وسيحترق عملها في النهاية أمام كرسي المسيح في الآخرة.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا