الحدود كلمة مطاطية تتسع لكثير من المعاني وتُطَبَّق في كثير من المجالات، ويفهمها كل شخص حسب هواه ووفقًا لما تمليه عليه وظيفته أو ديانته. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا ذُكرت كلمة الحدود أمام المسلم المتدين فلا شك أنه سيرجع معناها إلى إقامة الحدود من جلد ورجم وقطع يد السارق وخلافه، أما إذا ذُكرت نفس هذه الكلمة أمام رجل بوليس السواحل فسيرجعها لحدود القطر أو الدولة التي يحرسها، وقد تعنى الكلمة في الأسرة ما يُسمح به وما لا يسمح به بين أفرادها، وكثيرًا ما استخدمنا عبارات مثل “لا بد من إيقاف فلان أو علان عند حده”، أي منعه من عمل أو الاستمرار في عمل شيء ما.
ويختلف البشر من ناحية اتجاههم في قبول الحدود أو التعامل معها، فمنهم مَن يراها، كما يُفترض أن تكون، على أنها تنظيم صحي للعلاقات الشخصية والأسرية والكنسية لصالح الجميع، وواجبة الوجود والتفعيل، ويدرك أهميتها في التعامل مع كل مَن حوله وما حوله، وبذلك يقل الصراع والخلاف وسوء فهم كل للآخر. ومن الناس مَن يرى أن مجرد وجود الحدود والالتزام باحترامها ليس إلا قيدًا وسلبًا للحرية الشخصية، ووسيلة للمنع وليس للتواصل بين الناس، بل وحتى بين الزوج وزوجته، والأب وأولاده، والقسيس وأعضاء كنيسته.
وكشرق أوسطيين، فقد تعودنا التفكير في معظم الأمور، وعند البعض في كلها، بعواطفنا وقلوبنا وليس بعقولنا وتفكيرنا بالمنطق السليم، سواء كان بالمنطق الكتابي المبني على وصايا وقوانين إلهية مدونه في كتاب الله الوحيد، التوراة والإنجيل لمن يؤمنون بها، أو حتى بالمنطق الاجتماعي الأدبي الأخلاقي الذي فطر المولى الناس عليه وزرعه في قلوبهم وعقولهم للتعامل مع الآخرين.
ومثال على ذلك، إذا ما استخدمت أبسط ما يمكن استخدامه من آداب الزيارة لأحدهم، وأكدت له أنك ستتصل به قبل أن تجيء إلى بيته لزيارته، فستسمع من البعض: “يا راجل انت غريب؟ أنت تيجي في أي وقت، من غير ميعاد ولا تليفون”، وهو بذلك يؤكد، حسب تفكيره، على مدى ارتباط ومتانة علاقتكم. وقد يعتبر إصرارك على الاتصال به نوعًا من الكبرياء أو التأمرك أو غياب الصداقة الحميمة التي لا تحتاج إلى الاتصال به قبل أن تقرع بابه.
وكذلك فإن الأمر نفسه يحدث في كثير من الأحيان عند التعامل الشخصي بين الزوج والزوجة، فيرى البعض أنه لا يجب أن تكون هناك أي حدود بين الزوج والزوجة على الإطلاق. وقد يدلل الفرد على ذلك حتى بآيات كتابية لم تُدَوَّن في الكتاب للحديث عن هذه الحدود، فيقولون: “ليترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا.”
ويرجع وضع الحدود للإنسان في الأرض إلى الوقت الذي خلق فيه الله آدم وحواء في جنة عدن، فقد رسم الله لآدم القدير الحدود التي لا بد أن يحترمها في التعامل مع زوجته، من وجوب الالتصاق بها، إلى كونها معينة وكونها نظيره، وأنها مخلوقة من ضلع من أضلاعه، وكل هذا يحدد كيفية معيشة الرجل مع المرأة. وعندما جاء الأمر الخاص بالأكل من شجر الجنة، وضع المولى لهما نهيًا وقضاءً وحدودًا في التعامل مع شجر الجنة، وهي أنه يمكنهما أن يأكلا من كل شجر الجنة لكن حدودهما تنتهي قبل الأكل من شجرة معرفة الخير والشر التي في وسط الجنة، فيقول الكتاب: “وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. وأوصى الرب الإله ادم قائلًا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت.”
وعندما أخطأ آدم وحواء وعصيا ربهما وصدقا غواية الشيطان وأكلا من الشجرة المحرمة، وضع القدير حدًا بينهما وبين شجرة الحياة التي في وسط الجنة، حيث يقول الكتاب: “وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخذ منها. فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة. “
وهكذا واصل المولى وضع الحدود والضوابط التي تربطه سبحانه بخلائقه والتي لابد من تطبيقها، وفي حالة أنه تعداها، نال الإنسان عذابًا كثيرًا.
والحقيقة أن أكثر ما يشغل بالي بالنسبة لأمر الحدود هو ما يجري في الكنيسة اليوم، فالواضح أننا وصلنا إلى نقطة اللارجعة، تلك التي لا توجد بها معايير أو حدود واضحة المعالم تنبع من داخل الفرد أولًا فتصبح تلقائية التنفيذ في محيطه ومحيط الكنيسة، وأعتقد أننا وصلنا الآن إلى أن كل واحد يفعل ما يحسن في عينيه، فلا رابط ولا ضابط ولا كبير ولا قوانين ملزمة، وحتى المحبة الأخوية المسيحية قد ضعفت لكثرة الإثم.
فلا حدود تضعها الكنيسة لمن ينادون بتعاليم غريبة وأفكار شيطانية، والعجيب أن يدين مجمع أو طائفة ما تعاليم شخصًا، أو أشخاصًا ما، وهم كثيرون ولا أتكلم عن واحد بالذات، ويصدرون قرارًا مجمعيًا أو مذهبيًا بمقاطعته ومقاطعة أفكاره، ثم تجد رئيس المجمع ومجموعة ممن اتخذوا قرار وضع حد بينه وبين مجمعهم بعدم دعوته لكنائسهم هم أنفسهم الذين يقبلونه في كنائسهم، أو الذين يهللون لاجتماعه في كنائس أو فضائيات غيرهم ويصلون له لكي يستخدمه الله بأكثر قوة. ومع أنني لستُ أدين أحدًا على تصرفاته، مخلصة كانت أم مغرضة، لكن ألا ينتبه أحد من كبار أو صغار السن من القسوس والكهنة إلى روح الغي الذي يتسرب إليهم في غفلة منهم فيلوثون تاريخهم الطويل من الخدمة والشجاعة والمناداة بالإنجيل بأن يشتركوا مع غيرهم ممن ينادون بتعاليم هي أبعد ما تكون عن تعاليم المسيح؟ فتراهم يشتركون في خدمات إن كانت لوجه الله تعالى، ولبنيان المؤمنين، أو لتلميع بعض القسوس البسطاء الذين يصارعون ليجدوا مكانًا للشهرة، أو للاختفاء وراء كهنة ذاع صيتهم وأصبح مَن يخدم معهم في اجتماع واحد أو ليلة واحدة مقبولًا ومحبوبًا ومعتمدًا من هذا القس أو ذاك الكاهن. فهو يستغل ظهوره مع رجال الله القديسين في غفلة منهم للتأكيد على أنه مازال على الساحة الكنسية، وأنه مستمر في كل ما قال ويقول ويعمل، بمباركة الكثير من القسوس والكهنة الذين يجتمعون معه في اجتماعات واحدة، ويظهرون معه في فضائيات تنتشر في العالم أجمع. وفي النهاية، مَن يستطيع الحديث في مثل هذا الأمر الشائك، ومَن يستطيع أن ينتقد الكهول الذين كان لابد لهم بسبب طول الزمان أن يكونوا معلمين، لكن يبدو من أرض الواقع أنهم ما زالوا يحتاجون أن يعلمهم أحد؛ الكهول الذين لابد أن يكون جزء هام من مهامهم الأساسية في أواخر أيامهم هو وضع الخطوط الحمراء أمام الشباب لإرشادهم إلى الطريق السليم، لكن ماذا لو خلطوا هم الحدود بعضها ببعض، ولم تَعُدْ هناك حدود ومعالم واضحة للناس لكي يسيروا فيها؟ لقد حذَّر المولى شعبه القديم من محاولة نقل التخوم، أو الحدود، فهل الله تهمه قطعة أرض طينية أكثر من جزء حي من جسده الكنيسة حينما يرى أن المسئولين عنها في الأرض قد خلطوا التبن مع الحنطة؟ ولا شك أن أمر نقل الحدود الإلهية وعدم الالتزام بها يتسبب في عدة مصائب في الكنيسة أهمها:
أ – فقدان الشباب والكبار الثقة في قسوسهم وكهنتهم وكبارهم.
ب ـ هذا الفقدان للثقة في الكبار يصيب الصغار بحالة من الحيرة والاكتئاب والفشل الروحي قد يعاني منها الشاب طيلة حياته فيعيش حياة الإعاقة الروحية.
ج ـ تؤدي حالة فقدان الثقة والحيرة والاكتئاب والإعاقة الروحية إلى تولُّد أسئلة لا إجابة لها في أذهان الشباب، فإذا ما صمت أحدهم، قسًا كان أم كاهنًا، ولم يقل رأيه بصراحة في أمر كأمر الصوفية في المسيحية وكأن الأمر لا يخصه ولا يهمه في شيء، ثم فجأة ظهر في اجتماعات تجمع بينه وبين المنشد الصوفي، فماذا يعنى هذا؟ ألا يعنى هذا أنه إما هو موافق على تعاليم هذا المنشد من صوفية وغيرها، وإما أنه لا يريد تحديد موقفه منه ومن تعاليمه لسبب أو لآخر، وإما أن له أغراض ومصالح أخرى معلنة وظاهرة أو غير معلنة وغير ظاهرة قد يكون من بينها الاحتياج إلى أكبر عدد ممكن من الحضور لتعضيد قناته الفضائية؟ وربما يكون التصرف كله حدث ببساطة دون نية سيئة مبيتة، وحتى هذه التي أسميتها بساطة لا تصلح في التعامل مع عقلية الكبار، فالبساطة ليس معناها عدم الحكمة. لقد علَّمنا مسيحنا العظيم قائلًا: “ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب. فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام.”
ولا غضاضة أن يكتب بولس الرسول إلى أهل كنيسة كورنثوس قائلًا: “لما كنتُ طفلًا كطفل كنتُ أتكلم، وكطفل كنتُ أفطن، وكطفل كنتُ أفتكر. ولكن لما صرتُ رجلًا أبطلتُ ما للطفل.”
فما هو هذا الذي ما للطفل والذي قصده بولس الرسول بقوله “ولكن لما صرتُ رجلًا أبطلتُ ما للطفل”؟ أقول في عجالة دون تعليق:
أ- الطفل لا يفكر إلا في مصلحته الشخصية وفيما يجلب عليه ما يريده بغض النظر عن مصدره.
ب ـ الطفل لا يفكر إلا بعيدًا عن الكبار ولا يقبل آراء مَن هم أصغر أو أكبر منه، فأنا أحكم الناس في عيني نفسي؛ أنا مشيرها وأنا مقررها وأنا منفذها.
ج ـ الطفل لا يفطن للعواقب والتداعيات والنتائج، فقراراته سريعة غير مدروسة ولذا فهو يقع في فخاخ كثيرة.
د ـ الطفل لا يفكر في أنه لا بد أن ينأى بنفسه ولا يزج بها في معترك الأطفال وصراعاتهم ورغباتهم وأجنداتهم الخفية والمعلنة.
هـ – الطفل لا يمكن أن يكون محدد المعالم، واضح الكلمات والرؤى والتوجهات، فهو يسر بأن يشار له بالبنان على أنه شيخ كبير وناضج وفي نفس الوقت يتصرف كالأطفال
و ـ الطفل يمكن خداعه بسهولة، بكلمات التفخيم والتعظيم أو بالتملق، ولا ينتبه للخطة الشيطانية التي يخطط لها العدو ليوقعه بها.
وهذه هي المراحل الثلاث التي تكلم عنها بولس والتي تميز الطفل من الرجل، فالطفل يتكلم مسرعًا، ثم يفطن إلى أن ما قاله أو فعله أمر طفولي ويبدأ في التفكير، لكن الرجال يبدأون في التفكير والفحص والتدقيق وتقييم الأمور وسلوكهم أو قراراتهم على رعيتهم والمتعاملين معهم، ثم يفطنون لما يخبئه لهم العدو الشرير من مصائد وفخاخ يمكن أن تضرهم وتضر خدمتهم وتضر سمعتهم وتاريخهم الطويل. وفي النهاية، يقولون القول الفصل الذي لابد ألا يكون مبنيًا على العواطف والصداقات والطيبة والبساطة، لكن يبنونه على مبدأ واحد هام جدًا استعمله التلاميذ الذين يُفترض أن نحذو حذوهم؛ مبدأ رأى “الروح القدس ونحن”. فهل يستطيع مَن يخلطون الأمور، التبن مع الحنطة، والمشتركون معهم في اجتماعاتهم أن يقولوا لنا رأى “الروح القدس ونحن” في أن نعقد مثل هذه الاجتماعات المشتركة؟ وإن قالوا لنا ذلك لسألناهم: هل قال لكم الروح القدس إن هناك عشرات بل آلاف من المؤمنين الذين سيفقدون ثقتهم في الكهنة والقسوس والمرنمين والفضائيات والمروجين والمطبلين والمزمرين لهذه الاجتماعات؟
ولعل أهم ما في مسألة تطبيق الحدود في الكنيسة بين الخدام والمخدومين هو أن يتصرف الكبير ككبير وأن يؤخذ بيد الصغير حتى يكبر، وألا يُسمح للكبير بأن يتصرف تصرفات الصغار أو أن يتم تشجيع الصغار على أن يتصرفوا في شئون الكنيسة كالكبار.
الكنيسة ضاعت منها الحدود واختلط فيها الحابل بالنابل، وهي على شفا حفرة من نار الاضطهاد المحرقة التي ستحرق القش والعشب والخشب، والتي ستنقي الذهب والفضة والحجارة الكريمة.
يا سيد ارحم، يا سيد خلِّص، يا سيد اعمل من أجل اسمك، اكشف خطط عدوك للمؤمنين، وأرشدنا لطريقة النصرة عليه لأننا نسير في موكب نصرتك كل حين. تدخَّل يا سيد، اسمع من سماك، تعال بريح نار عاصفة ونق بيدرك. في اسم المسيح آمين.