لن نتحصن بجادة صوابنا سوى بالانسلاخ عن ما كَثُر من ثقة دون معرفة كافية ملازمة ومصاحبة لتلك الثقة.
تتعالى نبرات أصوات أصحابها، صادحة إلى أعالي أفقها وآفاقها، حيث حدود الثقة مترامية الأطراف في انسياب من حدودها، والتي كادت أن تصل إلى حد اللاحدود. فها هم مَنْ يخوضون غمار ثقتهم المختالة وقد تربعوا على عرش اعتقادهم في امتلاكهم لكثير من الأشياء إحاطة وإدراكًا وفهمًا، نراهم وقد ضاقت صدورهم لمن لا يعير رأيهم اهتمامًا أو اكتراثًا، وربما يناصبونه عداءهم لمجرد أن رأيهم وآراءهم لا تتوافق مع رأيه وما هو يراه! وقد يحمل موقفهم هذا بعضًا من الصواب وشيئًا من السلامة إن كانت اعتقاداتهم وما يرونه مصاحبًا وملازمًا للمعرفة الصحيحة -والتي حري بنا جميعًا بناء ما نعتقده ونؤمن به عليها- لكن أن نحمل على أعناقنا وعاتقنا من الأفكار ما لا يمت للحقيقة بصلة، بل هو محض خيال وربما افتراء؛ فهذا ما يصاحبه الجهل لا العلم، والغباء لا الحكمة.
تتبرأ الثقة كقيمة وكلمة من مضمونها متى تجردت من بناء سليم وأرضية، هي كذلك عليها تظل شامخة دائمًا وأبدًا في وجه تذبذب اليقين متى صار شكًا غير ثابت أو راسخ في الحق، وهل في المعرفة الصحيحة القائمة على علم صحيح شيء أكثر نفعًا وأمر أكبر جدوى؟! لكن سيظل ترنحنا وتخبطنا بين شتى الاتجاهات قائمًا دون انقطاع، متى كان استنادنا على قواعد خاطئة معبِّرة عن ما جاب به الدهر من قاع الأفكار ودنو المعتقدات وضحالة التقاليد الموروثة من غابر الأزمنة المعتمة وما خلا من السنوات المظلمة. وإن كانت غفلتنا عن كثرة من الاهتمامات ونحن في درب ذي الحياة جائزة، فإن غفلتنا عن صواب الأمور في نصابها السليم لا تحمل بداخلها سوى كل خطأ وكل ما من شأنه أن يجلب المتاعب والمصاعب وربما الهلاك!!!
إن اعتمادنا على ما ليس له من الحقيقة شيء لهو ثقة غافلة عما يكنه الجهل من وهدات تؤدي بأصحابها وبمن حفظوا غفلتهم الواثقة بها إلى التيه عن الوصول إلى ما تصبو إليه نفوسنا، فجهالة الأشياء هي فيروس يصيب رئتي وجودنا وتواجدنا في مقتل، حيث الحائل والرادع لنسمات البقاء وهواء التعايش مع كافة تقلبات الحياة وتعرجاتها كما الكيفية الخالصة في المرونة مع رياحها المدوية وعواصفها القاسمة. وإن كانت ثقتنا هي عن دون علم بعدم العلم لها ترياق شافٍ وعلاج مبرئ من ذي السقم الذي ينخر في عظام كياننا، إلا أن الثقة وليدة الجهل عن عمد وإصرار في ديمومة واستمرارية البعد عن ضياء المعرفة وسناء العلم، ليس لها دواء بل هي مرض عضال يزحف بأرجل ومخالب على أرض جرداء وقاحلة نحو الفناء والاندثار والاختفاء عن حياة كانت وبالًا على نفسها كما الآخرين سواء بسواء.
فهل لنا من العلم قسط؟ وإن كان؛ فهل هو حظ يتبارى مع العظمة الكبيرة كما القدر العظيم؟ هل له من الأساس الراسخ المتعمق والمتقعر في ساحة الإلمام بصحيح الأمور شيء؟ يا ليت ذلك يتجلى حضورًا وسطوعًا فيمسي لنا شمسًا أخرى، ليست في السماء وكبدها بل في محيطنا وأينما نحن سائرون، حتى يكون أهلًا لكل ثقة واستناد، لكل اتكال واعتماد، فليس أعز على الإنسان من ذاته التي وإن تماهت مع اللاوجود بات المرء منا ذائقًا للموت وسكراته في هيئة بعض من التحركات، وربما بعض من الضحكات التي تتقوس على الشفاه دون قلب شاعر أو نفس ذائقة لها، فيا حبذا الإسراع إلى الوعي والإرادة، للالتجاء لهما، والارتماء بين طياتهما جنوحًا للعلم والمعرفة الكافيين الوافيين والتذرع بهما للصحو من الغفلة الواثقة كما الثقة الغافلة.