والسؤال إذن: ما التكنولوجيا؟ قد يبدو فى البداية أن ثمة سذاجة فى إثارة هذا السؤال بحكم شيوع هذه الكلمة إلا أن الأمر ليس كذلك بحكم تعدد تناولها فى مختلف الأزمنة. ومن هنا يلزم التساؤل عن مفهوم هذه الكلمة على نحو ما ارتآها أرسطو باعتباره أول مَنْ تناولها عندما صك كلمة teche بمعنى المعرفة المنتجة فى مقابل لفظ episteme بمعنى المعرفة النظرية التى تختص بما هو ثابت وغير متغير مثلما هو وارد فى الرياضيات. ثم نزيد الأمر إيضاحًا بقولنا إن المعرفة المنتجة لا تعني إلا بما هو متغير أو بالأدق لا تعني إلا بما لم يكن ثم أصبح موجودًا. ومن هنا كانت كلمة teche على علاقة بكلمة الطبيعة من حيث إنهما تتفقان في إخراج شيء من شيء وتفترقان في أن الأولى منتج من عقل الانسان والثانية منتج من الطبيعة. وفي هذا السياق تكون المسألة في الأولى أكثر تعقيدًا من الثانية. وتأسيسًا على ذلك يمكن القول إن الحضارة اليونانية بمقارنتها بالحضارات الأخرى الشرقية تكمن في أنها مهتمة بالإنسان من حيث هو موجود في الطبيعة، وأن هذا الانسان من حيث هو كذلك مهموم بمعرفة ما هو ضروري، وأن هذا الذي يكون بالضرورة لا يمكن أن يكون على غير ذلك، ومن ثم فإنه خالد، وما هو خالد فإنه يكون غير قابل للتدمير. وفي هذا المعنى اتفق أرسطو مع الفكر اليوناني القديم في أن هذه الضرورة التي تتسم بها الطبيعة إلهية الطابع، ومن ثم فإنها تتجاوز كل القوانين التي يضعها الإنسان. وفي هذا المعنى أيضًا يلزم التنويه بهرقليطس آخر الفلاسفة المعروفين بالأيونيين الذين كانوا يعيشون في جزيرة أيونية باليونان وكانوا موجودين قبل أرسطو كان يقول عن الصراع إنه أبو الأشياء، وكان يقول أيضًا إن هذا الصراع يكشف عن قانون يحكمه ويسميه اللوغوس ومعناه العقل الذي يعتبر الطريق إلى التناغم بين الإنسان والطبيعة. وكان هذا التناغم الفكرة المحورية لدى كثير من الفلاسفة اليونانيين القدامى والفلاسفة المحدثين. وأغلب الظن أن هذا التناغم هو الذي دفع البدائي إلى التفكير في التكنولوجيا، إذ منذ 200000 سنة كان هو الذي اصطنع الأدوات الحجرية التي عُثر عليها في إثيوبيا منذ مليون ونصف المليون سنة.
ومنذ مليون سنة كان الإنسان يستعين بالنار. وبعد مئات الآلاف من السنين صنع الإنسان ملابس للتدفئة وبذلك تحرر من الاعتماد فقط على الكهوف. ومنذ أربعة آلاف سنة اخترع العجلة التي كان لها الفضل ليس فقط الانتقال من مكان إلى آخر بل أيضًا في تحويل كل من المياه والرياح إلى طاقة. ومع التطور قيل إن الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون في النصف الأول من القرن العشرين هو أول مَنْ فطن إلى إمكان إدخال التجريب في مسار الطبيعة، والذي دفعه إلى ذلك اعتقاده أن العلم القديم يعتمد على النظر العقلي دون الإهابة بالتجربة، ذلك أن هذا العلم لم يكن يستند إلا على منطق أرسطو وهذا المنطق لم يكن يحفل بالتجربة إنما كان يرمي إلى استكناه ماهية الموجود. وكل هذا مجهود ضائع في رأي بيكون، لأنه يمتنع معه السيطرة على الطبيعة. ولن تتسنى لنا هذه السيطرة إلا باستكشاف حالات الموجود كقولنا كثيف، مخلخل، حار، بارد، ثقيل، خفيف، ووسيلتنا في هذا الاستكشاف الملاحظة والتجربة، أي منهج الاستقراء.
غير أن بيكون يلفت الانتباه إلى لزوم تطهير العقل من الأصنام العالقة به قبل المضي في تناول هذا المنهج الجديد. وهو يحصرها في أربعة: أصنام القبيلة وتدور على ميل الانسان إلى أن يعمم من بعض الحالات دون الالتفات إلى الحالات المعارضة وإلى أن يفرض على الطبيعة من النظام أكثر مما هو متحقق فيها، وإلى أن يتصور فعل الطبيعة على غرار الفعل الإنساني فيتوهم أن لها عللًا غائية. أصنام الكهف وتفيد أن كل واحد منا يرى العالم من خلال كهف يقيم فيه. وهذا الكهف هو جملة الاستعدادات النظرية والعادات الاجتماعية المكتسبة. أصنام السوق وهي تنشأ من سوء تناول الألفاظ فتضع ألفاظًا لأشياء غير موجودة أو لأشياء غامضة. أوهام المسرح وهي الآتية مما تتخذه النظريات المتوارثة من سلطة ونفوذ. وهنا يتحامل بيكون على كل من أفلاطون وأرسطو وغيرهما من الذين يفسرون الأشياء بألفاظ مجردة ومفارقة للواقع المحسوس، وبعد التحرر من هذه الأصنام يصبح العقل صفحة بيضاء أو لوحًا مصقولًا ويكون صالحًا لتطبيق منهج الاستقراء. ويعد بيكون أول مَنْ طبق هذا المنهج.
ومنذ الحرب العالمية الثانية استطاعت التكنولوجيا إزالة عقبات أمام التطور، ولكنها أفرزت إشكاليات جديدة، ومن هنا أصبح لدينا رؤيتان متضاربتان إحداهما تفاؤلية والأخرى تشاؤمية. ومع الأولى كانت لدينا ثقة في كشف أسرار الطبيعة، ومن ثم أمكننا تطويع الطبيعة وفقًا لإرادتنا ومن أجل صالح البشرية. وفي هذا السياق نقول إننا نتحكم في التكنولوجيا التي ننتجها إذ تمدنا بالآلات التي يمكن استخدامها وفقًا للغايات التي نريد تحقيقها مثل ترويض الطاقة الذرية وتكنولوجيا المعلومات على نحو ما هي واردة في الكمبيوتر والتليفون والتلغراف واختراع الكتابة. وعيب هذه الرؤية التفاؤلية أنها تفترض سلطة الإنسان المطلقة على الطبيعة في حين أن الحال ليس كذلك لأن العلاقة بين الإنسان والطبيعة على غرار العلاقة بين السايس والحصان. فكل ما يستطيعه السايس هو التحكم في الحصان إلى حد ما مع إدخال عنصر التعاون. أما إذا تجاوز السايس الحد المطلوب فإن الحصان قد يتخلص منه، إما بقذفه إلى بعيد أو بقتله تحت قدميه.