القارئ العزيز، في الجزء الأول من هذا المقال، وفي إطار النقاش حول علاقة التقليد الوسلي بالتقاليد الروحية التي سبقته، رأينا أن منهجية وسلي في قراءة النصوص التاريخية واللاهوتية الآبائية والمُصلحة كانت منهجية تحليلية نقدية؛ إذ قرأ وسلي النصوص الممثلة للتقاليد الروحية المختلفة -أو تاريخ الكنيسة- مقارنًا محتواها دائمًا بثوابت الكتاب المقدس، وديناميكيات الخبرة الروحية، ومستخدمًا المنطق الروحي لامتحان اتساق هذه المفردات معًا. وقد مكنته هذه المنهجية النقدية من اختيار المناسب، ورفض أو تعديل ما لم يُثبَت اتساقه من خلال القراءة التحليلة، بحسب رؤية وسلي. وبالتالي، تبعًا لهذا المنهج، لم يقتصر تعامل وسلي مع ما سبقه من تقاليد روحية على “النقل”؛ إذ لم يُظهِر وسلي وفاقًا تامًا مع كل النصوص اللاهوتية والتاريخية التي قرأها واستخدمها. لذا، نجده أحيانًا مختلفًا، في تقييمه ونظرته للأبعاد اللاهوتية والتاريخية، عن مَن سبقوه. وهذا يجعله يظهر في بعض الأحيان مُغرِدًا وحده بمعزل عن التأريخ اللاهوتي الكلاسيكي آنذاك، ضاربًا مثالاً مبكرًا جدًا للتأريخ اللاهوتي التجديدي. وقد تناولنا، في المقال السابق، قراءة وسلي النقدية للإمبراطور قسطنطين وتأثير فترة حكمه على الكنيسة، كمثال لاختلاف نظرة وسلي عن النظرة التأريخية اللاهوتية الكلاسيكية. ونتناول في هذا الجزء من المقال قراءة وسلي للحركة “المونتانية” كمثال آخر.
التعريف بالحركة المونتانية!
بشكلٍ عام، تُدمَج الحركة المونتانية في التأريخ الكلاسيكي ضمن الهرطقات التي ظهرت في القرون المبكرة للمسيحية. وقد نشأت الحركة المونتانية -أو الحركة النبوية الجديدة- في فريجية بآسيا الصغرى، خلال ستينيات القرن الثاني -حوالي عام ۱٦۰م- عندما ابتدأ مؤسسها “مونتانوس” بالتنبؤ الذي صاحبه حالة من الدهش أو الغيبة (an ecstatic state). وهكذا، شكلت موهبة النبوة بشكلٍ خاص، ومواهب الروح القدس بشكلٍ عام، محورًا مركزيًا رئيسًا لهذه الحركة، للدرجة التي جعلت بعض الدارسين يطلقون عليها “حركة المواهب في القرن الثاني”. وسرعان ما انضم إلى مونتانوس كلٌ من بريسكلا ومكسميلا كخادمتين لديهما أيضًا موهبة النبوة، مما أعطى للحركة دفعة قوية. وقد انتشرت الحركة المونتانية انتشارًا واسعًا في سنواتها الأولى، إذ رأى فيها الكثيرون من أتباعها آنذاك استمرارًا لحركة أنبياء العهد الجديد التي ظهرت في سفر أعمال الرسل، وشملت رجالاً كأغابوس (أع٢١: ١٠، ١١)، ونساءً كبنات فيلبس المبشر الأربع (أع٢١: ٨، ٩). في غضون بضعة عقود، امتدت الحركة إلى العديد من البلدان بما في ذلك روما وشمال إفريقيا. وحوالي عام ٢٠٧ميلادية، ازداد تأثير الحركة المونتانية وثقلها بانضمام العلامة اللاهوتي “ترتليان” إليها، والذي انجذب إلى الجانب النسكي القوي في الحركة، وإلى تعاليمها الأخروية. وقد أدان العديد من الكتاب الكنسيين والمؤرخين الأوائل الحركة المونتانية باعتبارها بدعة، وحُرم المونتانيون رسميًا، واعتُبروا هراطقة في مجمع إيقونية عام ٢٣٠م.
تحليل وسلي النقدي للتأريخ الخاص بالحركة المونتانية، واتساقه مع الدراسات الأكاديمية المعاصرة!
على الرغم من إدماج الحركة المونتانية في الوثائق التأريخية الكلاسيكية، لقرون عديدة، ضمن البدع والهرطقات التي تمت إدانتها، غير أن جون وسلي كان له رأي مختلف! إذ يكتب وسلي عن المونتانيين في مذكراته لشهر أغسطس عام ١٧٥٠: “الأربعاء ١٥؛ بعد التفكير مليًا في كتاب غريب قد قرأته خلال هذه الرحلة -عنوانه: “الحكم الخاطيء للمسيحيين عامةً فيما يتعلق بالنبوة”- أصبحت مقتنعًا تمامًا بما كنت أشك فيه لفترة طويلة من الزمن: وهو أن المنتانيين في القرن الثاني والثالث، كانوا مسيحيين حقيقيين، مؤمنين، كتابيين، ومقدسين” (انتهى الاقتباس). وهكذا يؤكد وسلي ما يعاكس تمامًا ما هو متعارف عليه آنذاك، بل يمضي في كلماته في نفس الجزء من مذكراته، ليدافع عن مونتانوس، قائلاً: “إن مونتانوس -الذي ظهر، من دون إحضار أي عقيدة مستحدثة، لإحياء ما قد فسد، وإعادة تشكيل وتصحيح ما كان قد يبدو فوضى وخطأ- لم يكن فقط رجلاً صالحًا حقًا، لكنه كان من أفضل الرجال الذين عاشوا في ذلك الوقت” (انتهى الاقتباس)!
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا على كل دارس للتاريخ، هو: ما الذي جعل وسلي -في القرن الثامن عشر- يرى المونتانيين كمسيحيين حقيقيين، على الرغم من كونهم مدانين بحسب مصادر التأريخ الكلاسيكي؟ الإجابة الواضحة هي قراءة جون وسلي التحليلية والنقدية للنصوص التاريخية! فعلى الرغم من ندرة المصادر -خاصة في وقت وسلي- غير أنه من الواضح، من كلماته في مذكراته، أن وسلي قد بذل جهدًا في البحث والتحليل لتقييم صحة ما يقرأه من مصادر تاريخية، فوصل إلى هذه النتيجة التي أيدتها الدراسات الأكاديمية الحديثة خلال العقود الأخيرة في عصرنا الحالي. إذ تشهد العديد من المصادر الأكاديمية المعاصرة -على سبيل المثال- بأن عقيدة الثالوث للمونتانيين كانت عقيدة أرثوذكسية (مستقيمة)، وكذلك اعتقادهم الكريستولوجي (أي إيمانهم بالرب يسوع المسيح) كان اعتقادًا ليس به أي شوائب. وتُلقي الدراسات الحالية الضوء على أن العديد من خصوم المونتانية المعاصرين لهم آنذاك، مثل: إبيفانيوس وهيبوليتوس من روما، قد شهدوا لأرثوذكسية معتقدات المونتانية الجوهرية. أيضًا تؤكد الدراسات المعاصرة أن المونتانيين قد وافقوا على قانونية جميع الكتب المقدسة في العهد القديم والعهد الجديد، ولم ينكروا أيًا منها، وكانوا ضد الأفكار الهرطوقية مثل الدوسيتية. فعلى سبيل المثال، يؤكد اللاهوتي والمؤرخ السويسري البروفيسور “فيليب شاف” (١٨١٩–١٨٩٣م.) أن: “مذهب مونتانوس اتفق في جميع النقاط الجوهرية مع الكنيسة الجامعة وتشبث بشدة بقانون الإيمان التقليدي”. والبروفيسور فيليب شاف يُعد من أكثر علماء الآباء موثوقية في العصر الحديث؛ إذ تُعد كتبه ودراساته من أهم مراجع تاريخ الكنيسة في الأوساط الأكاديمية، ومنها: سلسلة آباء ما قبل نيقية (١٠ أجزاء)، وآباء نيقية وما بعده (٢٨ جزء)، وسلسلة تاريخ الكنيسة المسيحية (٨ أجزاء). وتأتي أهمية شهادة شاف أيضًا من كونها مبنية على قراءته للوثائق الأولية، مما يعطيها ثقلاً أكاديميًا معتبرًا. كما تؤكد “كريستين تريفيت” أستاذة الدراسات اللاهوتية بجامعة ويلز، والمتخصصة في دراسة الحركة المونتانية، على أن “أكثر النقاد المتحمسين ضد المونتانية اعترفوا بأنها لم تكن بدعة/ هرطقة”. ويلفت كثير من الدراسين، ومنهم البروفيسور “ديل كولتر” أستاذ الآبائيات بجامعة ريجينت، النظر إلى أن انتماء العلامة ترتليان للمونتانية -في حد ذاته- يمثل شهادة لأرثوذكسية الحركة فيما يتعلق بالعقائد الجوهرية؛ إذ تُعد كتابات ترتليان حول الثالوث مركزية في تطور الصياغة الأرثوذكسية لعقيدة الثالوث عبر تاريخ الفكر المسيحي.
ليسوا هراطقة، لكنهم منحرفون لاهوتيًا!
هذا، ولا يفوت على الدارس الواعٍ لتاريخ الكنيسة، تركيز العلماء -السابق ذكرهم- على أرثوذكسية الحركة المونتانية فيما يتعلق بالعقائد “الجوهرية” تحديدًا (مثل عقيدة الثالوث، ألوهية المسيح، ألوهية الروح القدس، إلخ)! وهم في هذا يؤكدون على براءتهم من الهرطقة، لكنهم لا ينفون انحرافاتهم اللاهوتية في بعض الأفكار. ودراسة تاريخ الكنيسة تضع تمايز واضح بين الهرطقة والانحراف اللاهوتي، وهو ما لم يركز عليه وسلي، إذ انشغل بتبرئتهم من الهرطقة، ولم يتعرض لانحرافاتهم. ويمكن تلخيص انحرافات المونتانية في خمسة انحرافات أساسية؛ وهي: أولاً: فهم مونتانوس استقبال النبوة، حصريًا، على أنها تحدث في حالة غيبة/غيبوبة. حيث، بالنسبة لمونتانوس، لابد أن يفقد الأنبياء إحساسهم ويصبحون مأسورين تمامًا في حالة تشبه الغيبوبة، ثانيًا: ربط الصوم بالإلهام النبوي، ثالثًا: رفض زواج الأرامل واعتباره خطية، رابعًا: رغبة أقل في مسامحة المرتدين أو استعادتهم للكنيسة، خامسًا: توقع اسخاتولوجي بأن تحقيق وعود نهاية العالم سيأتي قريبًا آنذاك، وستنزل أورشليم الجديدة إلى بيبوزا في فريجية بآسيا الصغرى.
من الواضح أن الأفكار السابق ذكرها، مع إنحرافها، لا ترتقي لمستوى الهرطقات. فعبر تاريخ الكنيسة، ظهرت انحرافات لاهوتية شِدتها أكثر، كأفكار أوريجانوس مثلاً، لكن لم يُتهم أصحابها بالهرطقة! وهذا يثير سؤال رئيس حول ماهية الأسباب الحقيقية التي كانت وراء اعتبار المونتانيين هراطقة، والتي ربما لمحها وسلي من خلال قراءته التحليلة، ويؤكد عليها الدارسون المعاصرون. إذ يُسلط الضوء بعض أساتذة التاريخ مثل: البروفيسور تريفيت، والبورفيسور كولتر -السابق ذكرهما- على السياق الذي ظهرت فيه المونتانية ليعطوا تفسيرًا لاتهامهم بالهرطقة، إذ نشأت المونتانية في خضم ما يُعرف الآن في دراسات تاريخ الكنيسة بمجهودات التثبيت والتعزيز (Consolidation and Stabilization)، ووضع قياسات ونماذج محددة للمارسات الكنسية. وقد ركزت هذه المجهودات على إيجاد صياغات موحدة للعبادة الكنسية، لمنع المنحرفين من أن يبثوا سموم انحرافاتهم في عبادة الكنيسة. وبالطبع، فإن الطبيعة الديناميكية للمونتانية، والتي تتيح، من خلال تركيزها على مواهب الروح، قدرًا كبيرًا من الحرية في العبادة والممارسات، كانت تقف على النقيض من جهود التثبيت هذه. يُضاف إلى هذا أن طابع السلطة الكنسية التشاركية في المونتانية، متضمنًا خدمة المرأة، قد مثّل خطرًا على محاولات تعزيز سلطة الأسقفية الوحدوية آنذاك (فيما يُعرف بمركزية الأسقف). لذا، يؤكد كولتر على أن الصراع بين المونتانية وتطور التقاليد الجامعة -النامية في ذلك الوقت- لم يكن بسبب الهرطقة بل بسبب السلطة! أيضًا، يقترح دارس الآباء “لوسيان كيم” أن الكنيسة الأولى كانت مقتنعة بأن أي اتفاق مع المونتانية على الطبيعة الديناميكية للإلهام النبوي يمكن أن يعوق التحرك بثبات نحو إقرار قانونية الأسفار. وبالفعل، يتضح للدارس المنصف لتاريخ الكنيسة أن السياق الذي ظهرت فيه الحركة المونتانية كان هو العامل الرئيس لاعتبارهم هراطقة، وذلك لتنحيتهم تمامًا عن تعطيل محاولات المأسسة المبكرة للكنيسة من خلال طبيعتهم الديناميكية. هذا، وتظل كلمات وسلي عن الحركة المونتانية، والتي سبقت هذه الدراسات المعاصرة بمئات السنين، نموذجًا واضحًا لقراءته النقدية والتحليلية، ومنهجيته التجديدية، في قراءة نصوص تاريخ الكنيسة. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!