معلوم أن النقد في أبسط تعريف له هو تمييز الشيء الغث من الثمين، وهذا التمييز يحدث عادةً ضمن إطارات تحكمها معايير علمية وموضوعية، بعضها طبيعي تقليدي والبعض الآخر عبر الدراسة الأكاديمية أو الخبرة القرائية المتكونة من توالي الاطلاع على خبرات نقدية سابقة لفنون أدبية كثيرة في عصور مختلفة لكتّاب ومؤلفين متعددي المشارب والاتجاهات الأدبية الإبداعية..
ونحن نعيش مرحلة ننشد فيها تفعيل عمليات التنمية لا بد ندرك أنه لا تنمية حقيقية بدون تنمية العقل والوجدان والفكر، فلا طائل من تحقيق تنمية سياسية أو اقتصادية إذا لم يسبقها أو يواكبها عمل جدي متواصل في مجال دعم كل آليات التنمية للثقافة، اعتمادًا على منظومة تعليمية تدفع في اتجاه إعمال العقل والتفكير والإبداع في كل مراحل تطبيقاتها الحياتية ..
قد يبدو غريبًا لو عقدنا مقارنة بين حالنا في زمن محدودية إتاحة التعليم والقيود التي كانت لا تسمح بتوفير بنية تعليمية وتربوية وإبداعية معقولة، ومع ذلك كانت لنا ريادة إقليمية وعربية في الثقافة والفكر التنويري والتعليم، وبين حالنا الآن وبعد توفير المزيد من فرص الإتاحة ببناء آلاف المدارس والأجهزة والمؤسسات الثقافية والإعلامية، حيث نعاني -للأسف- من وباء الأمية النسبية الثقافية وانتشار المزيد من مظاهر الدجل والفهلوة والجهل!!
وعليه، نحن في احتياج لتفعيل آليات تطبيق فكر علمي وموضوعي والأهم نقدي وابتكاري نبث أدواته وأمثلته لشبابنا، وليس المطلوب الآن هو تثوير ذلك الفكر النقدي لصياغة معارك ذات جاذبية إعلامية تجارية للشهرة والتلميع الغير مستحق لبروزة أدعياء المهنية الكاذبة.
نحن في حاجة إلى فكر نقدي يساهم بل ويدفع جهود التنوير للتفعيل والإضافة إلى رصيد أهل الإصلاح والتنوير الأوائل، فلولا خطواتهم الأولى ما كان لنا أن نحلم بخطوات جديدة عبر مراحل بناء وتأسيس الفكر النقدي في بلادي. كان النقد والحركة النقدية خير داعم وميسر لأجيالنا لقراءة العمل الإبداعي وسبر أغواره وفهم دلالات عناصره وأدواته والمدارس الإبداعية التي ينتمي إليها..
ولعله من المناسب التذكير بالتفاعلات النقدية والفكرية بين رموز الإبداع والفكر (والتي لم تكن بالمناسبة كلها إيجابية ولكنها كانت تشير إلى وجود حياة وتفاعلات وتشابكات إيجابية)..
أذكر -على سبيل المثال- الحوار الذي أجراه الكاتب الصحفي عبد العزيز صادق مع المفكر سلامة موسى لمجلة “الرسالة الجديدة” في عددها الثاني الصادر في شهر مايو 1954، وكان يرأس تحريرها الكاتب يوسف السباعي وهو في منتصف الثلاثينات من عمره . قال سلامة مُعربًا عن رأيه في أدباء العصر بشكل قاطع وحاد: “لستُ أرى فيهم مَنْ يستحق لأنهم انفصلوا عن المجتمع الذي نعيشه.” وأضاف إن الأدب الحي يجب أن يرتبط بالواقع حاملًا همومه.. وعندما سُئل موسى: “هل قرأ لأدباء هذا العصر؟” قال: “قرأتُ لهم جميعًا ولم أجد فيهم مَنْ يستحق أن يقرأ لهم ويتابعهم أولادنا أو حتى أحفادنا بعد عشرة أعوام”.. وعن رأيه في “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي و”زقاق المدق” لنجيب محفوظ و”أرض النفاق” ليوسف السباعي، قال عن نجيب محفوظ: “إن ما يكتبه يدل على نبوغ، ولكن لا أدري هل سيبقى هذا النبوغ على مقاييس العصر القادم؟” ويضيف موسى: ك”حين أذكر الأدباء الحاضرين لا يخطر ببالي هؤلاء الذين كانوا صبيانًا (يقصد الشرقاوي ومحفوظ والسباعي) عندما كنا في سن الأربعين والخمسين، أما السباعي فأنا أوثر أباه عليه!!”
وتحت عنوان “كلام العيال”، يرد السباعي في نفس الصفحة التي نُشر فيها الحوار مع سلامة موسى مخاطبًا إياه: “لقد عايرتني أولًا بصغر السن.. ولستُ أرى في ذلك عيبًا اللهم إذا كان يرى السبق إلى الوجود مدعاة للتفاخر وهو شيء لا فضل له فيه، ولا يمكن أن يكون سببًا في المفاضلة فهناك حمير كثيرون أكبر منك.. وهناك حمير أكثر أكبر مني.” ثم توالت ردود الفعل من كُتاب مصر في ذلك الحين، فيقول العقاد: “سلامة موسى.. لا هو أديب.. ولا هو عالم.. إنه لا يعبِّر إلا عن حقد.. وشعور بالفشل.” أما توفيق الحكيم فكان رده: “لا تقيموا وزنًا لحكم سلامة موسى، فقد انقطع عن القراءة منذ ربع قرن.”.. ويصف كامل الشناوي سلامة موسى قائلًا: “إنه حاقد موهوب.. يعبِّر بسهولة عن آراء غيره.. ولا يعرف من الأدب إلا عناوين الكتب وأسماء الأدباء.”
نعم، كنا لا نأملها منازلات ومبارزات غير لائقة على هذا النحو، و لكن المقصود من الإشارة إليها -ورغم ما توحي إليه من وجود حوار متشدد بين أجيال الإبداع- أن هناك تواصلًا ومتابعات للإنتاج الأدبي والفني من جانب أهل الفكر والنقد، وهو ما نفتقده الآن من متابعات مُعينة لشبابنا على القراءة النقدية للإبداعات المطروحة، وأيضًا متابعة وتقييم الإنتاج الإبداعي للشباب..
هناك تقصير وتجاهل لأصحاب إبداعات تمثل إضافات فكرية وفنية.. وفي هذا السياق كتب الشاعر الراحل “عبد الرحمن الأبنودي” غاضبًا: “إن التجاهل مدرسة نقدية كاملة.. تخفي خلفها سوء نية وتآمرًا لا حدود لهما.”
والمشكلة التي تعاني منها الحركة الفنية والإبداعية هي أن النقاد الكبار كما يُطلق عليهم توقفوا عن المتابعة والقراءة، بمعنى أنهم توقفوا عن أن يكونوا نقادًا وعن ممارسة الفكر النقد.ي
إن افتقاد الساحة النقدية لوجود الأساتذة والنقاد الكبار جعل من المتعذر على المبدعين الذين لا يجيدون فن العلاقات العامة ولا يمارسون النفاق أن ينالوا ما يستحقون من تقدير، فالشللية وجماعات المصالح الانتهازية باتت لها الغلبة على ساحات ومنابر الإبداع!!
أعتقد أنه لا يوجد خلاف خلاق أو نقد بناء أو حوار جدلي رفيع، وإنما هناك -للأسف- محاولات الإقصاء المتبادل بين المتنافسين في الحياة الثقافية في مصر، وهذه مصيبة ينبغي تداركها..
لقد بات الناقد المحترف يخشى النقد التطبيقي لما يمثل له كلون من التحدي المهني، لأنه يمكن أن يتكلم بشكل نظري كلامًا بديعًا مثيرًا للاهتمام والجاذبية، ثم تكون المفاجأة عند التطبيق وفضيحة الإخفاق، فتنكشف حقيقة أن كل ما أثاره واستند إليه في محاضراته الحنجورية مجرد تراكمات ثقافية سمعية شفهية في فضاء عدمي!!
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المتعلم ذا الحس الناقد لا بد يتميز عن غيره بضرورة الابتعاد عن الأخطاء الشائعة باعتبارها مقدمات للبناء عليها!!
يتلاحظ فقدان الناقد الممارس في بعض الحالات الاستناد لمرجعيات علمية معتمدة، والبعض الآخر تسوقه المشاعر والانفعالات الوقتية الزائفة بعيدًا عن ضرورة إعمال المنطق.. أما الأغرب فهو مَنْ تتصلب مواقفهم رغم اكتشافهم ما يضعف ما استندوا إليه من قرائن!!
كان لي شرف استضافة المفكر والأستاذ الأكاديمي والمفكر الناقد الراحل الدكتور صلاح فاضل رئيس المجمع اللغوي عبر حلقة هامة من برنامجي “ستوديو التنوير”، وقد ذكر أن طاقة الإنسان الإبداعية هي كل لا يتجزأ، فيقول: “في مطلع حياتي، عندما كنتُ طالبًا، مارستُ كتابة الشعر والقصة، لكن وعيي النقدي كان أشد حدة من طموحي الشعري، فسألتُ نفسي وأنا ما زلتُ في العاشرة من عمري، وكان شاعري المفضل صلاح عبد الصبور بعد أحمد شوقي: هل يُمكن أن ترقى بهذا الشعر إلى مستوى شوقي وعبد الصبور؟ كانت إجابتي قاطعة، فقررتُ أن أوئد موهبتي الشعرية، وقتلتها قتلًا، وأعتقد أنني بذلك أعفيتُ القراء من كثير من الشعر الرديء أو المتوسط على الأقل.”
إذًا هل حقًا كما يُقال إن “الناقد مبدع فاشل”؟ يختلف فضل مع تلك المقولة، حيث يعتبرها عبارة مغلوطة، لأن الناقد في رأيه لديه موهبة إبداعية وموهبة في النقد لكنه صريح مع نفسه، ويعي مستوى قوته وضعفه، ويستطيع أن يضع حدًا للتجارب الفاشلة، وكثير من أنصاف المبدعين قد انتبهوا إلى ذلك، وقليل جدًا من الموهوبين العظماء تتوفر لهم الملكة المزدوجة في النقد والإبداع معًا..