شهد العالم منذ فترة وفي أنحاء متفرقة منه الصراعات القائمة بين الدول والشعوب والأفراد، وذلك حول السلطة، فكل طرف يريد السيطرة على بقعة من بقاع العالم سواء عن استحقاق أو عدم استحقاق، وبأي طريقة مهما كانت التكلفة التي قد تصل إلى التدمير والقتل والتشرد والخراب وما يصاحب ذلك من تغيير لخريطة الكرة الأرضية. وفي الواقع فإن وراء هذا الصراع هو فرض السيطرة والتسلط على المجتمعات.
وهناك العديد من النماذج الحية التي نراها أمامنا، والتي تشهد صراعًا على مَنْ يملك ومَنْ يكون في يده التحكم في مصائر الشعوب، سواء على مستوى الدول (الصين وأمريكا) أو على مستوى الشعوب (روسيا وأوكرانيا) أو على مستوى الأفراد، وذلك مثلما يحدث بين المرشحين في الانتخابات الأمريكية.
ومن الملاحظ أنه كلما اشتد الصراع على السلطة اختفت المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية السامية مثل الحب والرحمة والحق، وزادت القيم المتدينة كالانتهازية والوصولية والأنانية. كما نجد أيضًا محاولة كل طرف فرض سيطرة أفكاره ومبادئه ومعاييره الأخلاقية على الشعوب.
وإذا نظرنا إلى ماضي الشعوب، نجد أن هذا الصراع قد ظهر على مدى تاريخ البشرية. كما ظهرت أيضًا شخصيات بارزة حاولت أن تفرض سيطرتها على الشعوب، وذلك أمثال نابليون وموسليني وهتلر. وقد كان السبب الرئيسي وراء هذه السيطرة هو جنون العظمة أو ما يُعرف في لغة علم النفس بـ”البارانويا”.
والبارانويا هو اضطراب عقلي يصيب الشخص بنمط تفكير غير منطقي، قد يؤدي به إلى أن يخلق لنفسه عالمًا وهميًا خاصًا به يختلف عن الواقع الخارجي المُعاش. وأغلب المصابين بهذا الاضطراب من الرجال ويمثلون من 5-15% على مستوى العالم. وتتميز البارانويا عن أي اضطراب عقلي آخر بأن الشخص يتمتع بقدر من الذكاء يجعله مناورًا جيدًا ولديه حُجة قوية في الإقناع يمكنه بها التأثير على الآخرين الذين قد يجدون في قناعاته الزائفة منطقية مقبولة. كما أن لديه القدرة على إدارة حوار جيد بالإضافة لأن لديه مخزون جيد من الذاكرة القوية التي قد توهم الآخرين بسلامة تفكيره، كما نجده محللًا سياسيًا بارعًا، وهو يرى نفسه أكثر ذكاءً وثقة وتفوقًا وتميزًا عن الآخرين، فهو السوبر مان الذي له حق السيطرة والتسلط على كل من حوله.
وتنقسم البارانويا إلى نوعين:
– بارانويا الاضطهاد: ومن علاماتها الشك في الآخرين وفي نواياهم، فهو يتبنى المبدأ الديكارتي (أنا أشك إذًا أنا موجود). فمريض البارانويا يعتقد أن الآخرين يتآمرون عليه ويترصدون لحركاته ويضمرون له الأذى. وقد يصل الأمر بتوهم أن البعض منهم يقوم بمراقبته بالكاميرات السرية للإبلاغ عن الجهات الأمنية، كما أنهم يحاولون الإيقاع به ويقفون عائقًا أمام نجاحاته المبهرة، لذا فهو ينظر للمجتمع على أنه فاشل.
– بارانويا العظمة: يتصف مريض البارانويا بالغرور، فهو يرى نفسه الأفضل والأذكى، وأنه يتمتع بقدرات خلّاقة، تُشعِره بالتميز والتفوق على الآخرين، لذلك فهو دائم الاعتزاز بأرائه. كما أنه لا يقبل النقد منهم، حيث يرى أنه على صواب دائم ولا يخطئ، فهو صاحب المعرفة والقادر والفاهم في كل أمور الحياة. ولذا فهو لا يعبأ برأي الآخرين. كما أنه لا يتحمل الضغوط، فقد نجده يهاجم الآخرين بقسوة وعنف، وقد يصل في أحيان كثيرة إلى العدوانية. فهو يتصف بعدم الرحمة والشفقة، وقد يصاب بخلل في الأداء الوظيفي أو المهني، مما يؤدي إلى ارتكابه أخطاء فادحة قد تؤذي الآخرين. وقد يظهر ذلك بوضوح حينما يكون في منصب مسئول كبير. وقد شهدت أغلب الدول ما ارتكبه رؤسائها من أخطاء قد أودت بحياة ومصير ومستقبل هذه الشعوب. كما يرى بعض الرؤساء السابقين (رؤيتهم الزائفة) بأنهم قد ساهموا في إنجاح وازدهار بلادهم رغم وضوح فشلهم في إدارة هذه البلاد.
وهناك علاقة واضحة بين الإحساس بالعظمة والاضطهاد، فإحساسه بالتفوق والتميز يجعله يرى الآخرين أقل منه معرفة وذكاء، لذلك فهو عديم الثقة بهم، يشك في قدراتهم وإمكانياتهم العقلية، كما يراهم يحاولون الإيقاع به وإيذاءه بسبب تفوقه عليهم، لذلك فإن إحساسه بالعظمة يصاحبه شعورًا بالاضطهاد.
أسباب البارانويا:
– يرى البعض أن سبب البارانويا يرجع إلى العامل البيولوجي، فالجينات والموروثات تؤثر على ظهور المرض، أو قد يرجه السبب إلى وجود خلل في الوصلات العصبية للدماغ، والذي يؤدي إلى اضطراب في هرمون الدوبامين.
– أما البعض الآخر فيرجع السبب إلى عوامل بيئية مثل سوء التنشئة الاجتماعية، وذلك مثل تسلط أحد الوالدين أو الحماية الزائدة أو تكوين مفاهيم خاطئة مثل الشعور بالرفض لفكرة الأسرة.
– هذا ويرى آخرون أن السمات الشخصية لها دور فعال في ظهور البارانويا، فالأشخاص الذين يتصفون بالنرجسية وهو (الحب المرضي للذات) هم أكثر عرضة لظهوره، حيث يتصف النرجسي بالغرور والإحساس بالقيمة العالية وتضخم الذات (Ego). كما يرى أنه مستهدف من كل الناس، لذلك فهو مضطهد من المجتمع. وقد يساعد على سرعة ظهور أعراض هذا المرض إدمان الشخص للكحوليات والمخدرات، خاصةً الحشيش والكوكايين.
والخلاصة التي يمكن أن نصل إليها هي أن أغلب النماذج البشرية من الساسة والقادة عبر التاريخ، والتي كانت تتصارع على السلطة استطاعت أن تملك بواسطة فرض إرادتها وأفكارها وقيمها الموسومة بالتسلط والسيطرة وكبرياء الغرور والأنانية ومحبة الذات، حيث إن مبادئها مبنية على المصلحة الشخصية والتطلع إلى المكاسب المادية، فهي تتبنى المبادئ الميكيافيلية أو امتلكت بغرض قيم العنف والقتل والتدمير والموت، إذ تؤمن بمبدأ (أنا وبعدي الطوفان).
ولكن هناك شخصًا واحدًا فريدًا استطاع أن يملك على العالم بمبادئ أخرى مختلفة تمامًا، مبنية على الحب والعطاء والبذل والتضحية، وتُعرف بمبادئ الملكوت، أن يحرر النفوس من عبودية محبة الذات إلى محبة الآخرين، ومن محبة الأخذ إلى محبة العطاء. لم يفرض سلطانه أو سيطرته على البشر بالقوة أو بكبرياء العظمة، بل بالتواضع وإخلاء الذات وفي الوقت نفسه منح الإنسان حرية الإرادة لكي يختار قراراته ومصيره بنفسه. وهكذا فتح لنا باب الرجاء الذي به نقلنا من سلطان العبودية إلى سلطان أبناء الله، ومن سلطان الظلمة والموت إلى سلطان النور والحياة.