ما أكثر الكلام عن الاضطهاد والمضطَهدين والمضطِهدين في هذه الأيام، وما أكثر المنظمات الحقوقية المدافعة عن المضطهدين تلك التي تعمل حقاً علي رفع الاضطهاد عن المضطهدين أو من تعمل علي تحقيق خططها وأغراضها الشخصية، وما أوسع الهوة بين رأي المسيحيين والمسلمين والحكومات في تعريفهم للاضطهاد والمضطهدين وما إذا كان هناك ما يسمى بالاضطهاد من الأصل. فالحكومات وخاصة العربية منها تنفي نفياً باتاً أن يكون المسيحيون مضطهدين في بلادهم ويدللون علي ذلك بأسماء شخصيات مسيحية معروفة في مصر والوطن العربي من رجال الأعمال الذين حباهم المولى تبارك اسمه غنى جزيلاً في مشروعاتهم وكيف أن هؤلاء عندهم الفرصة الكاملة لممارسة كل حقوقهم المشروعة دون ضغط أو اضطهاد، ولا يعلم إلا الله وحده كيف وصل هؤلاء الرجال إلي ما هم عليه، وكم من أساليب الاضطهاد وقعت عليهم حتى وصولهم إلي القمة المادية ثم كم من ملايين الجنيهات أنفقت في الرشاوى وشراء ذمم الكبار والصغار للحصول علي حقهم الشرعي.
وحين تتضارب التعريفات والشروحات لكلمة أو حالة معينة تضيع القضية وتختفي الحلول ويصبح الأمر مثار جدل لفظي خاوي المحتوى ويبقى الحال علي ما هو عليه ويظل المضَطهد مضطَهداً والمضطِهد مضطِهداً.
لذا قررت أن أبحث عن تعريف لكلمة “اضطهاد” في القواميس والموسوعات ومواقع الإنترنت لتوثيق ما يحدث في مصر والبلاد العربية ضد المسيحيين، والحق يقال أن المسيحيين في مصر ليسوا الفئة الوحيدة المضطهدة بل كل الفئات غير الإسلامية السنية هي فئات مضطهدة. وللإنصاف أيضاً والأمانة الصحفية أقول أن رجل الشارع العادي حتى من المسلمين السنيين يقع عليه نوع آخر من الاضطهاد، لكن تتفاوت طبيعة الاضطهاد وشدته ومدته من فئة إلي فئة حتى أن الاضطهاد الذي يقع علي أحدها يحسب رفاهية وحرية بالنسبة لما يحدث مع الفئة الأخرى، وواضح أن أسوأ وأشد وأطول نوع من الاضطهاد يقع علي فئة المسيحيين في الشرق الأوسط وخاصة بمصر.
وإليك عزيزي القارئ ما توصلت إليه في بحثي عن تعريف لكلمة اضطهاد ومرادفاتها في القواميس والموسوعات، الاضطهاد هو:
1- جهد الحكومة أو جماعة ما لإسكات أو إرغام مجموعة علي الطاعة والخضوع لها بكسرها القوانين الطبيعية والأخلاقية في البلاد.
2- التمييز الديني أو العرقي بين جماعة وأخرى برفع أحدها وقمع الأخرى.
3- إساءة المعاملة بسبب الاختلاف في الرأي أو الدين أو الأصل.
4- المضايقات المستمرة.
5- محاولة إذلال شخص أو جماعة ما وخاصة إذا كانت ضعيفة وفي وضع يسهل تدميره.
6- وضع شخص ما أو جماعة تحت ضغط نفسي أو عقلي أو بدني عن طريق إيذاء جسدي أو لفظي متكرر أو اقتحام مكان ما يضم فرداً أو جماعة لممارسة هذه الضغوط .
عند قراءتي لهذه التعريفات الست لكلمة اضطهاد وكتابتها في هذا المقال فكرت أن أكتب بعدها عبارة “بدون تعليق” وأترك لك عزيزي القارئ أن تسرح بفكرك لتقرر بنفسك إن كان المسيحيون مضطهدين أم لا، وأترك لك استنباط أشكال الاضطهاد المختلفة ومعرفة طرق مواجهتها، لكن لإيماني أن أولئك الذين أغلقوا عقولهم عن التفكير السليم والذين كذبوا علي أنفسهم والمحيطين بهم بأن المسيحيين ليسوا مضطهدين وكذبوا لمدة طويلة حتى صدقوا أنفسهم وصدقهم من حولهم لا يصلح معهم سوى الدق علي عقولهم المتحجرة بمطرقة الحقائق حتى فتحها أو تكسيرها إن أمكن، لكي يفضح كذبها وغشها ومداهنتها وليها للواقع والحقائق الثابتة.
والمجال هنا غير متسع للكتابة في هذه التعريفات الست والأمثلة والأدلة علي وجودها جميعاً بشتى الطرق والأنواع.
1- جهد الحكومة أو جماعة ما لإسكات وإرغام مجموعة علي الطاعة والخضوع لها بكسرها القوانين الطبيعية والأخلاقية في البلاد، فمن القوانين الطبيعية والأخلاقية التي فطرنا الله سبحانه وتعالى عليها أن يختار الإنسان دينه وطريقة عبادته لربه وتواصله مع إلهه، وليس لإنسان آخر علي الأرض أن يملي عليه أو يرغمه أو يخضعه أو يتدخل بين الإنسان وربه بأي شكل من الأشكال، لكن ما نراه اليوم هو العكس تماماً فالمسيحي المصري محاط منذ طفولته بكل وسائل أسلمته من مدرسي المدرسة، إلي الكتب التعليمية، إلي البرامج الإذاعية والتليفزيونية والكتب والقصص والروايات المصممة خصيصاً لهذا الغرض، والويل لمن يعترض علي هذا الحصار الإسلامي. المدارس الثانوية والجامعات مليئة بالمجموعات الدينية المتحكمة في سير الطلبة من خلال اتحادات الطلاب والنوادي الدينية التي تنتهي بالمسيحي إما بالمجاراة والمحاكاة والانخراط والمشي مع التيار وإما بالانسحاب والانعزالية وكراهية التعليم والإسلام والمسلمين، فتتسع الهوة بين الاثنين.
القوانين الوضعية والأخلاقية تحتم أن يكون هناك ميزان واحد يوزن به لكل فئات المجتمع، قانون موحد في العلاقات وممارسة الشعائر الدينية وبناء دور العبادة، هذا القانون الذي ما كان يستحق المناقشة في مجلس الشعب فهو بديهي لا ينبغي أن يختلف عليه اثنان لديهم من العقل والضمير والعدالة والمساواة أقل القليل، لكن لعشرات أو مئات السنين أسكتت الحكومات وأخضعت وأرغمت المسيحيين علي قبول قوانين مجحفة وغير عادلة وأجبرتهم علي الرضوخ للأمر الواقع حتى نسي المسيحيون حقوقهم واعتبروا ما تجود به الحكومات من فتات الحريات المتساقطة من مائدتها نعمة تشكر عليها المولى تبارك اسمه وكفى بالله وكيلاً.
2- التمييز الديني أو العرقي بين جماعة أو أخرى برفع أحدها وقمع الأخرى، وما أكثر الأمثلة علي هذه النقطة بالذات، فإذا صعد مؤذن للصلاة والوعظ والإرشاد يصرخ في الناس في الأتوبيسات والقطارات ويجبرهم علي الاستماع إليه وأخذ ما يوزعه عليهم من مواد دينية إسلامية، اعتبر هذا نشراً للدعوة ودعا لفاعله الكل بالتوفيق والثواب، وإذا شارك مسيحي إيمانه بسيد الخلق المسيح يسوع تبارك اسمه مع مسيحي أو مسلم في همس وعلي انفراد اتهمته السلطات بالتبشير، والتبشير في عرفهم رجس من عمل الشيطان وأقل ما يعمل معه هو القبض عليه وتعذيبه حتى لا يعاود التبشير مرة أخرى.
إذا اجتمعت فرق من الجماعات الإسلامية واخترقت خصوصيات الأماكن المخصصة للمكتبات المسيحية في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة ووقفت تحاور المسيحيين والمسلمين فتمنع المسلمين من دخول المكتبات المسيحية وتفرض آراءها علي المسيحيين بداخل مكتباتهم اعتبرت السلطات الأمنية هذا أمراً طبيعياً يكافأ عليه القائمون به، أما إذا أجاب مسيحي عن سؤال ملتح أو محجبة عن شخصية السيد المسيح تبارك اسمه أو قدم له كتاباً يشرح له ما استفسر عنه اعتبرته السلطات الأمنية تبشيراً للمسلمين وجريمة تستحق العقاب تماماً كما حدث مع شابين مسيحيين في معرض الكتاب هذا العام، تم القبض عليهما وحبسهما وتعذيبهما وتهديدهما أن لا يفعلا هذا المنكر مرة أخرى. وغيرها من الأمثلة التي تحتاج إلي مجلدات لحصرها وتدوينها.
3- إساءة المعاملة بسبب الاختلاف في الرأي أو الدين أو الأصل.
ثم
4- المضايقات المستمرة. أما إساءة المعاملة والمضايقات المستمرة فيواجهها ويومياً كل طالب مسيحي من المرحلة الابتدائية إلي نهاية الدراسة الجامعية. المدرس المسيحي موضوع تحت المراقبة اليومية لئلا يشارك أفكاره مع الطلاب، الموظف المسيحي مستثنى من الترقيات والإكراميات والعلاوات إلا ما تحتمه الظروف الخارجة عن يد رئيسه. تقديرات الطلاب المسيحيين لا يمكن أن تتساوى مع أولئك الذين هم أقل منهم ذكاء ومثابرة ودراسة، التعيينات الجامعية قاصرة علي غير المسيحيين، القضاة ووكلاء النيابة وظائف تمتنع علي المسيحيين، بعض التخصصات الطبية لا يسمح بالحصول عليها للمسيحيين، وإن تجرأ أحد المسيحيين ودخل لدراسة أحدها لابد له أن يمضي مدة أطول من زميله المسلم للحصول علي شهادة التخصص، إن حصل عليها من الأصل. النساء والبنات المسيحيات في كثير من قرى الوجه البحري غير قادرات علي الخروج من ديارهن دون ارتداء الحجاب كالمسلمات، وإلا تعرضن لكل أنواع الإساءة والإيذاء.
5- وضع شخص أو جماعة تحت ضغط نفسي أو عقلي أو بدني عن طريق إيذاء جسدي أو لفظي متكرر أو اقتحام مكان يضم فرداً أو جماعة لممارسة هذه الضغوط. وما أكثر الضغط النفسي أو العقلي الذي يعاني المسيحيون منه يومياً تقريباً، فإذا شاءت أقدارك أن تركب تاكسي لسائق مسلم وبمجرد أن يستشعر أنك غير مسلم فسيجبرك علي الاستماع للتسجيل الذي يكاد يسد أذنيك، والذي يذيع آيات مرتلة. وإذا أردت أن تتحدث في التليفون المحمول تجاهلك السائق وكأنه يقول لك “مش عاجبك انزل”. هناك ظاهرة إذاعة سورة مريم وبعض الآيات التي تصف المسيحيين بالكفر لأنهم يؤمنون ويقولون أن المسيح ابن مريم هو الله أو أنه ابن الله. وعندها ستجد نفسك مجبراً علي الاستماع فلو حدث وطلبت من السائق أن يخفض الصوت لنظر إليك بغضب وأكثرهم لا يمتثلون لهذا الطلب. عندما تحاول مشاهدة واحد من البرامج التليفزيونية الدينية تجد من يطل عليك بما لا تريد أن تشاهد أو تسمع.
إذا ذهبت إلي قسم البوليس للمطالبة بحق مغتصب، أو الإبلاغ عن ابنة مختطفة أو مختفية أو محاولة فك الاشتباك بينك وبين مواطن مسلم فأنت (واليعاذ بالله) من الخاسرين، فستجبر علي التوقيع علي ورقة بعدم التعرض للطرف المسلم، أو للابنة المختفية أو المخطوفة، وستجد نفسك في لحظات متهماً ثم مداناً ثم مطارداً بالرغم من أنك صاحب حق ضائع أو ابنه مختطفة. إذا كنت قسيساً في كنيسة فسيمر عليك رجل البوليس السري المعين لمنطقتك ليسألك عن من دخل كنيستك من كبار وصغار وكافة نشاطاتك ثم يأخذ المعلوم ويذهب ليعود لك في أقرب وقت ممكن.
أما إذا أردنا أن نصلح من هذا الوضع الحقيقي لمسيحيي مصر والشرق الأوسط فعلينا أن نبدأ من وسائل الإعلام أولاً، لماذا لا يتعرف كل منا علي دين الآخر وتعاليمه من الإذاعات والتليفزيونات، لماذا يحاط المسيحيون بكل ما هو إسلامي طوال اليوم كل يوم، لدرجة أن أكثرنا قد حفظ سوراً كاملة من القرآن عن ظهر قلب، بينما لا يسمع المسلمون عن المسيحيين وعن معتقداتهم إلا كل ما هو مشوه وكاذب من أناس إما يجهلون ما هي المسيحية أو من مغرضين لا يقبلون العيش مع من يخالفهم في العقيدة والدين والآراء. لماذا لا يخصص وقت يومي في الإذاعات والتليفزيونات لبرامج مسيحية مسالمة هادفة لشرح ما هي المسيحية لغير المسيحيين، لماذا لا تبدأ الإذاعات والتليفزيونات بثها اليومي بدقائق من قراءات كتابية وأقوال السيد المسيح الذي يقول المسلمون أنهم يؤمنون به تماماً كما يؤمنون بنبيهم فهم لا يفرقون بين النبيين. أليس من الرائع أن يبدأ الإرسال بآيات من الإنجيل مثل: “أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم..” أو “لا تهتموا بشىء بل في كل شىء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدى الله وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع”. ألا تهدئ هذه الآيات والكلمات من أعصاب العباد المحترقة طوال اليوم وتعطيهم الأمل والرجاء في البركة والسلام طوال يومهم. ألا تزال السلطات مصرة علي عدم إعطاء مساحة من الوقت للبرامج الدينية المسيحية بالرغم من وجودها ودخولها كل بيت من خلال الستالايت والفضائيات، أليس من الرائع أن ينهي يومه بالاستماع إلي “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب”. ألا يوضح هذا إذا أتيح في إذاعاتنا وتليفزيوننا أن الدولة تزن بنفس الميزان لكل مواطنيها. ألا يدفع المسيحيون الضرائب تماماً كما يدفع المسلمون فلماذا تؤخذ نقود المسيحيين للصرف علي البرامج الإذاعية والتليفزيونية الإسلامية ولا يصرف جزء منها علي برامج مسيحية. ألا يسمح التليفزيون المصري بشرح بعض الآيات الغامضة التي يعسر علي غير المسيحيين فهمها في برامج مسيحية لعدة دقائق يومية حتى يزول اللبس وتقترب النفوس من بعضها وحتى لا نعطي فرصة للمغرضين بإثارة الفتنة والاستمرار في الاضطهاد المسيحي. لماذا لا تخصص الحكومة المصرية إذاعة تسميها إذاعة الإنجيل الكريم كما هو الحال مع إذاعة القرآن الكريم، ألا يستحق أربعة عشر مليون مسيحي في مصر أن تكون لهم مثل هذه الإذاعة حتى لو طلب من المسيحيين تمويل هذه الإذاعة من أموالهم الخاصة دون الاعتماد علي مصادر الدولة، أليس اضطهاداً أن يُحرم المسيحيون في كل هذا ويمارس ضدهم كل هذه الأنواع من الضغوط ثم يتشدق المسئولون بأنه ليس هناك اضطهاد.
اللهم إننا نشكرك لأجل قضائك ونثق في عدالتك وحكمتك، اللهم إننا نرفع شكوانا إليك، ونحتمي من غضبك بك، ونسأل عفوك وغفرانك، اللهم أعطنا القوة علي تحمل الاضطهاد، والشجاعة علي المطالبة بحقوقنا، والصبر علي ما يحيط بنا فإنك وحدك السميع العليم يا رب العالمين آمين.