العدد 63 الصادر في ديسمبر 2010 الإنسان المشكلة والضحية والحل
الإنسان هو تاج خليقة الله سبحانه وتعالى، وهو مركز الدائرة في فكر المولى جل وعلا، وهو المشكلة والجاني والمجني عليه، وفي يده الحل لكل المشاكل كبيرها وصغيرها. نعم الإنسان هو المشكلة والضحية والحل.
الإنسان هو المشكلة، لأن كل ما يحدث في هذا الكون من حروب وكروب وقلاقل وقتل وظلم واغتصاب واضطهاد وغطرسة وكبرياء وغيرها إنما هو نابع من قلب الإنسان جار إلى يده ولسانه المنفذين لما يدور بعقله وقلبه خيراً كان أم شراً، منطقياً كان أم غير منطقي، سواء بمحض إرادته أم بالإجبار عن طريق الشيطان الرجيم.
وليس هناك جديد في الأرض منذ خلق المولى آدم وحواء إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة ويوم الحشر العظيم، فكل تصورات قلب الإنسان إنما هي شر كل حين. ففي الجنة جلب الإنسان على نفسه العقاب والشر والفساد والمعاناة المستمرة بتصديق غواية الشيطان وشكه وعدم طاعته لوصايا المولى تبارك اسمه وأكله من الشجرة المحرمة. وأدخل طرقه الخاصة لحل مشاكله التي كان هو السبب المباشر فيها.. حلول بشرية إنسانية نابعة من قلبه الشرير لإصلاح حاله والتوافق مع نفسه وأخيه الإنسان والمولى عز وجل، وكلها تخالف وصايا المولى وقوانينه الطبيعية التي خلقها في الإنسان وصممه على العمل بها. فعندما أخطأ الإنسان فسد المنطق السليم في ذهنه وعمل ما هو عكسه تماماً. فالطبيعة الإنسانية الأولى التي وهبها المولى للإنسان قبل السقوط هي أنه عندما يخطئ، إن أخطأ الإنسان، لابد له من الاعتذار وتدارك ما أفسده بأن يلجأ لله سبحانه وتعالى خالقه وجابله من العدم لحل مشاكله، ويظهر فساد منطق وعقل الإنسان بوضوح بعد سقوطه، فبدلاً من المجيء إلى الخالق لمشورته في كيفية إصلاح ما فسد هرب آدم وحواء من وجه الإله، وبدلاً من يجروا إليه جروا بعيداً عنه.
وعندما أدركهم تبارك اسمه وسألهم عن عصيانهم وأكلهم من الشجرة المحرمة فبدلاً من أن يعترفا بالخطأ تبادلا الاتهامات والتملص من المسئولية، وألقاها كل على غيره، ولم يعترفا بخطئهما.
وإنه لضد تعاليم المولى تبارك اسمه أن نؤمن بأنه سبحانه كلم آدم وحواء بكلام فتابا عليه فتاب عليهما وغفر لهما. وعندما اكتشفا أنهما عريانان فبدلاً من أن يسألا الخالق كيف تستر عوراتنا؟ وهما من لم يكن لديهما أية خبرة في ستر العورات ولا رأوها من قبل، قررا التصرف من ذاتهما وكأنهما في غنى عن المولى الكريم فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر، لكن هيهات لأوراق التين الطالعة من الأرض الملعونة أن تستر عورات الإنسان وضعفه وشره أمام المولى، فألبسهما القدير أقمصة من جلد الذبيحة المقدمة عنهما، وبدلاً من أن يرى ابناهما قايين وهابيل شناعة ما حدث لأبويهما فيسيران في طريق الحق سبحانه وتعالى ويحاولان التمسك بطاعته ووصاياه بأن يقدما ذبائح يرتضيها، قدم قايين من نتاج فكره الفاسد من ثمار الأرض تقدمة للمولى الغني المالك لكل شيء، فرفضها الحكيم العليم وقبل ذبيحة هابيل أخيه التي تمثلت في واحدة من سمان غنمه ليس إلا، وبدلاً من أن يقوم قايين ويذهب للمولى أرحم الراحمين ويسأله كيف يصلح خطأه فيعود ويقدم ذبيحة من الأغنام ليرضى عنه المولى، قام قايين على أخيه وقتله، وحتى بعد قتله لأخيه بدلاً من أن يحاول أن يعترف بخطئه ويتوب إلى الله ويطلب صفحه وغفرانه أخفى أخاه في تراب الأرض من عيني من له عينان تخترقان أستار الظلام، وعندما سأله المولى عن أخيه تمادى في كذبه وإخفائه للحقيقة وأجاب المولى في بجاحة ووقاحة: “أحارس أنا لأخي؟”، وهكذا توالى شر الإنسان من إنسان لإنسان، حتى نظر المولى من السماء وقرر وقال نهاية كل بشر قد أتت أمامي، وأوحى لنبيه نوح فبنى فلكاً، ورفض الإنسان تصديق رسالة نوح الكارز بأن المولى سيغرق العالم كله بالطوفان فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم، وظل الإنسان في جهله يتصرف بغبائه وكبريائه وجهله المعهود حتى أهلك تبارك اسمه الأرض وما فيها ومن فيها بالطوفان، وخرج نبي المولى نوح وزوجته وثلاثة من بنيه وزوجاتهم وابتدأ عهد جديد على الأرض، بدأ بتقديمه الذبيحة وتكاثر الإنسان على الأرض ولكنه عاد إلى نفس طريق أبويه الأولين وقرر أن يحل مشكلة قلبه الخداع النجيس بنفسه بعيداً عن المولى تبارك اسمه، فقرر أن يبني برجاً في بابل ظن أن قمته تقترب من السماء، حتى إذا ما قرر القدير أن يهلك الأرض ومن عليها مرة ثانية يكون الإنسان في مأمن ببرجه المرتفع وكأنه الدودة تقف ضد خالقها وتساوي نفسها به وتخطط ضد أفكار من قيل عنه سبحانه: “ما أبعد أفكاره عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء”. بعدها بلبل المولى ألسنة الإنسان فتفرق الإنسان في الأرض. ثم أرسل الله نبيه موسى وأنزل التوراة التي فيها هدى للناس ورحمة، وأنزل فيها شريعة الذبائح كإشارة للذبيح العظيم شخص المسيح الذي قدم نفسه لله مرة واحدة فوجد لنا فداء أبدياً وأعطى العليم بكل شيء الناموس والوصايا للإنسان فكسرها الإنسان ولم يحفظها حتى أن لوحا الشريعة اللذين كتبهما المولى تبارك اسمه بإصبعه كسرهما موسى كليمه من فرط غيظه من غلاظة قلب الإنسان، وكإشارة منه لكسرهما أدبياً بواسطة الإنسان على مر العصور والأزمان.
وأخيراً، قرر الرحمن أن يرحم الإنسان فأرسل آدم الثاني، الإنسان يسوع المسيح من السماء الذي فيه كانت الحياة، والذي قدم نفسه ذبيحة لله، وكل من آمن به وقبله منحه المولى تبارك اسمه سلطاناً أن يصير ابناً لله. وبدلاً من الاعتراف بالخطيئة والرجوع إلى المولى تائباً محتمياً في دم الذبيح العظيم، أعاد الإنسان تكراره لنفس الغلطة الشنيعة ورفض فكرة الذبيحة تماماً، كما رفضها آدم وحواء لستر عوراتهما فخاطا أوراق التين، وكما رفضها قايين وقدم قرباناً من ثمار الأرض، وكما رفضتها الغالبية العظمى ممن بلبل الله ألسنتهم فتفرقوا في الأرض، فظهر من أعلن عن رفضه ورفض ديانته لذبيحة المسيح بالقول: “ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم” فانقسمت الأرض إلى قسمين كبيرين بينهما عدد قليل- بالمقارنة بتعداد الفريقين- من يؤمنون بالذبيحة وعملها الكفاري، ومن يرفضونها من كل قلوبهم وعقولهم ومنطقهم، فاصطدم الاثنان منذ قيام الفريق الثاني وسيظل الصدام قائماً إلى أن تقوم الساعة. وبدلاً من أن يترك من لا يؤمن بالذبيحة وعملها الكفاري أخاه الذي يؤمن بها في حاله، نراه حتى اليوم يقوم على أخيه ويقتله، ويعمل بكل قوته على هدم مذابح أخيه، لأنها تذكره وتؤرقه بفكرة الذبيح العظيم، ويتهم كتاب أخيه بالتحريف والتزوير لا لشيء إلا لأنه ينص على أن هناك ذبيحاً وذبيحة، وبدونها لن يستطيع الإنسان أن يستر عورته وأن يتصالح مع الله وأن يرضى عليه المولى سبحانه مهما قدم الإنسان من طاعة وتمم الفرائض وأقام الصلاة وآتى الزكاة وكل أركان الأديان المخالفة لفكرة الذبيح العظيم وحقيقة تقديمه نفسه لأجلنا.
لقد توارد على ذهني كل هذه الأحداث والتاريخ والتحليلات للمواقف المشينة للإنسان وتاريخه الأسود في رفض الآخر وقتله والتنكيل به عندما رأيت وشاهدت واقعة الاعتداء على كنيسة السيدة العذراء والملاك ميخائيل بالعمرانية. سألت نفسي أين هي المشكلة في هذه القصة، بل وفي كل ما شابهها من مشاكل؟ وكان الجواب: الإنسان، الإنسان هو المشكلة. لأنه كما أطاع آدم وحواء غوايته في الجنة أطاعه الإنسان ويطيعه حتى اليوم وسيظل يطيعه حتى قيام الساعة. فأي منطق هذا الذي يستخدمه الإنسان متمثلاً في قائد ديني أو رئيس حي أو مهندس في البلدية أو محافظ لمدينة أو قائد لجماعة عسكر يتم انتقاؤهم بطريقة معينة من ناحية الدين والخلفية والشخصية الفعلية ويعدون إعداداً خاصاً لإطاعة وتنفيذ الأوامر مهما كانت هذه الأوامر، حتى ولو كانت ضرب بيت من بيوت الله تقام فيه الصلوات ويذكر فيه اسم الرحمن.
ففي منطقة مبان عشوائية يبنى فيها البشر كما يشاءون وكيفما يشاءون، وعند تحري أحد مهندسي الحي “لسبب أو آخر” واكتشاف مخالفات المباني في هذه المنطقة، يتم عمل محضر صوري للمخالف، ويتصالح فيه المالك مع الحي بدفع غرامة مالية تافهة لا تتناسب مع حجم المخالفة أو ما تدره هذه المخالفة من أموال طائلة على المالك، وتظل البناية قائمة بحكم القانون والتصالح. وفي مكان للخدمات لمبنى كنيسة بدأت فيه المباني منذ أكثر من أربعة شهور وتمت الصلاة به لأكثر من شهرين تقوم القيامة وتنزل قوات الأمن بقيادة أربع لواءات على الأقل، يتقدمها حكمدار المحافظة، للاشتباك المسلح بالقنابل المسيلة للدموع والطلقات المطاطية لإيقاف البناء لهذه الكنيسة، لأنها مخالفة لبنود الترخيص الممنوح لها. لقد ذكرنى هؤلاء اللواءات وهذا العدد الهائل من جنود الأمن المركزى الذين تواجدوا حول الكنيسة بالمشهد المضحك للفنان عادل إمام فى مسرحية الزعيم عندما ذهب مدير عام المخابرات ليقبض عليه، وهو الأعزل الفقير المسكين، بعشرات من قوات الأمن فتساءل عادل إمام فى سخرية منهم قائلاً: “امال مين اللى على الجبهة’” إذاً إن كانت كل هذه القوات قد جاءت للقبض عليه) والمشكلة هي في الإنسان، أي إنسان، هذا الذي قرر هذه الخطوة المشينة، ما هي مواصفاته؟ ومدى حكمته وحكمه على الأمور وحسابه للعواقب والتبعيات المترتبة على هذه الغزوة العسكرية. أي إنسان هذا الذي يأخذ قراراً مثل هذا وفي مثل هذا التوقيت؟ فمنذ نعومة أظفاري وأنا أعلم أن 90% من الكنائس في مصر ليس أمامها طريقة أخرى للحصول على موافقة أمنية أو جمهورية بالبناء إلا بهذه الطريقة، وأتحدى أن يكون هناك طائفة واحدة في مصر أو مذهب واحد من أي طائفة ليس لديه كنيسة أو أكثر بنيت بهذه الطريقة، وهي أن يبنى المبنى على أنه مصنع أو دار للخدمات أو دار للمناسبات، ثم تشتريه الكنيسة من المالك الباني وتبدأ في الصلاة فيه، ثم ينتظر لعشرات السنين حتى يحصل على ترخيص. ومنها ما تم غلقه حتى اليوم، ورفضت السلطات إعطاء التراخيص بمزاولة الصلوات فيه. ولو كانت هناك طريقة أخرى آمنة وسريعة للحصول على مثل هذا الترخيص بإنشاء دور للعبادة لاتبعها المصلون المسالمون وكفوا أنفسهم شر القتال والغاز المسيل للدموع واستخدام الطلقات المطاطية وأكوام الحجارة. نعم، الإنسان هو المشكلة.
مادام الإنسان هو المشكلة أفليس هناك حل أو علاج لهذه المشكلة؟ الحقيقة أن الإنسان هو المشكلة، لكنه في نفس الوقت هو الضحية أيضاً لهذه المشكلة، فاستخدام مثل هذا العقل والقلب واللسان والأيدي الإنسانية المدفوعة بالعديد من المؤثرات والعوامل الخارجية، وخاصة قوة الوسواس الخناس والأرواح الشريرة وخاصة روح رئيس مملكة فارس الذي كتبت عنه مقالي في العدد الماضي، كل ذلك يجعل من الإنسان أيضاً ضحية وليس فقط سبباً لهذه المشكلة. ولكي لا يصبح الإنسان ضحية، يحتاج الإنسان إلى عدة عناصر تقاوم وتتضاد وتوقف عمل المؤثرات الخارجية التي تدفعه لمثل هذه التصرفات الشريرة وغير المنطقية.
أولها: يحتاج الإنسان إلى وازع ديني وكتاب سماوي صميم كتب بفكر المولى تبارك اسمه حتى لو لم يتوافق مع فكر الإنسان الذي هو المشكلة والضحية، كتاب واضح بسيط صريح لا يناقض بعضه بعضاً، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في كل أسفاره أو سوره وآياته، كتاب لا ينزل فيه العليم الحكيم حكماً ثم يعود فيغيره أو ينسخه، وتكون وصاياه وأحكامه ملزمة للإنسان، وأن لا يترك فرصة للإنسان ليفسره على هواه وفقاً للمواقف المختلفة والمصالح الطائفية والسياسية، كتاب يأمر الإنسان أن يحب أعداءه ويبارك لاعنيه ويحسن إلى مبغضيه وأن يصلى للذين يسيئون إليه ويطردونه ويضطهدونه، كتاب يأمر الإنسان أن يحب الآخر كنفسه، يعلن فيه المولى تبارك اسمه عن نفسه ليس كالعظيم الجبار القدير الماكر المضل فحسب بل أيضاً كالمحبة المتجسدة والتي تعطي للإنسان القدرة على المحبة بالرغم من صعوبة تطبيق الوصايا، كتاب يحترم إرادة الإنسان ويضع الحياة والموت أمامه ويحضه على أن يختار الحياة فيحيا، كتاب يضع أمام الإنسان الثواب والعقاب ويعلم الإنسان أن الحياة الأبدية في نعيم أعده المولى للمتقين لا علاقة لها بأعماله وقدرته على شراء الجنة أو النعيم، فالحصول على النعيم الأبدي غير مشروط بتعذيب النفس، أو قتل أكبر عدد ممكن من الكفار في طريق نشر أي دين، كتاب لا يرغب الناس في النعيم بحور عين ولا عسل وتمر ولبن وخمر، بل بالتواجد في محضر الله القدوس الجميل الرقيق الخدوم، كتاب لا يمجد البطولات والغزوات والفتوحات والقتل وسلب الغنائم والضغينة للأعداء ودفع الجزية عن يد الضعفاء المقهورين وهم صاغرون، كتاب لا يشجع أمة بذاتها أو شعباً بذاته على أنه خير أمة أخرجت للناس، كتاب لا يصور الله أنه يحب المؤمن القوي أكثر من المؤمن الضعيف، ولا يأمر بضرب النساء تحت أي سبب من الأسباب، أو يطلب من الإنسان أن يناصر أخاه الظالم.
ويحتاج الإنسان في هذا المقام الديني إلى رعاة وقادة ومعلمين يفسرون الحق بالاستقامة ويشرحون للإنسان البسيط الذي هو المشكلة والضحية في نفس الوقت ما يخفى عليه من خبايا الأمور الدينية، وأن يتقوا الله فيما يعلمون الإنسان.
يحتاج الإنسان أن يرى مؤسسي الأديان وخلفاءهم وقد عملوا وتمموا ما علموا تماماً كما قيل عن سيد كل الخلق: “عن جميع ما ابتدأ يسوع يعمله ويعلم به”، فلا يعلمون عن المحبة وهم الكارهون، ولا يعلمون عن العفو وهم المنتقمون، ولا يعلمون عن التسامح ويضعون من الشروط في التعامل مع أهل البلاد المقهورة والمفتوحة ما يسلبهم حريتهم وحقهم في العبادة بل وآدميتهم في كثير من الأحيان. قادة ومعلمون لهم من المبادئ الثابتة التي لا تتغير وتتقلب وفقاً لمتطلبات المواقف فإذا تطلب الموقف هادنوا وكمنوا وأحسنوا الكلام والتصرفات، وإذا قووا ظهر الحقد والضغينة والقتل والغدر والاضطهاد. قادة يزنون بميزان واحد يطبقونه على أنفسهم أولاً ثم يطبقونه على كل قبيلة أو أمة وشعب ولسان. وإن لم يستطع الدين أن يغير الإنسان فيكون الاحتياج الثاني للإنسان هو نظام واحد واضح بسيط لا لبس فيه ولا غموض، يطبق على كل الناس في كل المواقف دون التفرقة أو التمييز بسبب الدين أو اللون أو الجنس أو العقيدة، وهذا النظام يوضع في صورة قوانين ملزمة للكبير والصغير، للحاكم والمحكوم، للوزير والغفير، للغني والفقير، قانون يحترم ويلتزم الجميع بطاعته. لقد سألت نفسي عن هذا النظام الموحد في مثل هذه الأحداث التي من بينها الاعتداء الأمني على كنيسة العمرانية، هل هناك من نظام؟ هل يمكن أن نعلم من هو المسئول عن هذه الأحداث ليحاسبه الشعب إن سلباً أو إيجابياً، أهو مهندس الحي، أم رئيسه؟ أهو المحافظ أم قادة الجيش المحارب؟ ما هو النظام الواجب اتباعه في مثل هذه الحالات؟ ماذا لو كان ما يبنى في العمرانية هو مسجد بناه المحسنون على هواهم مخالفين رخصة المباني، هل كان المهندس المسئول سيحرر لهم محضراً ويتجرأ رئيس الحي ويوقف بناء المبنى؟ هل كانت ستحيط بالمسجد جحافل الأمن المركزي؟ وإذا تعامل المصلون مع قوات الأمن بالحجارة، هل كانت القوات ستتعامل معهم بالغازات المسيلة للدموع والطلقات المطاطية؟ وماذا لو مات أحد المصلين أو البانين للمسجد؟ لقد قامت الدنيا ولم تقعد لأن سويسرا البلد غير الإسلامي رفضت بناء المآذن واستخدام مكبرات الصوت، مما دعى القذافي لتهديد كل المسيحيين في العالم العربي، حاضاً الحكام العرب على تقييم وضع المسيحيين في بلادهم وفي قراراتهم بالسماح لهم ببناء الكنائس، وهنا تحدث هذه المهزلة لأجل بناء سلم داخلي في الكنيسة أو قبة لا ترتفع أكثر من مترين على هذا المبنى.
وماذا إذا لم يحترم الإنسان القانون العادل الموحد الملزم للجميع سواسية؟ هنا يأتي الاحتياج الثالث للإنسان وهو بوليس ليس له طائفة أو دين، ولا يتحرك وفقاً لأغراض واستحسانات شخصية أو أوامر مغرضة لحماية طائفة من الشعب أو القادة، بوليس يكون حقيقة في خدمة الشعب كل الشعب في كل وقت، لأنه هو أولاً وأخيراً جزء من هذا الشعب، بوليس يطبق القانون على نفسه أولاً ويحترمه هو أولاً، ويحاسب المخطئين من قياداته وأفراده كما يحاسب عامة الناس الفقراء المساكين، بوليس لا يسأل الظالم أو المظلوم عن ديانته، بوليس لا يؤمن بانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فبينما يسمع بكل آذانه إهانة الآخر من مكبرات صوت تصم الآذان بعلوها ولا يتحرك بل يخلع غطاء رأسه والمثبت عليه النسر شعار مصر وكل المصريين لينحني ويصلي خلف هذا الذي يكيل الإهانات ويرفع الدعوات للمولى لييتم أولادهم، وليرمل نساءهم، وينعتهم بالكافرين، دون أن يتحرك له ساكن، لكنه في نفس الوقت يكمم الصارخين من الظلم، ويضرب قاذفي الحجارة بالقنابل والطلقات.
أما آخر وأهم ما يحتاجه الإنسان ولا يمكن أن يتحقق في حياته كل ما ذكرت سابقاً بدونه فهو أنه يحتاج إلى تغيير كامل وشامل، أن يصبح خلقية جديدة ذات طبيعة جديدة، وأهداف جديدة، قلب جديد وضمير جديد، فيصبح هو ليس فقط المشكلة والضحية لكن يصبح هو أيضاً الحل. فإنه إن لم يقبل الإنسان هذه الطبيعة الجديدة والخليقة الجديدة فسيظل الإنسان على ما هو عليه وستظل مصر على ما هي عليه وستزداد الكراهية والعداوة بين أهلها، وستتطور طرق تعبير الإنسان عن نفسه من صمت الهابطين للهاوية، إلى همس في السر، ثم في العلن، ثم إلى مظاهرات وهتافات سلمية داخل أسوار الكنيسة، ثم إلى مظاهرات صاخبة خارج الكنيسة في الشوارع والميادين، ثم إلى احتجاجات ومظاهرات عنيفة باستخدام الحجارة كما رأينا هذا التطور في تعبير المسيحيين عن أنفسهم، وأرجو أن لا يتطور الأمر إلى استخدام الأسلحة الحية، ثم الكمائن والخطف والنهب وتكسير المحلات وإشعال الحرائق وسد الطرق بالمتاريس وما يشتعل من الكاوتشوك والمخلفات، ثم يبدأ عصر آخر من الشهداء الصغار الذين يظنون أنهم بقتلهم أعداداً ممن يخالفونهم ويغلقون كنائسهم أو يقفون ضدهم سيضمنون النعيم الأبدي وسيكونون له شهداء عند ربهم يرزقون. ومع أن كل ما ذكرت من درجات الاحتجاج ليس من تعاليم المسيحية في شيء إلا أنه تطور طبيعي ودرجات لسلم قد يرى البعض حتمية اعتلائه إلى آخر درجة حتى يقضي المولى أمراً كان مقضياً، حمانا المولى وحمى مصر مما سيأتي عليها.
اللهم افتح عيون رؤسائنا وقادتنا لما ينتظر مصرنا، وارحمنا من تصاعد الأحداث وتعبيرنا عن نفوسنا. اللهم أعطنا أن نحب الآخر كنفوسنا، وأن نعطيك الفرصة لخلق قلوب جديدة في أعماقنا، فأنت سيدنا والضامن لمصيرنا. اللهم قنا ومصر شر الفتن والخصومات بيننا، وامنح قادتنا حكمة للتصرف في شئوننا، وقيادة بلدنا لما فيه سلامنا وخيرنا، فأنت إلهنا وربنا.