من المسلمات البديهية التي تتصدر أي مشهد تعليمي أو ثقافي أن التعليم من أنجح بل أنجع الوسائل المهمة والحصرية في تغيير المجتمعات وإعلاء نهضتها، هذا ما نتفق عليه من وعينا الأول بالمدرسة، وفي مصر منذ أسابيع شهدت المحروسة ثمة تغييرات تعليمية تحت مظلة التطوير والتجديد والتحديث مفادها إعادة هيكلة الثانوية العامة الجديدة بثوب جديد ورؤى مغايرة لما هو سائد منذ عقود بعيدة، والبداية تفي بأنه لا يوجد مقترح يتعلق بالعقل والتفكير ومن ثم التعليم سيحظى بنسبة اتفاق مائة بالمائة فهذا ضرب من التخييل أو من العبث واللامنطقية، لأننا لا نتفق فيما بيننا على ما هو أقل قيمة وأهمية مثل الأزياء والموسيقى والشعر وصنوف الأدب، بل أننا نجد آلاف الأطباء لا يتفقون فيما بينهم على مدى جدوى عقار أو دواء بعينه لعلاج مرض ما.
ودون الدخول في تفاصيل تبدو مرهقة أحيانًا ومملة ومكرورة أحيانًا أخرى تتعلق وتتصل بإحداثيات وتفاصيل ومشاهد تعيين وزير جديد للتربية والتعليم السيد محمد عبد اللطيف، أرهقت وسائل الإعلام والمنصات التفاعلية بشأنها، فالأهم أن فكرة إعادة الهيكلة جاءت كإجابة سريعة لسؤال مستدام وهو: كيف نعيد الطالب إلى المدرس؟. ورغم أن هذا السؤال بحق هو محض يقين بسبب عوامل شتى تعليمية وسياسية واقتصادية واجتماعية، إلا أن القرارات التي تتابعت وتزامنت مع تولي الوزير منصبه الوزاري والمشهد الاجتماعي وليس التعليمي المتصل بالمعلم أو بمنظومة التعليم الرسمية جاء مضطربًا حينًا، وساخطًا حينًا، وراضيًا حينًا آخر.
فالقرارات التي تعلقت بتخفيض عدد المقررات التي سيدرسها الطالب بالتعليم الثانوي أو بتغيير طبيعة بعض المقررات وتحويلها إلى معارف تثقيفية لا أكثر ولا أقل مثل اللغة الأجنبية الثانية منهم من يرى أنها أعادت الطمأنينة إلى الأسر المصرية التي طالما اعتبرت الثانوية العامة كابوسًا يؤرقها ليل نهار. وبعض الأصوات الإعلامية غير المحسوبة على القطاع التربوي ارتأت أن قرارات وزير التربية والتعليم بشأن مواد دراسية كالفلسفة والمنطق وعلم النفس ودمج الأحياء والكيمياء والفيزياء في مقرر واحد تحت مسمى (العلوم المتكاملة) هي قرارات تعليمية نبعت من الواقع والزيارات الميدانية بل اعتبر بعض الإعلاميين أن تلك الخطوات الجريئة جاءت لأول مرة من الميدان إلى الديوان، أي من خلال استقراء ميدان التعليم الفعلي إلى كرسي الوزارة بديوان عام وزارة التربية والتعليم.
فيما أقرت وزارة التربية والتعليم عبر كافة وسائل الإعلام بشتى أشكاله أن دواعي التطوير جاءت استجابة لمشكلات تعليمية منها كم المعلومات التي يدرسها الطلاب ولا يقومون بتطبيقها في واقعهم فهي مجرد ثقافة عامة لا تسمن ولا تغني من جوع. فضلًا عن أن إعادة الهيكلة جاءت كرد فعل لتوغل وتوحش ظاهرة الدروس الخصوصية التي أفسدت التعليم وأثقلت كاهل الأسر المصرية المسكينة. وأن ثورة التطوير لمواجهة تحديات ظاهرة وغامضة في التفسير والتأويل مثل زيادة عدد الطلاب داخل الفصول والمعروفة بالكثافة الطلابية داخل الفصول، والعجز الصارخ في عدد المدرسين، وأخيرًا وجود عبء بالمقررات الدراسية التي تعج بالمعلومات غير الوظيفية أو غير المتزامنة مع الواقع المهني والمستقبل الآتي للطلاب، أو من حيث كم البيانات والمعلومات بتلك المقررات.
وتدافع كثيرون من أقطاب التربية في التأكيد على أهمية هذه الهيكلة لأنها تؤكد وظيفية المعرفة وأنه لم يعد الوقت كافيًا للاستسلام لظواهر الرسوب الجامعي لطلاب كليات الطب الحاصلين على تفوق وهمي في الثانوية العامة، علاوة على أن هذه الإعادة لنظام التعليم الثانوي هي نقطة انطلاق حقيقية لإيجاد تعليم ممتع يحقق المتعة والإمتاع للمتعلم في أثناء تعلمه ودراسته داخل وخارج قاعة الدراسة المتهمة بإبعاد الطلاب عن المدرسة.
وما غاب عن وزارة التربية والتعليم بمصر وكذلك المهتمين بالمشهد التعليمي هو المصطلح، والمصطلح في حقيقة الأمر هو أخطر مشكلات العقل العربي المعاصر، الذي لم يكترث يومًا ما بتحديد الفروق الجوهرية بين مصطلحات تطوير الخطاب وتجديده، التنوير والتثوير، الأثر والفاعلية، الفرض والفرضية، وهكذا وصل قطار المصطلح إلى محطات الإلغاء والإضافة والحذف والدمج، وهي حفنة من المصطلحات التي كان ينبغي على القائمين على تطوير التعليم الرسمي توضيح الفروق بينها لإزالة الغموض وعبث التأويل.
في حين أن وزارة التربية والتعليم تغاضت عن الاهتمام بتفسير المصطلحات المرتبطة بإعادة الهيكلة مكتفية بأن ما قامت به من حذف أو إضافة أو دمج مقررات كان بغرض الاهتمام بالكيفية، وبالكيف لا الكم، وبتكامل المعرفة وبتوظيفها لصالح المتعلم والمجتمع والوطن.
وقامت قيامة المنتقدين لإعادة الهيكلة وكيف يتم تهميش دور التاريخ والجغرافيا وعلم النفس والجيولوجيا واللغة الأجنبية الثانية، وزعم هؤلاء بأن التطوير المنشود أو المزعوم سيقضي على المواطن والوطن والوطنية أيضًا!.
هذا دفعني إلى استخدام التفكير الساخر مرة، والتفكير المتعاطف تارة أخرى مع نزعات وموجات النقد الموجه صوب الوزير ووزارة التربية والتعليم.
فالذين هاجوا وماجوا وانتابهم الفزع بشأن تهميش مقررات الفلسفة بالتعليم الثانوي هم أنفسهم الذي يطلقون على لاعب الكرة المصري محمد صلاح فخر العرب، في حين أن الفيلسوف والقاضي والمفكر ابن رشد هو الأحق بهذا الوصف والتوصيف.
وهؤلاء أيضًا الذين دخلوا في غياهب الدهشة بسبب الإنكار المتعمد لمادة الجغرافيا لم يعلموا أن كل معلوماتنا الراهنة عن إثيوبيا مثلًا بجانب سد النهضة أنها دولة ستقابل مصر أو أي دولة عربية أخرى في بطولة كروية لا قيمة لجوائزها. وأن النيل شريان الحياة لا يزال المصري الحديث والمعاصر والمستقبلي أيضًا يتعامل معه على أنه مكان لإلقاء المخلفات والنفايات وكل ما يدعو لتلويثه. رغم أن أقطاب تدريس الجغرافيا لم يدركوا ما كتبته في كتابي (الطريق إلى دمشق.. هل كل الخيارات تؤدي بسورية إلى تل أبيب؟) المنشور عام 2017 بشأن أن الجغرافيا أعلنت موتها بالفعل منذ ظهور مصطلحات مثل الكونية والعولمة والنظام العالمي الجديد.
وفي هذا الكتاب (الطريق إلى دمشق 2017) (ص37–40) ذكرت نصًا التنبؤ بموت الجغرافيا لتقاعس الجغرافيين أنفسهم بخريطة العرب وعدم الوعي بخطورتها في وقتها الراهن، فقلت: “ولأن الجغرافيا هو أول دروس الهوية والوطنية التي تعلمناها منذ الصغر في المرحلة الابتدائية، فإنه من الأحرى تنبيه الجغرافيين العرب بحقيقة قد تكون غير طيبة أخبارها وهي أن ثمة تحديات تزلزل عرش الجغرافيا العربية لاسيما منذ السقوط السياسي الذي أعقبه سقوط تاريخي في العراق وانتهى بإعدام الرئيس العراقي صدام حسين، ومن وقتها فالجغرافيا بعدما كانت خريطة ثابتة لا يمكن محو دلالاتها صارت اليوم نقطة تائهة في فضاء سياسي وإعلامي، هذا الفضاء يكرس جهده باستعار محموم تجاه طمس معالم الخريطة التي دأب الجغرافيون على رسمها.
وربما مصطلح “موت الجغرافيا” لم يكن جديدًا على المشهد الثقافي، فلقد تنبأ البعض بهذه الوفاة الاضطرارية، تحديدًا حينما زعم توفلر في سنة 1970 في كتابه “صدمة المستقبل” حيث قال إن تطور تكنولوجيا النقل والمواصلات ونمو الميديا المعرفية وتدفق الأشخاص المكثف أدى إلى نتيجة وهي أن المكان لم يعد مصدرًا رئيسًا وأساسيًا للتنوع، وهو ما يهدم المزية التاريخية لعلم الجغرافيا وهي المكان، فالجغرافيا هي إنسانية المكان. وبفضل الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي والتثوير الاقتصادي الذي عرف بعد ذلك بمصطلح العولمة والاقتصاد الحر تم اعتبار الجغرافيا حقلًا معرفيًا وتنظيريًا فقط، بل إن الجغرافيين اليوم وتحديدًا منذ نكسة يونيو 1967 فشلوا في تحديد دور إيجابي لهم يربطهم بالمكان والحجم والموقع لأنهم باختصار أجهدوا أنفسهم في تحليلات وطروحات فكرية وصاروا رهن ما تنبئهم به الخريطة التي لم تعد كما كانت.
وبعدما كانت الجغرافيا خريطة سهلة واضحة المعالم أصبحت اليوم بفضل التدفق البشري والتغيير الثقافي المرتبط بالسلع والمنتجات جغرافيات جديدة ومعقدة يصعب فهمها وتحليلها. والحرب التي تخوضها الجغرافيا اليوم هي حرب ضد العولمة، بل إن جل همهما التاريخي مناهضة العولمة وهي في صراع ضد العقل الذي لا يعترف بالقوميات أو بالهويات الوطنية بقدر ما يسمح بالتعدد والتنوع الثقافي المرتبط بالناحية الاقتصادية فحسب. ولا شك حينما نرى صورًا للاحتجاجات ضد العولمة تحديدًا في سياتل عام 1990 نتوقع أن هذه ردة فعل تجاه طمس هوية الخريطة رغم أنها احتجاجات فوضوية وعنيفة ولم يقابلها على الشاطئ الآخر أي اكتراث أو اهتمام من الجغرافيين الأكاديميين وكأنهم استمرأوا حالات الغياب المقصودة عن مشهد الصراع”.
“والسؤال الآني الذي يفرض نفسه اليوم: هل ماتت الجغرافيا بالفعل؟ أو أننا بحاجة إلى علم جغرافي جديد يمكننا من مناهضة العولمة وتحدياتها التي تسعى إلى تقويض الهويات والقوميات والنعرات المحلية، وتسعى في الخريطة فسادًا وخرابًا لطمس ملامحها الأزلية تحديدًا تلك الملامح التي تتعلق بحق العرب الفلسطينيين في أرضهم. وبحق الجغرافيا ستموت إذا ما انصرف الجغرافيون عنها واهتموا بالدراسات الاجتماعية أو السيسيولوجية واعتمدوا على الدراسات الاجتماعية الاقتصادية وغفلوا عن مجالهم الصحيح والحيوي هذه الأيام”.
“وحينما ظهر مصطلح العولمة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي واستعمل المصطلح شعبيًا وبقوة في التسعينيات من القرن نفسه لم يفكر الجغرافيون ساعتها أن القائمين على ظهور هذا المصطلح وتدشينه سيساهمون بذلك في إحداث ثمة ارتباك بعرش الجغرافيا، وما ساعدهم في تحقيق ذلك أنهم لم يكترثوا كثيرًا بالجهود التنظيرية وبالطرح الفكري للعولمة بل طفقوا في الاستخدام العملي مباشرة، وظل الجغرافيون رهن مكاتبهم وأروراقهم القديمة بغير تطوير أو اهتمام بالنمو المعرفي المواكب لهذا التغيير الاقتصادي. ووجدنا بعد ذلك مشكلة جديدة قائمة وهي أن الجغرافيين نسوا مجالهم الحقيقي وراحوا يواكبون ظاهرة العولمة ليس بسلاحهم العتيد التقليدي والذي يمكن وصفه بالرصين والأصيل، لكن عن طريق الجغرافيا البشرية التي قد ترتبط بنحو وثيق بنقاشات العولمة، لكن للأسف لم ترتق هذه النقاشات وتوقف عند حدود المصطلح المطلق، وعلى الجانب الآخر وجدنا الإسهامات الفكرية للمنادين بالعولمة تتجاهل قصدًا وطوعًا أية إشارات جغرافية قائمة. وبالقطع كانت الفجوة قائمة بينهما، لأن الجغرافيين لاسيما العرب انتقائيون في اختياراتهم، بعكس المطالبين بالعولمة وامتداداتها الثقافية والاقتصادية لم يكونوا انتقائيين بل نادوا بالتعددية ومحو كل ثقافة تمييزية”.
وها هم الجغرافيون قد عقدوا نيتهم لإنشاء فروع معرفية جديدة ضمن الجغرافيا البشرية لتناقش متطالبات العولمة تمثلت في محاور أشار إليها تايلر في عام 2002 بحيث تربط الجغرافيا بالعولمة مثل الجغرافيا والعولمة، والجغرافيا في العولمة، وجغرافيات العولمة، وجغرافيات مع العولمة وضدها، وبذلك لم يفلحوا في مناهضتها بل أسهموا في الترويج لها وبوحشيتها وبالتغلغل الأمريكي المقرون بدوافع صهيونية في كل بقاع الأرض. ففي الوقت الذي اهتم فيه علماء الجغرافيا بسبر أغوار الكوكب الأرضي اهتم العولميون بشيوعية الكوكب والاهتمام بالترويج والنشر وليس الكشف والتنقيب.
وما أدراكم ومعيار السرعة وهو المعيار الفارق بين الجغرافيا والعولمة، فالجغرافيا تتبعت مسارات العولمة الاقتصادية بطريقة تاريخية بطيئة ووئيدة، والعولمة ليبرالية متوحشة تجري بسرعة جنونية لأنها اقترنت بالتطور التكنولوجي المتسارع، فكان من أبرز إحداثياتها جوجل إيرث وهو ما جعل الخريطة الجغرافية تحتجب بعيدًا عن المعاصرة، بل أمكن صناعها من رسم ووسم ما يرغبون فيه فقط وطمس بعض البقاع الجغرافية على سطح الكرة الأرضية. وأخذ الجغرافيون يرهقون أنفسهم باختراع مصطلحات معرفية جديدة باعدت بينها وبين العولمة في صراع البقاء مثل فضاءات التدفقات وفضاءات الأماكن في الوقت الذي دشن فيه العولميون أفكارًا تتعلق بمجتمعات المعرفة ومدن الذكاء والقرى الذكية ومدن المعرفة.
والجغرافيا التي تهتم منذ بزوغها على تكريس ثقافة الوطنية وتعمل على نشر الوعي المكاني تجاه الوطن ورسم الفواصل الحدودية التي تمكن المواطن من الإحساس بقيمة بقعته الجغرافية لم تدرك وحش العولمة الذي صار أكثر توحشًا وسعى لجعل العالم أكثر تجانسًا بغير حدود أو تخوم، وهو ما يمكن أن نطلق على هذا الفعل بالعولمة الاستعمارية، وهي رفض القطبية المتزايدة بين الأقاليم، وجعل العولمة الاقتصادية ثقبًا في الخريطة الجغرافية لأجل تهميشها وإقصائها.
وموضوعنا هذا وهو موت الجغرافيا ليس من باب التنبؤ أو السبق الإخباري، بل إن أحدث الكتب التي صدرت هذا العام كان كتاب Geographies of Globalization للأكاديمي النيوزلندي ورويك موراي (2013) تناول العلاقة بين الجغرافيا والعولمة، وهذا الكتاب صال وجال للبحث عن إجابة حصرية وحاسمة لسؤال: هل ماتت الجغرافيا؟، وفي هذا الكتاب رصد حالة انخفاض الصلة بين علم الجغرافيا الأكاديمي والمحبوس في الكتب التنظيرية الجافة والأبحاث والدراسات الكاذبة التي لا تمت للواقع بصلة وبين العولمة التي تتصاعد حدتها ويتعالى نشاطها الاقتصادي والتنويري والاقتصادي. ولا شك أن الكتاب انتهى بنتائج غير سارة بالنسبة للجغرافية ومستقبلها المعاصر.
وفي المقابل هناك من يدعو إلى حياة جديدة للجغرافيا، وهؤلاء يرون أنه من الواجب التعامل بواقعية مع متغيرات العولمة التي أصبحت عقب ثورات الربيع العربي عولميات متعددة وليست واحدة، ورغم معركة البقاء تلك فإن ثورة الإنترنت الحالية تؤكد الموت الإكلينيكي للجغرافيا، وهو ما دفع الجغرافيون لممارسة عاداتهم المكرورة كرد فعل لأية ظاهرة جديدة بدراسات نظرية غير تطبيقية عن جغرافيات الفضاء الإليكتروني الناشئة، وبمجرد أن انتهى الجغرافيون من أبحاثهم وتم نشرها كان هذا الفضاء أكثر اتساعًا مما جعل الجغرافيا تقف عند حدود البدايات لأنها لم تستطع التواصل مع التغيير المتسارع.
ولتحيا الجغرافيا عن طريق الاهتمام بالبعد السياسي فيها، فإذا كانت الجغرافيا تسهم في خلق وتكوين البعد القومي والوطني لدى الشعوب، ورفض ودحض مزاعم الطموح التوسعي التقليدي عن طريق الحروب التقليدية العسكرية، فإن دورها اليوم بات ضروريا وملحًا، وعلى الجغرافيين اليوم أن يجتمعوا على هدف واحد ومهمة وطنية محددة وهي وقف الطغيان الثقافي والجغرافي غير الموثق في خرائط ثابتة والذي جاء مع ظاهرة العولمة التي أصبحت واقعًا وليس افتراضًا تخييليًا. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى حرب سيسيولوجية جديدة لتلغي الثقافة الجغرافية لأنها رحم التاريخ وجوهره وتساعدها في تلك الحرب الكيانات والجيوب الصهيونية فإن أهل الجغرافيا عليهم اليوم ضخ الحياة من جديد في علومهم ومعارفهم ونقل المعرفة النظرية إلى واقع تطبيقي يتوازي مع هجمة العولمة.
أما عن مادة التاريخ المكلوم والذي سيخفف موضوعاته أو سيلغى أو لن يتم الاهتمام به بالقدر المنشود، وبدأ رواد تدريس التاريخ يبكون على اللبن المسكوب رغم أنهم ابتعدوا وتجاهلوا أن طلاب الثانوية العامة بعضهم وليس جميعهم بالتأكيد كل معلوماتهم عن طلعت باشا حرب أنه ميدان بوسط العاصمة المصرية القاهرة، وأن سعد باشا زغلول الزعيم الوطني الاستثنائي هو صاحب أشهر عبارة تدعو إلى اليأس والإحباط والقنوط وهي: “مفيش فايدة”.
ورغم أنني لا أحب أن أتقمص دور المدافع عن إعادة هيكلة التعليم بمصر هذه الأيام، ولا أفضل تحري النقد وتوجيه الاتهامات للوزارة ورؤيتها، إلا أنني أجيد التركيز على بعض الشواهد والإحداثيات والتفاصيل التاريخية التي تتعلق بتطوير التعليم بصورة عامة، منها أن أية محاولات لتطوير التعليم العربي وليس المصري فحسب تجئ وفق شعارات مختزلة مثل أن التعليم الراهن (في أي عصر) مثل ضعف المنتوج التعليمي، وإصابة منظومة التعليم الراهنة بالشيخوخة وبعدها عن حركة التجديد العالمية، والإفراط في الثقة بأن المقررات التي يدرسها الطلاب كفيلة بتقدم المجتمعات والأمم وهي ليست كذلك.
والحقيقة أننا بحاجة إلى إطلالة سريعة لتاريخ التعليم الذي أوصلنا لمرحلة راهنة فاصلة تندي بحتمية إعادة الهيكلة، وربما من العجب أن راصد هذا التاريخ لا ينتمي إلى فلاسفة الكون وعلماء الكوكب وأساتذة المجرة من رواد التربية الذين يتباكون منذ أسابيع على حال التعليم على شبكات التواصل الاجتماعي وفيما بينهم عبر تطبيق الواتس آب، هذا الراصد المستقرئ هو الدكتور حسن الشافعي الرئيس السابق لمجمع الخالدين بالقاهرة، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في كتابه الماتع (في فكرنا الحديث والمعاصر) في جزأين من القطع الصغير.
جاء الكتاب المذكور رحلة في تاريخ التعليم عبر رجاله الأوفياء مثل رفاعة رافع الطهطاوي الذي رأى أن مهمة التعليم الرسمي الحقيقية هي قضية تتعلق بالهوية الحضارية والانتماء التاريخي، وأن تدهور المؤسسات والنظم وركود أسواق العلم والمعرفة وضعف الصناعات كان نتيجة منطقية لتخلف أنظمة التعليم وبعدها عن التجديد.
ولعل كل الجهود الوطنية التي قام بها الطهطاوي وعلي مبارك والإمام المجدد محمد عبده وطه حسين عبر أدواره الرسمية تزامنت مع محاولات أجنبية سعت إلى تقويض التطوير والتثوير التعليمي، وتكفي سياسات دنلوب الذي هيمن على شئون التعليم في مصر مدة ثلاثين سنة كفيلة بتدمير اية محاولات لبعث نهضة حقيقية وطنية الأمر الذي دفعنا إلى الاستسلام للخمود والدعة وأحيانا أخرى للسخط بشأن كل رؤية تدعو وتؤذن للتطوير.
ورغم أن مشهد التعليم الآتي في مصر يبدو غامضًا لأننا بالفعل ضد أي محاولة للتطوير بل للتغيير لأننا استسلمنا لثقافة البقاء والخلود والحنين إلى ما عاهدناه وألفيناه قديمًا، إلا أن التعليم بصورة عامة ووفقًا لطبيعة التخصص المهني هي فريضة تقبل التجربة، وأن التطوير الذي تنشده وزارة التربية والتعليم ويرفضها فلاسفة الكون من أساتذة التربية هو أمر بات واقعًا حقيقيًا، وأصبح الأجدى والأقوى الآن هو إتاحة الفرصة للمتخصصين أن يسهموا في تنفيذ الهيكلة بالصورة التي تبدو علمية، وأن اختصار مادة الرياضيات من خمسة أفرع إلى فرعين فقط بالمرحلة الثانوية ليس مزادًا أو مناقصة تجارية بين عدة خصوم، وأنه على حسب وصف المنتقدين لتطوير منظومة التعليم بالمرحلة الثانوية بتهميش مادة علم النفس لن يقلل عدد المضطربين نفسيًا والذين يعانون من نوبات التوحد غير المرضي بل الاجتماعي، وهؤلاء الذين لا يزالون يبحثون عن مقرر علم الاجتماع ضمن مقررات الثانوية العامة أحيطهم علمًا ببعض مشاهد تبدو مرهقة لديهم؛ منها أن إبقاء المقرر من عدمه لن يزيل طوابير المتخاصمين من الأزواج أمام محاكم الأسرة، وأن ابن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة سيكون حزينًا لأنه لم يُقرأ بالقدر الكافي عبر عقود طويلة لأن الذين أدرجوا اسمه بكتب علم الاجتماع لم ينتبهوا إلى أن رائد علم الاجتماع الحضاري ليس مجرد تاريخ ميلاد وتاريخ وفاة، وليس مجرد رجل سافر هنا وهناك فحسب.