بقلم الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر
تسطر ريشة الوحي المقدس في (عا3: 3) “هل يسير اثنان معًا إن لم يتواعدا؟”
وتبدأ القصة فوق روابي تقوع، والتي تبعد عن أورشليم بحوالي عشرة أميال إلى الجنوب، وفي منتصف القرن الثامن تقريبًا، حيث ظهر النبي عاموس، والذي اسمه “حامل الأثقال”. لم يكن نبيًا أصلًا، ولا ابن نبي بل كان راعيًا وجاني جميز. لم يتخرج من مدرسة الأنبياء ولكن من وراء الضأن أخذه الرب، وقال له: “اذهب تنبأ لشعبي”، أخذه من المملكة الجنوبية وأرسله إلى المملكة الشمالية، فذهب عاموس كأمر الرب من بلده تقوع إلى بيت إيل، بعد أن صاغت يد الاقتدار منه شخصية سوية فذة مباركة، فقدم رسالة الله للناس بأروع ما يكون الأداء، ومن على مسرح الأحداث استمع عاموس إلى صوت الله، فجاء بأبلغ الدروس التي أذكر منها الآتي:
أولًا: الخطية والعقاب يتلازمان
في (عا3: 3)، لا نجد أنفسنا أمام فلاح قروي بسيط بل أمام فيلسوف عبقري يقدم لنا قانونًا منطقيًا بالغ القوة وهو “لكل معلول علة” إذ يقول: “هل يسيران اثنان معًا إن لم يتواعدا؟”، بمعنى هل يحدث شيء بدون سبب؟ ولم تأتِ هذه الكلمات من فراغ، فلقد كان عاموس يتأمل ويدقق النظر في الأحداث المحيطة به.
أ. فمن الناحية السياسية: كانت البلاد في خير واستقرار، وأمان فقد نجح يربعام الثاني في توحيد المملكة، وجمع شملها، وإرساء دعائم التقدم والنجاح، فافتخر الشعب كثيرًا بأمتهم وشعروا بأنهم أقوياء، وامتلأوا بالغرور والكبرياء. وقد كانت طمأنينتهم كاذبة ومؤقتة، فآشور الدولة المرهبة الواقعة إلى الشرق منهم، والتي كانت تخيف وترعب كل البلدان المحيطة بها، أبدت هدوءًا ظاهريًا، بسبب اختلافات داخلية كانت تمزق وحدتها.
ب. ومن الناحية الاجتماعية: انقسم الشعب إلى طبقتين، تفصل بينهما مسافة شاسعة: فقراء للغاية، وأغنياء جدًا، فبينما كان الفقير يئن ويتضور جوعًا، كانت الطبقة الارستقراطية تعيش في البذخ والترف والفساد. كثر الظلم، وزاد الشر، واستخدم الأغنياء الأثرياء شتى الطرق غير المشروعة؛ قدموا الرشوة للقضاء، فلم يتمكن الفقير من أخذ حقوقه، وتعرضت حياة مَنْ يعارض للخطر والموت، فكتم الفقراء أوجاعهم وآلامهم، وكانت دموعهم تسقط داخلهم.
ج. ومن الناحية الدينية: كان هناك انفصام بين الدين والدنيا، فلم يترجموا الدين إلى حياة عملية في سلوكهم اليومي. فسجل عاموس بأسف عميق صوت الرب: “بغضتُ كرهتُ أعيادكم ولستُ ألتذ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفتُ إليها. ابعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع” (عا5: 21-23).
وهكذا رأى عاموس الناس يشربون الإثم كالماء، والشر يمشي في الشوارع شامخ الرأس، لكنه في ذات الوقت لاحظ أن آشور المرهبة بدأت تستجمع قواها مرة أخرى، وأخذت تغزو جاراتها من الأمم، وسأل عاموس نفسه: ما هي دلالة هذين الأمرين؟ وماذا يعنيان؟ الظلم في الشعب، ومجيء أشور المرعبة؟ ورجع عاموس إلى بلدته هائمًا على وجهه، متألمًا شديد الألم، وذهب إلى غنمه في البرية، وجلس منفردًا متأملًا لعله يجد تفسيرًا لهذه الأمور، فإذ به يرى وهو في خلوته كيف أن سير اثنين معًا يشير إلى أن موعدًا ما قد جمع بينهما، وهكذا فإن الخطية على موعد مع عقاب الله، وهذه هي الحقيقة التي تسطع بجلاء فوق صفحات الوحي المقدس، ويؤيدها الاختبار؛ فآدم وحواء بعد خطيتهما شعرا بالخزي والخوف والعرق والتعب، وقايين أضحى تائهًا وهاربًا، وأخاب لحست الكلاب دمه، وجيحزي لصق به البرص، والملك شاول طوى الانتحار سفر حياته، وإيزابل كانت فريسة للكلاب، وعثليا قُتلت بالسيف عند بيت الملك، ونبوخذ نصر تحطم عرشه وزال مجده وأخذ يأكل العشب كالثيران، ويهوذا الخائن خنق نفسه، وهيرودس أغريباس الأول الذي ذبح يعقوب وسجن بطرس أرسل الله دودًا ليأكله، وحنانيا وسفيرة عندما اختلسا كيف ماتا؟؟
نعم! فأجرة الخطية هي موت… الخطية والعقاب صنوان لا يفترقان.
ثانيًا: التوبة والغفران يرتبطان
حاول عاموس في صدر سفره في الإصحاح الأول والثاني أن يذكِّر الشعب بالقصاص المريع الذي أنزله الله على الشعوب الأخرى عقابًا لهم، لعلهم يجدون عبرة ورادعًا وحافزًا للارتداد عن طريق شرهم، لكن النبي عاموس لا يكتفي بالتهديد والقصاص، بل يكشف النقاب عن طريق الخلاص، فيقول لهم: “استعد للقاء إلهك يا إسرائيل” (عا4: 12)، ويضع أمامهم رأفة الله التي تولد الرجاء فيقول: “اطلبوا الرب فتحيوا” (عا5 : 6)، “اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا فعلى هذا يكون الرب إله الجنود معكم كما قلتم، ابغضوا الشر وأحبوا الخير وثبتوا الحق في الباب لعل الرب إله الجنود يتراءف على بقية يوسف” (عا5: 14 و15). وفي انكسار قلب، وذوب نفس، والتهاب مشاعر، تطلع عاموس إلى فوق ورفع صلاة حارة من أعماقه: “أيها السيد الرب اصفح.. كيف يقوم يعقوب فإنه صغير” (عا7: 2). وهكذا أخذ النبي يؤكد للشعب أنه كما أن الخطية سر المتاعب والآهات فالتوبة طريق الغفران والسلام.
وهذا هو الحق المعلن في كلمة الله بكل صراحة ووضوح، فقد سطر الوحي في (إش55: 7) “ليترك الشرير طريقه، ورجل الإثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه، وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران” وفي سفر (أع2: 38)، قال بطرس: “توبوا وليعتمّد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس”، فالتوبة والغفران يرتبطان.
ثالثًا: الدعوة والخدمة يقترنان
في سكون البرية، زلزل نداء الله أعماق عاموس، فترك الحياة الرتيبة الهادئة، ليحمل على عاتقه الرسالة، وأخذ عاموس يقدم الخدمة بكل جسارة وبسالة ووضوح وقوة ولم يخش إنسانًا مهما أوتي من جاه أو سلطان أو نفوذ، فلم يخفض رأسه للملك، ولم يداهن رئيس الكهنة، ولم يتردد لحظة واحدة في قول الحق أمام القاضي، وفي وجه الغنى والقوى كان عاموس بمثابة وعد الله القاصف على أمة إسرائيل المرتدة. كانت عيناه وشفتاه نارًا موقدة من الوعيد، لذلك واجه من أهوال ومخاطر في سبيل هذه الرسالة، لكنه كان صامدًا كالصخر في مواجهة الصعاب والمشاكل، فلقد كان إيمانه أرسخ وأقوى من أي مشكلة أو معضلة. وهو يذكر لنا كيفية دعوته للخدمة في موقعين من سفره، الأول في (عا3: 2-8) بأسلوب شعري جميل فيقول: “الأسد قد زمجر فمن لا يخاف… السيد الرب قد تكلم فمن لا يتنبأ” وكأنه يريد القول: كما أنه لا يمكن لشخص أن يقف موقف عدم الاكتراث من زئير الأسد هكذا لا يمكن للنبي أن يهمل دعوة الرب للخدمة في وضوحها وقوتها، وهكذا خرج عاموس يعلن للناس رسالة الله.
والموقع الثاني يدافع فيه عن نفسه ضد أمصيا كاهن بيت إيل (عا7: 10-15)، فيؤكد أنه لم يتخذ النبوة من نفسه لكي يأكل منها الخبز إذ يقول: “لستُ أنا نبيًا ولا ابن نبي بل أنا راعٍ وجاني جميز، فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب: اذهب تنبأ.” وهنا نلاحظ أن عاموس تلقى دعوته من الرب فلم يطق أن يصمت، بل رفع لواء الشهادة، هكذا المسيحي كالنبي، عليه أن يضع في قلبه مسئولية الخدمة، كيف لا وقد أبيضت الحقول للحصاد، والحصاد كثير والفعلة قليلون، وصوت الشعب الذي يتخبط في الظلمة، والجالسون في أرض ظلال الموت يستغيثون: اعبر إلينا وأعنا، وصوت الرب من أجلهم من أرسل، ومَنْ يذهب من أجلنا؟! هل لنا أن نلبي الدعوة ونقول: “هأنذا أرسلني؟!” فالدعوة والخدمة يقترنان.