إعلان الوحي الإلهي عن إلوهية الآب والابن والروح القدس، والاعتراضات المثارة

1

د. فريز صموئيل

لقد تحدثنا في المقال السابق عن أسباب عدم إدراك عقيدة الثالوث بالعقل البشري المحدود، ومصدر هذه العقيدة من خلال تلميحات العهد القديم، وإعلان العهد الجديد الواضح.

في هذا المقال نواصل حديثنا حول هذا الموضوع:

أولًا: نحن نؤمن بإله واحد، وهذا الإله الواحد أُعلن لنا في ثلاثة أقانيم، ونقول إن أقنوم الآب هو الله، وأقنوم الابن هو الله، وأقنوم الروح القدس هو الله، لأن كل ما في الله هو الله، فهل أُطلق في الكتاب المقدس على كل أقنوم أنه هو الله أم هو استنتاج منا لتبرير إيماننا بإلوهية المسيح؟ لقد أطلق الكتاب على كل أقنوم أنه الله.

أ‌- الآب هو الله

“وبعد ذلك النهاية متى سلم الملك لله الآب” (1كو 15: 24)

به (أي باللسان) نبارك الله الآب” (يع3: 9)

“لأنه (أي المسيح) أخذ من الآب كرامة ومجدًا” (2بط 1: 7)

ب‌- الروح القدس هو الله

عندما باع حنانيا حقله، واختلس من ثمنه، قال له الرسول بطرس: “يا حنانيا لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس، وتختلس من ثمن الحقل .. أنت لم تكذب على الناس بل على الله” (أع 5: 3 و 4)

ج- الابن هو الله

“في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله” (يو 1: 1). والابن هو الكلمة.

“ومنهم – أي اليهود – المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد” (رو 9: 5)

“وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد” (1تي7: 16)

ولقد جاء في بعض المخطوطات “وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الذي ظهر في الجسد”

وهذا لا ينفي حقيقة المقصود به، فإن سر التقوى لا يشير إلى معنى بل إلى شخص قد تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أُومن به في العالم، رُفع إلى المجد، مما يؤكد أن المقصود هنا هو أقنوم الابن الذي تجسد كما يذكر البشير يوحنا “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا” (يو1: 14)

وقد أثار البعض اعتراضات على ما جاء في (يو1: 1) “في البدء كان عند الله وكان الكلمة الله”. وأرى أنه لابد أن نلقي عليها بعض الضوء.

أ‌- قالوا: في البدء تعني بدء الخليقة كما جاء في (تك1: 1)

فالبدء في (تك1: 1) يعني بدء الزمن الذي فيه خلق السموات والأرض، أما الثانية فإنها تتحدث عن الله، والله هو خالق الزمن، أي أن الله خالق الزمن، أي أن الله خارج الزمان والمكان، ولأننا نحن كبشر نعيش في إطار الزمان والمكان فإنه تستخدم الألفاظ البشرية المحدودة بإطار الزمان والمكان لتعبر عن الله، لذلك فهي قاصرة على أن تعبر تعبيرًا صحيحًا عن الله وهي تعني “البدء الأزلي أي الذي لا بدء له”

ب‌- “في البدء كان” وكان تفيد الماضي المنقضي، والحقيقة أن فعل الكينونة كما جاء في اللغة اليونانية يعني الكينونة المستمرة، أي “الكائن” وقد وردت في اللغة اليونانية في صيغة الماضي غير التام الدال على الاستمرار فهو الله إطلاقًا.

ج‌- يقولون إنه جاء في النص اليوناني، كما في الترجمة القبطية “وإلهًا كان الكلمة” بدون أداة التعريف، فهو إلهًا وليس الله.

– في اللغة اليونانية يُعرف المبتدأ، وتهمل أداة التعريف في الخبر، ولاسيما إذا كان الخبر مقدمًا، لذلك عندما قال: “وإلهًا كان الكلمة” لم يلحق به أداة التعريف (لأن إلهًا خبر مقدم)، مع ملاحظة أنه عندما يُقدم الخبر على كان واسمها يكون الغرض منه التشديد على أهمية الخبر.

– إن الحديث عن “الكلمة” باعتبار أنه الله، بدون أداة التعريف في النص اليوناني لا يعني أن هذا الأقنوم ليس إلهًا مثل أقنوم الآب، ففي ذات الأصحاح (يو1) جاءت كلمة “الله” (ثيؤس) بدون أداة التعريف، رغم أنها تتحدث عن أقنوم الآب، مثل: “كان إنسان مرسل من الله” (يو1: 12)، “أن يصيروا أولاد الله” (يو1: 12) “ليس من مشيئة رجل بل من الله” (يو1: 13).

إذًا، فالله واحد، مُعلن في ثلاثة أقانيم، كل أقنوم هو الله، ولكن هذا لا يعني أننا نؤمن بثلاثة آلهة. ولكن كما أوضحنا في المقال السابق، هذا تميز بدون انفصال.

وهنا يثير البعض اعتراضًا بقولهم: إن كلمة “الله” أُطلقت مجازًا على البشر في الكتاب المقدس فلماذا لا يكون إطلاقها على المسيح، والروح القدس من هذا القبيل؟

أ‌- جاء في سفر الخروج: “هو – أي هاورن – يكون لك فمًا وأنت تكون له إلهًا” (خر4: 16)

وأيضًا “أنا جلعلتك إلهًا لفرعون، وهارون أخوك يكون نبيك” (خر7: 1)

لقد أطلقت كلمة “الله” هنا بالمعنى المجازي على موسى باعتباره ناقل لرسالة الله وكلمته إلى أخيه هارون، فموسى لم يكن إلهًا حقيقيًا لهارون، وهارون لم يكن فمًا حقيقيًا لموسى، أي أن القرينة توضح أن المعنى مجازيًا.

أما بالنسبة للمسيح فالأدلة والبراهين واضحة على أن المسيح إلهًا حقيقيًا والاستعمال هنا ليس مجازيًا، فالمسيح له أسماء الله، وصفات الله، وعمل أعمال الله، وقبل أمجاد الله (وسنوضح ذلكل بالتفصيل في مقال آخر).

وهكذا أيضًا بالنسبة للروح القدس

ب‌- جاء في (مز82: 6و 7) “أما قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون”

ت‌- لقد أطلق مجازًا هنا على القضاة الذين صارت إليهم كلمة الله، وباعتبار أنهم ممثلين لله وعليهم أن يتكلموا ويحكموا بشريعته، ولكن النص يوضح أنهم بشر، وأنهم مثل كل الناس سيموتون. أي أن القرينة توضح أن الاستعمال مجازي ولكن عن المسيح يقول: “الذي يحل فيه كل ملء اللاهوت” (كو2: 9). فهو إله حقيقي وإطلاق لقب الله عليه ليس مجازيًا كما يدعون.

ثانيًا: نحن نؤمن بإله واحد، وفسر المسيحيون العرب الثالوث بالقول: الله موجود بذاته ناطق بكلمته وحي بروحه، وأن الصفات الثلاث: الوجود، والنطق (الكلمة) والحياة هي الأقانيم الثلاثة، فساق البعض هذا الاعتراض: إذا قلنا أن الله سميع رحيم جواد.. إلخ، فهل يمكننا اعتبار أن هذه الصفات أقانيم، وبذلك يكون الله مائة أقنوم؟

إن الوجود والنطق والحياة، ثلاثة صفات ذاتية ثبوتية (أي بها تقوم الذات الإلهية أي الوجدانية الجامعة، التي تجمع ما يستلزم الوجود الإلهي، وتمنع غير ذلك) وهذه الصفات الثلاثة لا يستلزم وجودها جوهر آخر، وغيرها من الصفات تستلزم ذلك فعندما نقول الله قادر، فهذا يستلزم وجود مقدور عليه، وعندما نقول الله رحيم، فهذا يستلزم وجود مرحوم… وهكذا، أما عندما نقول الله موجود، وناطق وحي، هي صفات جوهرية كيانية متميزة في ذات الله الواحد، ولا يستلزم وجودها جواهر أخرى.

ولهذا فنحن نؤمن أن الله واحد ليس عدديًا بل بمعنى أنه منفرد لا شبيه ولا مثيل له، وكلمته وروحه أزليان، لأنهما ليس من خارجه، وإلا كانا شريكين معه، فهما جوهر واحد، وهذه هي الوحدانية اللائقة بالله “الوحدانية الجامعة”.

ثالثًا: إذا كان هناك آب وابن ألا يعني هذا أن الآب يسبق الابن في الوجود وبذلك لا يكون الابن أزلي، وكونه غيرأزلي فلا يمكن أن يكون إلهًا.

لقد أعلن الكتاب المقدس بكل وضوح عن أزلية الابن، فقد جاء في سفر إشعياء “منذ وجوده. أنا هنا. والآن السيد الرب أرسلني وروحه” (إش48: 16) فمنذ وجود الآب الأزلي، هناك الابن الأزلي.

– وعندما قال المسيح لليهود: “الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو8: 58) رفعوا حجارة ليرجموه وذلك لأنهم فهموا من هذا أنه يساوي نفسه بالله.

وهكذا أيضًا عندما قال لهم: “أنا والآب واحد” (يو10: 30) أرادوا أن يرجموه وعندما سألهم عن السبب قالوا: “لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا” (يو10: 31- 33) أي أن المسيح قال أقوالًا فهم منها اليهود أنه هو الله، وهو أقنوم الابن المتجسد، إذًا فهو أزلي بأزلية الله.

إذا كان الآب أزلي، فلا يمكن أن يكون الابن أزليًا، لأنه لا يمكن أن تكون هناك لحظة ما كان فيها الآب بدون ابن، وإلا فكيف يكون آبًا، وإذا افترضنا أنه لم يكن آبًا ثم أصبح كذلك فهاذ يقتضي التغيير والله غير متغير، لأن الله ثابت والمتغير لا يمكن أن يكون إلهًا.

– سبب المشكلة هنا أن القائلين بهذا الادعاء يعكسون مفاهيم البشرية على الله، فحسب العرف البشري لابد أن يسبق الآب الابن، وأن الابن يأتي نتيجة تزاوج، وبالطبع الله ليس كذلك وهو ليس له مثيل أو شبيه بين البشر، وعندما نستخدم اصطلاح الآب والابن والروح القدس للحديث عن الأقانيم يجب أن نطرح المفاهيم البشرية وما هو يحدث بين البشر من تناسل وولادة بعيدًا، لأن الله بخلاف ذلك والأبوة والبنوة والانبثاق توضح العلاقة بين الأقانيم.

وفي الختام نقول: إننا نفهم الله كما أعلن الله لنا ذاته في الكتاب المقدس، ومهما حاولنا فالله يسمو فوق أفكارنا. ولا يمكن أن نخضعه لعقولنا البشرية، وعلينا في كل مرة أن نتذكر أننا نقف في أرض مقدسة ندخلها بخضوع ونخرج منها بإيمان وتسليم كامل.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا