العدد 136 الصادر في يناير 2017 إصلاح البطرسية رقعة جديدة في ثوب عتيق
بينما كنت أفكر في اختيار موضوع مقالي الشهري بجريدتنا “الطريق والحق” لشهر يناير2017، تزاحمت في رأسي الأفكار وتحيرت للحظات في الاختيار، فهل أكتب عن “رب الميلاد وميلاد الرب”، مهنئًا الشعب المسيحي القبطى المصرى بعيد ميلاد طفل المذود، رب الأنام ورئيس السلام، متمنيًا أن يعيده القدير عليهم وأولادهم وكنائسهم ومصرنا بالخير والبركة، أم أكتب عن توقعاتي وتمنياتي للكنيسة المصرية في هذا العام، ولمصر بكل ما فيها ومن فيها؟! هل أكتب عن ما يريده الرب الإله من الكنيسة وقادتها في هذا العام، أم أكتب عن مستقبل مصر واقتصادها والرياح المزمعة أن تهب عليها في رئاسة دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي المنتخب، والذي سيبدأ عمله قبل صدور عدد فبراير من هذه الجريدة، وما يجب أن تنتبه له مصر في تعاملها معه؟!
وبينما كنت متفكرًا في كل هذه الموضوعات فوجئت بصديق، غير مصرى الجنسية، يتصل بي ليعزيني على ما حدث من تفجير للكنيسة البطرسية في مصر. لم أكن إلى تلك اللحظة قد علمت بما حدث، وبعدها انهالت على الأخبار الخاصة بتفجير هذه الكنيسة، فوجدت لزامًا على أن أكتب عن هذا الحدث الجلل والمصاب الأليم. وبينما كنت أراجع بيني وبين نفسي ما شاهدته وسمعته من تفاصيل جريمة تفجير الكنيسة البطرسية والملاصقة تمامًا لكنيسة الأنبا رويس، وكلتاهما بالحقيقة جزء لا يتجزأ. من مجمع “الكاتدرائية المرقسية الكبرى” بالعباسية، والأخيرة هى المعروف عنها في العالم كله بأنها مقر رئاسة الطائفة الأرثوذكسية المصرية، التي يقيم بها الباباوات الأرثوذكس والمطارنة المقربون ويباشرون عملهم منها، والتى يعقد بها قداسات واجتماعات واحتفالات الأعياد المسيحية المختلفة، والتى يزورها السيد الرئيس، أطال الله بقاءه، والسادة كبار رجال الدولة، أدامهم الله لنا ولمصر ذخراً، لتهنئة المسيحيين المصريين بهذه الأعياد، بغض النظر عن اختلاف طوائفنا كمسيحيين، الأمر الذي نقبله نحن، سائر الأقباط المصريين، بالشكر والامتنان والعرفان والتصفيق الحاد والهتافات المدوية، حتى لو لم نحصل على وعود قيلت لنا في العام الماضي وصفقنا لها إلى أن أدمت أيدينا، وحتى لو كان العديد من أبنائنا في غياهب السجون بسبب الدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم ضد من قرروا قتلهم وقتل أولادهم وتعرية نسائهم في شوارع قرانا المصرية الصعيدية، فشردت عائلاتهم وهدمت مبانيهم وبيوتهم وكنائسهم وسجن أولادهم القصر لانتقادهم لداعش الإجرامية.
ولكل ما تقدم ولأهمية هذا المقر البابوي بالذات للعالم كله، دفع ذلك الأمر رئاسة الجمهورية، والأجهزة المعنية بها، لعمل كل جهدها أن تخفي، وأن لا تتداول أو أن تذكر، الاسم الحقيقي لموقع الكنيسة المعتدى عليها في أي من النشرات والتعليقات والتصريحات المذاعة من القنوات التليفزيونية، وعدم ربط اسمها بالكاتدرائية المرقسية الكبرى، ونجحت في خداع العامة من العالم كله وإعطائهم صورة باهتة عن مكان الكنيسة المفجرة ومكانتها في التاريخ المصرى والقبطى وكأنها كنيسة عادية مثلها في ذلك مثل أية كنسية أرثوذكسية في قرية خربتها أو كفر أبو طشت أو طحا العمودين أو في أي الأماكن النائية والتي تحترق فيها الكنائس باستمرار ولا يسمع عنها أحد حتى من القرى المجاورة لها . تم إخفاء مكان ومكانة البطرسية بالرغم من علم كل ذي عقل أن اختيار الكنيسة البطرسية تحديداً، من جانب المجرمين المخططين للتفجير، لم يكن هدفاً في حد ذاته، بل هو بسبب موقعها أنها داخل حزام الكاتدرائية المرقسية الكبرى، فأي تفجير بها يعتبر تفجيراً داخل الكاتدرائية . فاختيار الكنيسة البطرسية من وجهة نظر المدمرين يؤدي نفس الغرض ويأتي بنفس النتائج ويسهل عملية الاقتحام والتفجير وقتل الأبرياء، نظرًا لتعذر دخول صاحب الحزام الناسف واختراقه للحراسات المحيطة بالباب الرئيسي للكاتدرائية، وبسبب بُعْد الكنيسة الرئيسية بالكاتدرائية عن أسوارها. ونجحت السلطات في إخفاء مكانة هذه الكنيسة بالذات بالرغم من أن الكنيسة البطرسية المفجرة هي، وكما جاء بكتب التاريخ، “تعد أشهر كنيسة كرست على اسم الرسولين “بطرس” و”بولس” وتقع هذه الكنيسة في شارع رمسيس بالعباسية، حيث تولت عائلة “بطرس غالى باشا” بناءها فوق ضريحه عام 1911 م على نفقتها الخاصة، تخليدًا لذكراه، حيث يوجد أسفل الكنيسة المدفن الخاص بالعائلة، وهي جزء من الكاتدرائية المرقسية الكبرى، كما ذكرت سابقًا، بل قل هي واجهة الكاتدرائية من الخارج للناظر إليها من شارع رمسيس الرئيسى، وهي أيضاً ملاصقة لكنيسة الأنبا رويس التى لها مكانتها أثريًا وتاريخيًا فهى أهم من كنيسة الكاتدرائية المرقسية نفسها، حيث أنها تسبقها في زمن وجودها بمئات السنين، كما يسجل لنا التاريخ، وكما تشهد عن ذلك اللوحة الرخامية المعلقة على مدخل الكنيسة، إذ مكتوب بها “كنيسة الأنبا رويس الأثرية، شيدت في القرن الثاني عشر”، وجددت عام ١٩٤٩م، ثم عام ١٩٧٩م، وأعيد تجديدها في عام ١٩٩٣م في عهد الأنبا شنودة الثالث. وكنيسة الأنبا رويس هذه، كما يذكر التاريخ المسكوت عنه والمخفي عن عيون وعقول وقلوب الأقباط المصريين، هي الكنيسة الوحيدة الباقية من عشر كنائس كانت مبنية فيما كان يعرف سابقًا من مئات السنين بمنطقة دير الخندق، المعروفة حاليًا بالعباسية. وقد دمر الغزاة الوافدون على أرضنا، مصر القبطية، أعداء الصليب والكنيسة والمسيحية والإنسانية، دمروا العشر كنائس ولم تبق منها إلا كنيسة الأنبا رويس الملاصقة للكنيسة البطرسية، التي تم تدمير الجزء الكبير منها في الاعتداء الغاشم عليها صباح الأحد ١١ ديسمبر 2016 ليقضي الخلف على بقية ما تركه السلف وليكمل مسيرة أجداده ويحقق أهدافهم وأشواقهم وآمانيهم، التى لم تتحقق كلها في حياتهم، بالتخلص من بيوت الله جميعًا في الأرض، الكنائس. وقد جرت العادة في القديم أن يعلق السادة المسئولون أمر تفجير الكنائس على شخص يتهمونه بالخلل العقلى، وفي بعض التفجيرات القوية يتهمون المنفذ بالهروب من مستشفى الأمراض العقلية لتنفيذ جريمته، لكن اليوم وبسبب استخدام هذه الشماعة لمرات كثيرة، وافتضاح أمرها، وربما لخلو مستشفيات الأمراض العقلية من المتطرفين لكثرة حوادث التفجير، ونظرًا لتواجد شماعات كثيرة أقوى وأكثر منطقية في استخدامها لتبرير هذه الحوادث، كشماعة الإخوان المسلمين والدواعش والجماعات المتطرفة لذا استخدمت هذه المرة شماعة الإخوان المسلمين، وقد نسوا أو تناسوا أو أخفوا عن الكل أن تفجير الكنائس لم يبدأ بعد ثورة يناير2011، أو بعد أن تولى مرسى الحكم أو ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٤ وتولي السيسي الحكم وإقصاء المقبوض عليه، إنما بدأت التفجيرات منذ دخول أجدادهم إلى مصر آمنين، كما تدون ذلك بكل صراحة كتب الأولين والآخرين، والتي من بينها رسالة الدكتوراه للدكتورة سناء المصرى، المسلمة، والصادرة في كتاب “حكايات الدخول”. وخير دليل عملى على ذلك هو نفس هذه الكنيسة البطرسية المفجرة اليوم والملاصقة لكنيسة “الأنبا رويس” والتى بقيت وحدها من ١٠ كنائس في هذه المنطقة الواحدة، كما ذكرت سابقًا، فكم وكم عدد الكنائس الأثرية التى دمرت في طول مصر وعرضها منذ ذلك الحين! وعليه فقراءة بسيطة مخلصة لتفجيرات وهدم وإحراق الكنائس، وعدم إعادة بناء معظمها، وقتل وإرهاب وإجبار من تسول له نفسه على إعادة بنائها من الفرار من قريته والبعد عن عائلته وعزوته، توضح أن المنفذ لكل ما يحدث للكنائس والمسيحيين هو واحد حتى وإن اختلفت طرق الحرق والتدمير والاضطهاد والتهجير وأزمنتها والجماعة المنتمي إليها الحارق أو المدمر أو المفجر لنفسه ولبيت من بيوت الله الكنائس، هذا الواحد هو روح ضد المسيح، الذي حاول قتل المسيح نفسه أكثر من مرة وهو في المهد طفلاً صغيرًا، وهو الذي قتل أطفال بيت لحم في القديم من سن سنتين فما دون، وأجبر العائلة المقدسة أن تهجر وطنها وقريتها وبيتها وعائلتها وتلجأ إلى مصر بالذات للحماية والأمان. هذا اللجوء الذي يحدث عكسه تمامًا اليوم في مصر. فلم يتوقف المضطهدون والمعذبون والمطرودون في شتى بلدان الأرض والمهددون بعدم الأمان من اللجوء والنزول إلى مصر بالذات بحثًا عن الأمن والأمان فحسب، كما كان في القديم، بل فر ملايين المصريين الأقباط من مصر وتفرقوا في بلاد الله الواسعة بحثًا عن بلد للجوء إليها، بلد توفر لهم الأمان والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التى لم ولن يجدوها في بلادهم.
وبينما كنت أشاهد التدمير وأستمع إلى التقارير الصحافية عن الانفجار والمفجرين، للوقوف على حقيقة الأمر وللإجابة على أسئلة القنوات الفضائية وتحليل هذا الحدث تحليلاً واقعيًا سليمًا، وإجابة أسئلة الأمريكان من القسوس والكنائس ومسئولي الميديا المسيحية وغيرها، والتفكير فيما عسى أن يكون الحل للقضاء على مثل هذه الجرائم وكيفية مواجهة، أو القضاء على، أو حتى معالجة أصحاب النار المعتدين على بيوت الله في الأرض، الكنائس، الذين نهايتهم الهلاك الأبدي في جهنم أعدها المولى لإبليس وجنوده والذين أقنعهم الشيطان، كمكافآت لهم على قتلهم المسيحيين وإحراق كنائسهم، بجنات تجرى من تحتها الأنهار ومعاشرة حور عين، عذارى لم يطمسهن بشر، متكئات على أرائك في انتظارهم على أسرة من ذهب وعاج، وأولاد مخلدون وخمرًا ولبنًا وتمرًا وعنبًا. بينما كنت أفكر في كل هذا، لست أدري لماذا قفزت في عقلي أقوال السيد المسيح – تبارك اسمه- التي أجاب بها المجاهدين المتعصبين الجسدانيين المتدينين وربما المتطرفين الإرهابيين الذين كانوا ينتقدون ويوجهون اللوم لتلاميذه وله سبحانه، لأنهم يختلفون عنهم في الإيمان والعقيدة والممارسات الدينية، ولا يقبلون تعاليم المسيح البسيطة الواضحة الصريحة، وحجتهم في ذلك أن تلاميذه، تبارك اسمه، لا يصومون كتلاميذ يوحنا بن زكريا، ولا يغسلون أيديهم قبل الأكل كما يفعل الفريسيون وتلامذتهم، الأمور التى ما كان لهم أن يهتموا بها إن هم اهتموا بحياتهم الأبدية وبتعاليم دينهم فقط دون حساب غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى على ما جاء في كتبهم من تعاليم وممارسات دينية تخصهم ولا تخص غيرهم، ومحاولة إجبارهم على الصلاة والصوم والعبادة بطريقة هؤلاء المنتقدين والإرهابيين الخاصة أو الإيمان بتعاليم وكتاب نبيهم المفضل. فماذا كان يضر تلاميذ يوحنا المعمدان أو الفريسيون إن أكل أتباع المسيح بأيدي مغسولة أو غير مغسولة، أو صلوا لله دون وضوء، أو إن صاموا أو لم يصوموا، أليس الدين لله وحده، وهو علاقة شخصية بين المخلوق وخالقه، أما يؤمنون أنه لا تحمل نفسًا وزر غيرها؟ أليس هذا هو نفس الروح الشرير الذي يفجر الكنائس اليوم ويكره أماكن عبادة المسيحيين وينتظر أن يأتي المسيح عيسى بن مريم من اصطفاها المولى وفضلها على نساء العالمين، ليكسر الصليب ويقتل الخنزير ويَقْبَل الإسلام له دينًا ويصلي وراء نبيهم، وعندها تقوم الساعة ويصبح الملك يومئذ لله؟ أليس هذا هو نفس الروح الشرير الذي يجهز المغيبين المسكونين بالأرواح الشريرة ليفجروا أنفسهم للحصول على ما تقدم من ملذات أرضية وإشباع لرغباتهم الجنسية والتأكيد من المولى تبارك اسمه على دخولهم الجنة سابقة الأوصاف؟ وإليك ما دون بكتاب الله الوحيد الكتاب المقدس من رد السيد تبارك اسمه عليهم، يقول الوحي: “وقالوا له (أي للمسيح تبارك اسمه) لماذا يصوم تلاميذ يوحنا كثيرًا ويقدمون طلبات وكذلك تلاميذ الفريسيين أيضًا وأما تلاميذك فيأكلون ويشربون؟” فقال لهم: “أتقدرون أن تجعلوا بني العرس (المقصود هنا تلاميذه) يصومون ما دام العريس (المقصود هنا شخص المسيح) معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون في تلك الأيام”. وقال لهم أيضًا مثلاً: “ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق وإلا، فالجديد يشقه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد”.
أخذت أفكر في علاقة هذا المثل الذي قاله السيد المسيح تبارك اسمه، بفمه الطاهر وهو “ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق وإلا فالجديد يشقه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد”، بشكوى تلاميذ يوحنا والفريسيين اليهود، في القديم، وبالطريقة التى تتعامل بها الحكومات المتعاقبة على مصر في الحديث مع القضية القبطية منذ أن وفد الإسلام إلى بلادنا وخاصة منذ قيام ثورة الضباط الأشرار في 1952. فهذه الحكومات جميعًا حتى هذه اللحظة تتعامل مع القضية القبطية كالثوب العتيق الذي له من العمر ألفي عام، وقد تهرأ بسبب طول الزمان وتعاقب عليه خارقيه وممزقيه، ومرقعيه من مستعمريه ومستغليه ومضطهديه على طول الزمان.
تخيل معي عزيزي القارئ أن القضية القبطية هي ثوب عتيق له من الزمان قرابة الألفي عام، هذا الثوب الذي كان يومًا ما أبيض كالثلج يلبسه جسد نقي مغسول بالكلمة النبوية التى هي أثبت، وفقًا لقول القدير تبارك اسمه: “إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف النقي”، يصبح اليوم متعدد الرقع وبالتالي متعدد الألوان والانكماشات والخروقات.
يتكون هذا الثوب من غطاء للرأس وهو ملون بلون الطين والتراب الممتزج بالدم من كثرة ما وضع على الرأس من مآسي وصروف الزمان واضطهاد المضطهدين والغازين الفاتحين الداخلين إلى مصر ضد إرادة الله آمنين، هذا الرداء متصل بالأكتاف بقطعة قماش تغطي الرقبة وهي ملونة باللون الأزرق، حتى عرف الجسد كله بصاحب العظمة الزرقاء من كثرة ما وضعت عليه كأفراد العصي التى كانت تربط الأقباط بعضهم مع بعض لترحيلهم إلى أماكن بعيدة عن قراهم ومدنهم إمعانًا في عذابهم لعدم ترك مسيحيتهم والتنكر لمسيحهم ورفضهم الدخول في دين الله أفواجًا، ثم الأكتاف وهي ملونة باللون الرمادي وقد نشع الدم من تحتها من كثرة ما تحملت من ثقل المعاناة والاضطهاد الممنهج لمئات السنين. أما الصدر فقد تخرق ورقع عشرات المرات من كثرة الطلقات النارية وطعنات السيوف التى أودت بحياة العديد من خلايا هذا الجسد، وخاصة في السنين الأخيرة من تاريخ مصر الأسود، ثم حزام حديدي يلف البطن ويضغط عليها بقوة تكاد تتفجر من شدته ومن كثرة الاحتياجات وقلة الإمكانيات حتى للقوت الضروري والتمييز الصارخ بين لابسي الثوب العتيق، لهذا الجسد وغيرهم من جيرانهم من يعتبرون ما يحصلون عليه وبأية طريقة حلال لهم، لأنهم يؤمنون أن الضرورات يبحن المحظورات وأن هذه نقرة وهذه نقرة أخرى. ثم ذراعا الثوب أحدهما مازال يظهر في بعض أماكنه اللون الكاكي وكأنه بقايا ثوب عسكري قديم، يوم كان القبطي يقف مدافعًا عن دينه ومسيحه وكرامته لا بسيف أو ترس أو سكين أو جنزير أو قنبلة، بل بصلاة بسيطة واثقة في قدرة إلهه ينقل بها الجبال، وبكلمات حكيمة كتابية نافذه يكلم الأعداء في الباب. أما الذراع الثاني للثوب ففقد لونه الأصلي الأبيض وانشق وظهر منه جبس ردئ عفن مكتوب عليه عبارات بذيئة وأقوال مقززة أصبحت مقرفة ومثيرة للغثيان لمجرد رؤيتها أو سماعها أو التفكير بها، كالوحدة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، والنسيج الواحد، والدين لله والوطن للجميع، والنصارى، وعباد الصليب، وازدراء الأديان، وقانون الكنائس الموحد، وغيرها وغيرها الكثير والكثير، وقد عُلِّق هذا الذراع في رقبة صاحبه، فهو مكسور مغلول ومربوط ومثبت في رقبته، لا حول له ولا قوة غير قادر على الحركة والعمل والتخلص من تلك العبارات أو حالته العليلة الأليمة التى ابتلى بها. وفي النهاية أصبح لهذا الثوب العتيق ذيل طويل يجرجره الأقباط وقد تعلقت به قازورات الشوارع والأزمنة والحكومات المتعاقبة عليه، وكأن المسيحيين يحملون وزر كل ما وصلت إليه مصر والكنيسة من حال مرير. ولذا فعليها أن تمسح وحدها وبذيل ثوبها العتيق هذا كل هذه القازورات وتتخلص منها وتخلص الآخرين أيضًا معها.
تلك هي الصورة التى فرضت نفسها على مخيلتي عندما تفكرت في مثل المسيح عن الثوب القديم الذي يحاول البعض أن يصلحه أو يغطي عيوبه بترقيعه بقطعة جديدة كلما حدثت خروقات حديثة له، وما أكثرها، غير عالم أن لا أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق وإلا “فالجديد يشقه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد”، وغير عالم أن المياه تمتحن كل شئ، وتغسل كل شئ، لكنها تجعل الرقعة الجديدة تنكمش بدرجة ما في مقابل انكماش الثوب العتيق، الذي انكمش قبلاً عبر مئات السنين وتعب من كثرة الانكماش والاضطهاد وصغر النفس والعبودية، فلم يعد بقادر بعد على التوافق مع الرقعة الجديدة والانكماش معها بنفس المقدار حتى لا يشق الثوب العتيق وحتى لا يصير الخرق أردأ”.
ويعوزني الوقت ومساحة النشر لو كتبت عن كل قطعة ولونها من قطع وألوان هذا الثوب العتيق، وكيف حاولت الحكومات السابقة وتحاول الحكومات القائمة أن تبقي على هذا الثوب، ثوب القبطية القديم، عملا بالمثل القائل: “اللي تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش”، تبقي عليه أكبر قدر ممكن من الزمان وتظهر نفسها وكأنها هي الحامية لهذا الثوب وهي من تحبه والمدافعة عنه والمطهرة إياه من كل ما اعتراه ويعتريه وسيعتريه من صروف هذا الزمان.
ولعل المشكلة الرئيسية هنا هي أن كل من الجماعات والأديان والملل المختلفة، بما فيها المسيحية على اختلاف طوائفها ومسئوليها تنظر إلى الثوب العتيق للقبطية المصرية نظرة مختلفة تتحدد معها مدى قبولها أو رفضها لهذا الثوب من أصله، وفقاً لقناعاتها وسياساتها ومصالحها وليس هناك من ينظر لثوب القبطية المصرية المرقع ويريد التعامل معه كوحدة واحدة. وبنظرة مخلصة واقعية شاملة من كل نواحيه ومحاولة تغيير الرداء كله والكف عن ترقيعه برقع متعددة الأنواع والألوان والأزمنة إلا القليل جداً من أقباطها على اختلاف انتماءاتهم، وحتى أولئك يختلفون اختلافاً بيناً في طريقة التعامل وطريقة تغيير ثوب القبطية العتيق.
دعني أشرح ما أسلفت، لقد تهرأ غطاء الرأس لهذا الثوب لعدة أسباب، يرجع غالبيتها العظمى لأعداء الأقباط والقليل منها للأقباط أنفسهم. أما أعداء الأقباط، فقد تعودوا ضرب الأقباط على رؤوسهم كثيراً جداً للدرجة التى تقطع فيها غطاء الرأس وتخرق. أما أسباب الضرب على الرأس، فقد تكون للعقاب على ذنب اتهم به الأقباط حتى لو لم يرتكبوه، أو للتخويف والإرهاب حتى لا يطالبوا بحقوقهم المسلوبة، أو لتخديرهم وإدخالهم في حالة من الغيبوبة الدماغية حتى لا يكونوا بقادرين على استيعاب ما يحدث لهم وحولهم وحتى يضمنوا أنهم مغيبون بالقدر الكافي للدرجة التى يمدحون فيها جلاديهم ويصفقون لخادعيهم ومسبحين بحمد من يسيئون إليهم ويضطهدونهم، ويتمنون لهم دوام التوفيق وطيلة العمر ويتغنون بالنسيج الواحد للأمة والمساواة والإخوة التى يتمتعون بها في بلادهم، وعاش الملك ويحيا الملك. وكلما خرق غطاء الرأس للثوب القبطي العتيق حاول الأقباط ترقيعه وإظهاره بأن شيئًا لم يكن لكنهم فقدوا في النهاية القدرة على التمييز الصحيح بين ما هو مفيد لثوب الأقباط العتيق وما هو مضر له. فمنذ أيام الاستعمار الإسلامي لمصر مرورًا بالخلفاء الراشدين والوثيقة العمرية التى وضعها الخليفة العادل عمر بن الخطاب والتي تعامل القبطي في بلده كأسير حرب لمعركة تم فيها النصر لأعدائه، ولذا فعليه الخضوع لما يأمرونه به، حتى مجيئك إلى العثمانيين والأتراك وملوك القرن العشرون والعزبي باشا الذي وضع الشروط العزبية لبناء الكنائس والتعامل مع الأقباط كرعايا من الدرجة الثانية، حتى أصبح الوضع المسلم به من الجميع مسيحيين قبل المسلمين، أنه كلما فكر أحدهم أن من حقه كمواطن مصرى وصاحب الأرض أن يبني كنيسته كيفما وأينما ومتى يشاء انهالت على رأسه الضربات واتهم بإثارة الفتن ومحاولة مقاومة السلطات وازدراء الأديان، وإذا لم يخف ويخضع لهذه الاتهامات تحركت السلطات لهدم الكنائس أو أجزاء منها أو دورة مياهها أو مبنى خدماتها وخلافه، وإذا اعترض القسيس وزوجته على ذلك حمل وألقي خارج المبنى لحين اتمام هدمه. ويكفي أن يصرخ أحدهم أمام بيت أي مسيحي يصلح حتى دورة مياهه “أعينوا يا إخوة الإسلام هذا النصراني النجس يبني كنيسة في قريتنا وا إسلاماه!” حتى يجتمع الغوغاء لتكسير بيته وتشريد أسرته وطردهم خارج قريتهم، الأمر الذي فقدت معه كثير من الأدمغة القبطية المغطاة بالثوب القبطي العتيق التفكير السليم ومشت في الأرض تقول يحيا الملك، بالرغم من أن مصر جمهورية وليست ملكية. وعندما اعترض الأقباط على شروط العزبي باشا وضع لهم ممثلوهم في البرلمان ومسئولي الكنيسة قانونًا يحدد تعريف الكنيسة ومساحات وأماكن وعلو كنائسهم وحتى مواصفات غرفة القرابني فيها.
ويعوزني الوقت ومساحة النشر لذكر ما لا حصر له من أحداث تم فيها احتقار غطاء الرأس، حتى أكبر رأس، لثوب القبطية العريق. لقد ظن السادات أنه بقادر على إزالة غطاء الرأس من فوق رأس المنتقل إلى جوار ربه البابا شنودة في أحداث 1981 وأحدث بالفعل خرقًا كبيرًا في غطاء رأس ثوب القبطية المصرية، فما كان من الأقباط إلا أنهم قبلوا ترقيع ثوب قبطيتنا العتيق برقعة جديدة من العلاقة مع حكومة مبارك وأولاده، ولم نطالب بتغيير الثوب كله إلى ثوب جديد بمفاهيم جديدة وممارسات جديدة، فتوالت الخروقات والحرائق وهدم الكنائس وتعسف رجال الأمن، حتى امتلأ غطاء رأس ثوب القبطية العتيق بالخروقات وتعددت الرقعات، حتى أصبح ثوبًا عجيبًا لا هو بالعتيق الذي يمكنك أن تتخلص منه ولا هو بالجديد الذي يمكن أن تستمتع به. وللأمانة الصحفية أقول لقد ساهم الأقباط في تهرأ غطاء رأس ثوبهم العتيق بقبول الخرقات العديدة التى أحدثتها الحكومات المتعاقبة حتى اليوم، وبقبولهم حلول وقتية كرقعات جديدة يرقع بها الثوب العتيق على أمل تغييره يومًا ما إن أذن الله. كما اضطروا في مرات كثيرة لخلع الثوب القديم خوفًا من ردود أفعال المقاومين، ولم يلبسوا ثوبًا جديدًا فتوقفت عقولهم وانكشفت رؤوسهم وأنعدمت ردود أفعالهم عندما أحرقت كنائسهم وبيوتهم. ولم تعمل الحكومات المتعاقبة على القبض على المذنبين ومحاكمتهم محاكمة عادلة أو على الأقل إرجاع المطرودين والمشردين من بيوتهم حتى الآن. ولقد صمتت رؤوس الأقباط عندما سرقت أوراق امتحانات أبنائهم وأعطيت درجاتهم لغيرهم وأجبروا على إعادة السنة. لقد صمتت رؤوس الأقباط عندما قبض على أولادهم القصر وحكم عليهم بأقصى العقوبات لتصويرهم ٣٠ ثانية لنقدهم لداعش الجماعة الإرهابية التى تقاتلهم حكومتنا الإسلامية الآن في سيناء. لقد تهرأ غطاء الرأس القبطي ولم تعد له هيبته التى كانت له منذ قديم الزمان، فلم تعد لكلوسات ولا ياقات الرياسات القبطية احترامها الجزئي التى كانت تتمتع به قبل بداية ثورتنا المباركة. لقد حاول المسئولون في الحكومة ترقيع غطاء رأس القبطية المصرية بتواجد ممثليهم في خارطة الطريق، أو بزياراتهم في كاتدرائياتهم وكنائسهم، أو في وعود قدمت إليهم بتصليح وإعادة بناء كنائسهم التى تهدمت نتيجة لتأييدهم الحكومة المصرية الحالية، وما كل هذا سوى رقع جديدة في ثوب عتيق. فرقعة حضور الرئيس إلى احتفالات عيد الميلاد، بالرغم من أنه يشكر عليها، لن تعالج ثوب القبطية العتيق، بل هي رقعة جديدة في ثوب عتيق فعند غسل الثوب القبطي في مياه الحق، ستنكمش هذه الرقعة وسيصبح الخرق أردأ، كما قال سيدنا المسيح له كل المجد. ورقعة بناء الكنائس القليلة من الكثير الذي تهدم ستنكمش أمام عدد الكنائس المهدمة وستظهر تقصيرات البانين ويصبح الخرق أردأ. ورقعة قانون بناء الكنائس ستنكمش عند التنفيذ العملى لتطبيق القانون وستصبح واضحة في ثوب القبطية وسيصبح الخرق أردأ. وإختيار كنيسة بعينها، كهذه الكنيسة التى نحن بصددها، والعمل على سرعة إصلاحها وإعادتها، حتى إلى أحسن مما كانت عليه، ستصبح رقعة جديدة في ثوب إعادة بناء الكنائس الأخرى المحرقة بالنار مثلها منذ أكثر من ثلاث سنوات. فليس هناك معنى أو تفسير لسبب الإسراع في إعادة بناء هذه الكنيسة بالذات قبل قداس الاحتفال بعيد الميلاد سوى أن هناك الكثير من الشخصيات الأجنبية والسفراء ورجال الإعلام الأجانب الذين سيحضرون ذلك الاحتفال، الذي أؤكد أن البابا تاوضروس لن يقبل تحت أي بند من البنود إلغائه حدادًا على الصغار والكبار الذين راحوا ضحية الهجوم الغاشم على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، حفاظًا على صورة مصر أمام العالم كله وربما خوفًا من أن ينتهي به المطاف إلى ما انتهى به سابقه من تحديد إقامته في الدير مع ثقتي الأكيده باختلاف السيسي عن السادات في كثير من الأشياء وحكمته التى لن تدفعه للعب بهذا الكرت الخطر على مستقبل مصر، فهذا ما ينتظرونه ويطلبونه أعداؤها في كل مكان.
أخيرًا أقول، إن معالجة حادث واحد أو إعادة بناء كنيسة أو أخرى أو إطلاق سراح مسجون مسيحي أو آخر، أو زيارة الرئيس السيسي للكاتدرائية والتهنئة بعيد الميلاد، أو حضور دفن شهداء قضى عليهم في أثناء صلاتهم وعلاج الحوادث بصفة فردية من غير وضعها في خطة علاج شاملة للقضية القبطية، أو غيرها من المواقف، لا تزيد على كونها إضافة رقعة جديدة لثوب القبطية المصرية العتيق، فمنظومة الأقباط ككل لابد أن تتغير، تلك المنظومة العليلة التى تشمل التعليم بكل ما فيه، ومن فيه من رياسات وموظفين ومدرسين تربوا على التفرقة الدينية والإحساس بالأفضلية على المسيحيين أصحاب الأرض الأصليين، ومنظومة المناهج التعليمية التى تعلم أطفال الحضانة تكوين جملة صحيحة تبدأ بالألف فتكتب لهم: “إن الدين عند الله الإسلام”، والجملة التي لابد أن تكتب لتعليم الأطفال الكتابة بخط سليم هي “كل دين غير الإسلام باطل”، في كتاب مدرسى يدفع المسيحيون أموال ضرائبهم لطباعته. لذا فرقعة التعليم في الثوب القبطي العتيق لابد أن تتغير. ثم رقعة تجديد أو تعديل الخطاب الديني في الجوامع والبيوت والمدارس والحياة الروحية ينبغي أن تتغير، وغيرها وغيرها من الرقع الجديدة في الثوب العتيق. ولست أظن أن هذا الثوب سيحتمل المزيد من الرقع، فقد أصبح غير قابل للترقيع أكثر من ذلك. وتغيير الثوب العتيق للأقباط في مصر لن يأتي بطريقة سلمية إنسانية عقلانية، ولن يأتي بطريقة همجية عدائية حربية للمجتمع ومن فيه أو للحكومة ومن يتسلطون عليها. إن تغيير الرداء القديم لن يبدأ إلا بالتوبة من الكنيسة بكل رياساتها أولاً وعلى اختلاف طوائفها واعترافهم لله بالصوم والصلاة أنهم أخطأوا هم وآباؤهم وباباواتهم الأولون وارتدوا عن التعليم الصحيح المسلم لنا مرة من المسيح وتلاميذه وانشغلوا بأنفسهم وكراسيهم وممارساتهم الدينية منذ آلاف السنين ولم يصرخوا له وحده بالتوبة والرجوع إليه من القلب ولذا أرسل لهم روح ضد المسيح، قادمًا في جيش عربي لا يؤمن بكتابهم المقدس وكلماته، التى عملوا هم كأقباط عكس ما فيه من حق وعكس ما تسلموه من الآباء. روح ضد المسيح الذي لا يؤمن بصلب وقيامة ولاهوت المسيح، أرسله القدير ليفتح لهم مصرهم ويدخلها وأتباعه ضد مشيئة الله آمنين.
لقد وعد تبارك اسمه شعبه قائلاً: “إذا تواضع شعبي الذين دعى اسمي عليهم وصلوا ورجعوا عن طرقهم الرديئة فإني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم”. لذا فعلى الكنيسة القبطية، أي المصرية على اختلاف طوائفها أن تستغنى عن ثوبها القديم وتدفنه في قبر المصلوب والمقام من الأموات، وتطلب من القادر على كل شئ والعليم بما ظهر وما خفي، ثوباً جديداً كاملاً غير مرقع يحدد الروح القدس تفاصيله ودقائقه وتكون الكنيسة القبطية مسئولة على أن لا تقبل به رقعة جديدة أبدًا مهما كلفها الأمر حتى من شهداء في تنفيذ خطتها لحفظ ثوبها الجديد بلا خروقات أو رقع أو دنس من العالم، أو أن تظل الكنيسة القبطية المصرية عارية دون ثوب كأمها الكنيسة الأم المكتوب عن أعضائها أنهم “بالإيمان: قهروا ممالك، صنعوا برًا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، اطفأوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقووا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء، أخذت نساء أمواتهن بقيامة. وآخرون عذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. وآخرون تجربوا في هزء وجلد، ثم في قيود أيضًا وحبس. رجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلاً بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى، معتازين مكروبين مذلين، وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض”. هذه هي الكنيسة التى تحدت العالم وغيرت العالم وانتصرت على العالم وأطاحت بأقوى الإمبراطوريات وصمدت إلى النهاية ورفضت بشدة أن يتدنس ثوبها العتيق، ولم تفكر في يوم من الأيام أن ترتدي ثوبًا مرقعًا غير مميز المعالم وعندها لابد من تدخل إلهها لسترها بقوته وطريقته، فهو سبحانه لا يعدم وسيلة لتحقيق ما يبغي، فهو القدير على كل شئ.