في 28 نوفمبر من عام 2001، أى بعد أحداث 11/9 بأقل من ثلاثة شهور، عقدت جمعية الاختيار الحر الكاثوليكية ندوة في البرلمان الأوروبى تحت عنوان: دور الدين في صياغة السياسة الدولية. ومغزى العنوان، في رأيي، يكمن في أن الدين له دور مماثل في هذه الصياغة ولكن بشرط ألا يكون إضعافًا للعلمانية أو بالأدق ألا يكون داعمًا للسلطة الدينية في حالة إحساسها بأن إيمان أتباعها أصبح موضع شك، وهو أمر من شأنه أن يدفع هذه السلطة إلى فرض سلطتها على الدولة العلمانية. بل إن مغزى العنوان يكمن في لزوم إثارة العلاقة بين دور الأديان في مقابل دور الأمم المتحدة باعتبار أن الاثنين ينشغلان بصياغة السياسات الدولية.
ولا أدل على صحة هذه العبارة من أن الأصوليات الدينية مهمومة بما يدور في منظمة الأمم المتحدة، وذلك لدفعها نحو انتقاء قيم من التراث وهي القيم التي تشجب التعددية وتحض على الإجماع كما هو حال الأصولية الإسلامية التي تريد فرض مفهومها عن الشريعة على كوكب الأرض، بل كما هو حال الأصولية المسيحية. فقد قال مؤسسها القس جيرى فولول في عام 1979: كل أملي أن أعيش لأرى اليوم الذي يتم فيه استيلاء الكنائس على مدارس الدولة. ومن هنا كان تحمسه لمشروع حرب النجوم الذي دعا إليه ريجان عندما كان رئيسًا لأمريكا، وكانت الغاية من هذه الحرب نسف الاتحاد السوفيتي في دقيقتين بحيث لا يبقى على كوكب الأرض سوى قوة واحدة هي القوة الأمريكية المؤسسة على أصولية مسيحية.
واستكمالًا لهذه الندوة ارتأيت ضرورة عقد ندوة أخرى في يناير من عام 2003 تحت عنوان: الإرهاب والعقل، بدعوة أن العقل قد أصابه نوع من التغيير بحيث أصبح أداة لتدمير الحضارة الإنسانية بدلًا من أن يكون أداة لتطويرها. وأن هذا العقل في حالة تصاعد على المسرح الدولي وقد قيل في أسباب هذا التصاعد أنه مردود إلى اختراع أسلحة الدمار الشامل، ومن هنا قيل عن هذا العقل إنه عقل أصولي يلتزم حرفية النص الديني ويفرض معتقداته، التي هي في رأيه أوامر إلهية مطلقة على الجماهير ويكفر كل ما عداها من اجتهادات بشرية. إلا أن هذا العقل لم يتمكن من الانفراد بتكبيل الاجتهادات، لأن ثمة ما يناقضه وهو العقل المنفتح الذي لديه القدرة على أن يكون منافسًا للعقل المنغلق إلى الحد الذى فيه أصبح كوكبيًا، وأصبحت مصر معه في الصدارة في زمن الرئيس عبد الفتاح السيسي. ولا أدل على صحة هذا القول من فشل نظرية الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي أفصح عنها في محاضرته التي ألقاها في القاعة الكبرى لجامعة القاهرة في 4/6/2009. وهنا يلزم إثارة السؤال الآتي: لماذا آثر الرئيس أوباما الذهاب إلى مصر بدلًا من تونس مع أن تونس هي أصل الربيع العربي وأن ثورة الجماهير المصرية ضد الرئيس مبارك مماثلة لتلك التي اندلعت في تونس، أي الرفض الحاد للوضع القائم؟ قيل في الجواب عن هذا السؤال إن وسائل الإعلام الدولية قد انبهرت بما حدث من مظاهرات عارمة في ميدان التحرير قام بها شباب جسور وشجاع ومعتاد على الظهور في شبكات التواصل الاجتماعى وهو الأمر الذى أدى إلى مطالبة الرئيس أوباما بضرورة تنحي الرئيس مبارك عن الحكم لأن البديل جاهز وهو الإخوان المسلمين. ثم أعلن هذا المطلب في التليفزيون الأمريكي ولكن من غير إفصاح عما يترتب على ذلك من نتائج باستثناء أمر واحد وهو اعتقاد الرئيس أوباما ومستشاريه بأنهم مقبلون على عصر جديد يتم فيه التغيير بأسلوب سلمى على غرار ما حدث مع غاندى ومارتن لوثر كينج. ومع ذلك لم يخل الأمر من سخرية لاذعة وردت لدى أصدقاء أمريكا في الشرق الأوسط وهي على النحو الآتي: وبعد ثلاثين عامًا قفزت الصداقة من النافذة. فأى نوع من الصداقة تلك التي قفزت من النافذة؟ وبسبب الضغوط تنحى مبارك عن السلطة في 11 فبراير. وعندما أجريت انتخابات الرئاسة في يونيو من عام 2012 فاز محمد مرسي مرشح الاخوان المسلمين. وكانت نبوءة أوباما أن الاخوان المسلمين هم ورثة مبارك في تشكيل الحكومة ومدعمة من قبل أمريكا ماليًا ودبلوماسيًا. وكان هذا رهانًا من قبل أوباما. ولكن ما خفي كان أعظم وهو قرار الإخوان بطمس جميع التأثيرات الغربية وإقامة دولة الشريعة الإسلامية بلا أي نقصان. والمفارقة هنا تكمن في أن الجهاد الإسلامي في مصر قد نشأ منه تنظيم القاعدة بسبب تباطؤ الاخوان المسلمين في تنفيذ المطلوب منهم وهو إقامة الخلافة الإسلامية.. وقد كان من أهم أفعاله الوقوف ضد عدو بعيد وهو أمريكا وعدو قريب وهو الحكومات العربية. ومن هنا تحالف الاثنان: الإخوان والقاعدة في تنفيذ خطة مشتركة وهي قتل الجنود الأمريكان في العراق وأفغانستان واعتبار أمريكا عصابة تستحق الهجوم عليها مع الدعوة إلى تدمير إسرائيل. واللافت للانتباه هنا أنه بعد تنحي مبارك لم يبق في مصر إلا قوتان: القوات المسلحة والإخوان المسلمين والتناقض بينهما حاد. فالقوات المسلحة تحمي هوية مصر الوطنية أما الإخوان المسلمين فإنهم يعتبرون مصر جزءًا من إمبراطورية متخيلة اسمها الخلافة الإسلامية. وفي هذا السياق يمكن القول إن القوات المسلحة هي حائط صد ضد تخيلات الإخوان. ولكن على النخبة أيضًا دور في بناء هذا الحائط وهو مساندة الدعوة إلى تأسيس تيار تنويري يقف على الضد من الأصوليات الدينية التي تتوهم أنها مالكة للحقيقة المطلقة وليس في إمكان أي تيار آخر إزالة هذا الوهم.