معلوم أن الفنون لا ينبع تأطير إبداعاتها بالحدود والموانع، فالفنان هو الإنسان الذي قد يسير في أغلب الأحوال في الطريق الآخر أو المختلف لحركة المجتمع الذي تحكمه عقلية القطيع..
فبات من الأهمية بمكان إمكانية القول بأن الفن هو الصوت الذي قد يرفض أحيانًا هيمنة المطلق الجامد وتسيد الشمولية بكافة تلويناتها ومآربها..
عرِّفوهم أن الفن هو خرق العادة والتمرد على القوالب الجاهزة..
غادروا سطور وحكم ومواقف كتبنا القديمة، وبشروا بفنون الخروج عن السطر والكتابة بتميز النمط ومغايرة اللون بأصوات مشحونة بهموم الناس وإيقاعات حياتهم..
جميعنا نعيش فرصة زمن تولي رئيس يطالب بتغيير الخطاب الثقافي والديني والاجتماعي والقيمي.. فاغتنموها..
· لقد بات ملحوظًا أمر استمرار اجترار حكاوي فرسان التنوير عبر تاريخنا ونجاحاتهم أحيانًا وإخفاقاتهم مرات أخرى في إحداث التغيير المنشود لنعود بهم ومعهم إلى حكاوي عاشوها في بدايات ومنتصف قرن مضى بكل ظروفه وأحداثه ومتغيراته ورجاله وتبعاته…
· ومَنْ منا لم يسمع بطرفة “الديمقراطية” التهمة التي أسقطت زعيم الفكر التنويري “لطفي السيد” في دائرته الانتخابية، وهو مَنْ هو بكل ما قدم من فكر وعمل وطني وتنويري؟
· ومَنْ منا لم يقرأ تفاصيل سيرة ومسيرة وكيل النيابة الشاب “محمد نور الدين” في ساحة العدالة المصرية، عقب حدث ثقافي مؤثر بشكل خاص كان لحدوثه تبعات هائلة، عندما أصدر “طه حسين” كتابه “في الشعر الجاهلي” فكان بمثابة إحداث تفجير فكري في ليلة ساكنة ولكنها حالكة السواد، فكاد بما أقدم عليه أن يحدث جلبة مسموعة الدوي شملت أركان الكيان المصري في كل جنباته، لأن طه حسين كان قد انطلق يحرر فصول كتابه من منطق الشك “الديكارتي” متناولًا بعض الثوابت الراسخة في المجتمع الديني والثقافي، وحيث شكك في أن الشعر الجاهلي معظمه منحول بعد ظهور الإسلام؟ وقد تم سحب الكتاب من الأسواق، واتُهم طه حسين في إيمانه، وعليه قُدم الدكتور العميد إلى المحاكمة بتهمة ازدراء الأديان أمام “محمد نور الدين” رئيس نيابة مصر والذي استجوبه في جلسات مطولة وخلص إلى كتابة تقرير ضافي سيذكره التاريخ طويلًا جاء فيه (ومن حيث إن العبارات التي يقول المبلغون إن فيها طعنًا على الدين إنما جاءت في كتاب في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي أُلِّف الكتاب من أجله، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب توصلًا إلى تقديرها تقديرًا صحيحًا وبحثها حيث هي في موضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسئوليته تقديرًا صحيحًا…)..
· ومَنْ منا لم يتذكر ما كُتب من معلقات المديح تعليقًا على تقديم أحمد لطفي السيد بك خطاب استقالته من منصبه مديرًا لجامعة فؤاد الأول، يوم 9 مارس عام 1932، احتجاجًا على قرار وزير المعارف، حلمي عيسى باشا، بإبعاد الدكتور طه حسين من عمادة كلية الآداب، وتعيينه مفتشًا للغة العربية في وزارة المعارف، وما تم إبرازه من عبارات لطفي السيد في خطاب استقالته لوزير المعارف: أسفتُ لنقل الدكتور طه حسين، عميد كلية الآداب، إلى وزارة المعارف، لأن هذا الأستاذ لا يُستطاع فيما أعلم أن يُعوَّض الآن على الأقل، لا من جهة الدروس التي يلقيها على الطلبة في الأدب العربي ومحاضراته العامة للجمهور، ولا من جهة البيئة التي خلقها حوله، وبث فيها روح البحث الأدبي، وهدى إلى طرائقه، ثم أسفتُ لأن الدكتور طه حسين أستاذ في كلية الآداب تنفيذًا لعقد تم بين الجامعة القديمة ووزير المعارف، وعلى الأخص لأن نقله على هذه الصورة بدون رضا الجامعة ولا استشارتها كما جرت عليه التقاليد المطردة منذ نشأة الجامعة فيما أعرف، كل ذلك يذهب بالسكينة والاطمئنان الضروريين لإجراء الأبحاث العلمية، وهذا بلا شك يفوت على أجل غرض قصدت إليه خدمة الجامعة… ؟
· ومَنْ منا لم يقرأ ما كُتب عن مناظرات فرج فودة في معرض الكتاب، وكيف اغتيل أمام مقر جمعيته “الجمعية المصرية للتنوير” برصاص مأجور مُضلل جاهل لم يقرأ سطرًا من حروف تنويره؟ .. وكيف تكرر الأمر مع “نحيب محفوظ” وغيره من رواد ورموز الفكر والإبداع والتنوير، وبالطبع تتم الإشارة إلى الأيادي السوداء المتورطة في تنفيذ تلك الجرائم أو التي في الخلفية بفكر ظلامي تكفيري إرهابي مقيت؟!
· ويدعم اجترار الحديث عن تلك المظاهر التفاعلية بين أهل التنوير والإبداع وجماعات وأد تنوير المعارف و العلوم والفنون، ما يتم بثه من قبل شباب الفيسبوك (المتابع لصفحات رموز الكتابة التنويرية) من صور ورسوم كاريكاتورية نقدية رافضة لدعوات ظلامية، وأيضًا عقد مقارنات فوتوغرافية لأحوال البلاد والعباد قبل وبعد الغزو القبلي الصحراوي المأفون لأصحاب ذلك الفكر الظلامي .. (بعرض صور من الجامعات ومنتديات الثقافة ومراكز إعلام وحتى مواقع ممارسة الألعاب الرياضية.. الخ) ..
حتى لقد اضطررتُ هنا أيضًا لممارسة ذلك الاجترار كأمثلة على تكرار التناول والعرض، وإن كان في بعض الأحيان يتم طرحه بتنويعات نحاول فيها الابتعاد بقدر ما عن الاجترار التكراري الممل، بإضافة تعليق على حدث ساخن أو تصريح ظلامي متخلف ..
كلام جميل، ومطلوب من حين إلى آخر اللجوء لمثل تلك الشهادات على عصور مضت لإنذار الناس والمجتمعات بأن العربة تعود إلى الخلف، ولكننا لا زلنا نقبع في دوائر رد الفعل .. يقول ويفعل ويمارس أهل التخلف والتفكير الرجعي السوداوي فننتقد ونتحدث عن الأماني والأحلام في مغادرة محطاتهم المعوقة لاستمرار وتفعيل حركة مواكب التنوير.. أمر بات كوميديًا من فرط تكراره لجوء كتابنا لتفتيش كتب السابقين ومواقفهم فقط لبيان ما قاله “طه حسين” في الموقف الفلاني، و ما كتبه “جلال أمين” كقول مأثور وعلاج مقطوع، وما أوصى به “رجاء النقاش” عندما طرح لزوميته النقدية الهامة.. وهم وغيرهم قالوا لزمانهم ولا مانع من الإفادة، ولكن الاكتفاء بذلك الاجترار الفكري الممل أمر مؤسف !!
وقد ورث أبناء عصرنا هذا كل بديهيات العصور القديمة، لأنهم اكتفوا باعتماد نفس التراث وقراءته بنفس مناهج التفكير القديمة، مما أدى إلى ضمور شجرة الإجتهاد وشيوع حالة التقليد والتخلف، ودفع ببعض الاجتهادات التنويرية الطفيفة إلى غياهب كهوف التراجع من جديد!!
هل يمكن لقائل في زماننا الحديث عن أهمية الفن النظيف والمتشطف والمتأدب مواجهته بأن الفن لا علاقة له بالحدود والموانع.. وأن الفنان هو الإنسان الذي يسير دائمًا في الطريق الآخر أو المختلف والمتجدد والمضيء والمبدع لآلية حركة المجتمع الذي تحكمه عقلية القطيع؟