في كل مرة يكون على المسيحي أن يشارك في عمل مجتمعي أو استحقاق انتخابي تحلو للبعض إثارة الأسئلة التالية: ما هو دوري؟ هل يجب على الكنيسة أن تتبنى رأيًا أو توجهًا معينًا؟ هل أشارك أم أقاطع؟ أقول هذا بمناسبة انتخابات الرئاسة القادمة المقررة في الأسبوع الأول من ديسمبر القادم.
وقد انقسم المسيحيون تاريخيًا على ضرورة الاندماج في الحياة العامة، إلا أن الأغلبية الساحقة تجد أن حياة المسيحي هي جزء من حياة المجتمع، ومن الضروري لا بل الواجب أن ينخرط المسيحي في كل نواحي الحياة وأن يكون شريكًا في مسيرة البناء والإعمار. وهناك مجموعة صغيرة تجد مفهوم إيمانها في الانعزال عن الحياة العامة وعدم الاشتراك فيها أو المساهمة فيها بكل النواحي لأنها تلوث حياة الإيمان والنمو الروحي.
قال أحدهم إننا يجب أن ندرك أن للكنيسة “هوية مزدوجة”؛ من جهة شعب “مقدس” مفرز من العالم لا ينتمي إلى العالم، لكنها من الجهة الأخرى أناس “دنيويون” بمعنى أنه أعيد إرسالهم إلى العالم ليشهدوا ويخدموا. وتخطئ الكنيسة عندما تحافظ على قداستها فتنسحب من العالم، أو تخطئ عندما تؤكد فقط على دنيويتها فتنغمس في العالم وتتلوث.
الكنيسة ليست بديلاً على الدولة وليست موازية لها، وإنما هي جزء منها.
يشجعنا الكتاب المقدس: “اطلبوا سلام المدينة.. وصلوا لأجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام” (إش 29: 7).
ويقول القديس أوغسطين إن المسيحي هو مواطن في مملكتين: مملكة الأرض ومملكة السماء، فلكل منهما حق علينا، وعلينا أن نسعى لأن نكون حقًا مواطنين صالحين في كلتا المملكتين، فلا يجوز أن تكون واحدة على حساب الأخرى، ولا يجب أن نبالغ في الواحدة على الأخرى، بل يجب أن نسعى لأن نكون مواطنين في المملكتين. وهناك مَنْ يظن أنه يعيش في السماء متناسيًا أنه يعيش في هذا العالم، وأن له حقوقًا وعليه التزامات وواجبات يجب أن يقوم بها، وهناك مَنْ يعيش في هذا العالم بطوله وعرضه متناسيًا أن يكون أيضًا مواطنًا في مملكة السماء.
كان المسيح مهتمًا بالحفاظ على الصالح العام وعلى القوانين المرعية، ومن كلماته المشهورة عندما اختبره رؤساء الكتبة والفريسيون ليجربوه: “أعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، بمعنى أن هناك حقوقًا للدولة وحقوقًا للوطن علينا أن نؤديها وواجب علينا أن نطيع القوانين والأنظمة المرعية.
ويوصي بولس: “لتخضع كل نفس للسلاطين. لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مُرتبة من الله” (رو 13: 1)، لأن السلطات هي من الله، وهي تَقصد أن تحافظ على النظام وصون الكرامة الإنسانية وتحقيق العدالة بين الناس، فالسلطان هو خادم الله للصلاح (رو 13: 4).
ويطلب منا بولس الرسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس أن تقام صلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس ولاسيما الملوك والحكام لكي نقضي حياة آمنة مطمئنة في كل تقوى ووقار (1 تي2: 1-2)، فالوطن ومسئولية المحافظة على الوطن جزء لا يتجزأ من إيماننا المسيحي، وأصعب وضع على الإنسان أن يكون بلا وطن وبلا هوية، كأن يكون لاجئًا أو مشردًا أو مستعمَرًا أو تحت الاحتلال، لأنه عندها يعرف قيمة الأرض وقيمة الوطن.
أدعوك أن تقوم بواجبك نحو وطنك. شارك بما تريد وانتخب مَنْ تريد، وأنت تختار لا تجعل المصالح الشخصية الضيقة هي التي تحركك؛ أنت تختار لمستقبل وطن؛ أنت تختار لاستقرار أو عدم استقرار وسط منطقة تموج بالاضطرابات والمؤامرات.