“أنا مش قادر أتنفس!”، صرخة مدوية أطلقها الرجل الأمريكي الأسود “جورج فلويد”، من سكان منيابوليس مينيسوتا الأمريكية، وهو ملقى على الأرض، ويداه وراء ظهره، مكبلتان بالكلابشات الحديدية البوليسية، ووجهه متلاصق مع تراب الطريق، ورقبته تحت ركبة رجل البوليس الأبيض “دريك شاڤين” الذي كان قد وضع يديه في جيوبه وضغط على رقبة “فلويد” بركبته لمدة أكثر من ٨ دقائق والأخير يصرخ: “أنا مش قادر أتنفس!”.
صرخة لفت العالم كله بأسرع من البرق، اتفق الجميع على اختلاف نوعياتهم وألوانهم ودياناتهم وخلفياتهم وبلدانهم على أنها صرخة استغاثة إنسانية ،كان لابد من التعامل معها بصورة مختلفة تمامًا عن تلك الطريقة التي اتبعها وتعامل بها رجل البوليس الأمريكي الأبيض. وخاصة عندما أعلن “چورچ فلويد” أنه لا يستطيع أن يتنفس، الأمر الذي كان لابد أن يحتم على رجل البوليس أن يرفع ركبته عن رقبته سريعًا وفي الحال، ويضمن سلامته الجسدية، ويتأكد أنه قادر على أن يتنفس، فهذا هو الهدف الأول والأهم من وجود رجال البوليس على أية حال، وبعدها يمكنه أن يتخذ أية إجراءات أخرى ضده، تخولها له وظيفته كرجل شرطة، وتخولها له العدالة والقانون والإنسانية والمسؤولية.
وكما هي عادتي عند وقوع أي حدث محلي أو عالمي، وحيث أنني أؤمن أن هذا العالم الذي أعيش فيه، والذي نعيش فيه جميعًا، ليس عالم مادي فقط، بل هو عالم روحي أيضًا، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر وخاصة في عقلي وكياني وانتمائي واهتمامي، لذا فإنه من المستحيل على نفسي أن أفكر أو أقبل أو حتى أفهم ما يدور في عالمنا المادي إلا من خلال فهمي للعالم الروحي الذي نعيش فيه جميعنا أيضًا. وعندها يصير من العسير بل ومن المستحيل عليّ أن لا أقارن بينهما وما يحدث بهما، أي بين ما يحدث في العالم المادي وما يحدث في عالم الروح، وبالتحديد مع أتباع المسيح يسوع – تبارك اسمه – في الكنيسة التي هي جسده.
ولنبدأ بالمقارنة، فمن الواضح الذي لا شك فيه أن هناك في الأرض تمييزًا عنصريًا مبنيًا على جنسية الشخص وعلى لون البشرة بين البيض والسود، المهاجرين المقيمين أو حتى المولودين في أمريكا، فهذه حقيقة لا ينكرها إلا كل مغرض كذاب، والواقع أيضًا إن هذا التمييز لا يوجد في أمريكا وحدها، بل في كل بقاع العالم المتخلف والمتحضر على السواء، وبالتالي في مصر والبلاد العربية، وهذا التمييز على اختلاف أنواعه هو من مرض روحي خطير من صنع أبليس، الحية القديمة الذي هو الشيطان. بدأت تظهر أعراضه وسرعة انتشاره في لحظة سقوط آدم وحواء في الخطية، لحظة أن أراد آدم أن يفصل بينه وبين امرأته حواء، حين أجاب سؤال المولى القدير له: “هل أكلت من الشجرة التى قلت لك لا تأكل منها” فأجابه آدم: “المرأة التى جعلتها معي “هي” أعطتني من الشجرة فأكلت”، ثم توالى ظهور التمييز العنصري المبني على نوع الدين والمعتقدات والإيمانيات يوم قام قايين الشرير على أخيه وقتله، بسبب رفض المولى تبارك اسمه لذبيحته وقبول ذبيحة أخيه هابيل. ثم تغلل هذا التمييز العنصري حتى وصل إلينا جميعًا وإلى حياتنا اليومية. والدليل على ذلك أنه في كثير من البلاد العربية إذا دعاك حظك العاثر، وأجبرك الاحتياج المادي أن تتغرب وتعيش بأحدها كمصري، فسترى بعينيك التمييز في القبول والمعاملة والمرتب، بينك وبين أهل البلد العربي الذي تقيم فيه، وأيضًا بينك كأجنبي تقيم في هذه البلاد وبين بقية الأجانب الوافدين إليها من بلاد أخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر، مرتب الشخص الذي يحمل فقط الباسبور المصري الأخضر يكون نصف مرتب زميله المصري الحامل للباسبور الأمريكي الأزرق، ومرتب المصري الحامل للباسبور الأمريكي الأزرق يكون نصف مرتب الأمريكي أو الأوروبي الأبيض الذي يحمل الباسبور الأزرق أو الأحمر وهكذا، ولا يأخذ أهل هذه البلاد بعين الاعتبار الظلم الواقع على المصري، وحتى لو كان الحامل للباسبور المصري الأخضر فقط أكثر كفاءة وعلمًا وأسرع بديهة وذكاء وأكثر عملاً واجتهادًا وحاصلاً على أكبر الشهادات العلمية من أعظم الجامعات أكثر من غيره من زملائه الأمريكان أو الأوروبيين.
صورة أخرى من صور التمييز العنصري على أساس اللون الأبيض والأسود في بلاد مثل الأردن ولبنان وخاصة العراق، عند حديثهم عن شخص أسود أو حتى أسمر اللون لا يصفونه بأنه أسود بل يلقبونه بالعَبد، مستبدلين كلمة أسود أو أسمر بكلمة عبد.
كانت أول مرة أعرف فيها هذه المعلومة عندما جلست مع بعض الإخوة والأخوات العراقيين الأحباء والأعزاء إلى قلبي، كنا نتكلم عن مدى محبة المصريين لقزقزة اللب الأسمر والفول والسوداني وما نسميه في مصر بالمكسرات، وجدت الإخوة العراقيين يطلقون على اللب الأسمر، الْحَبْ المصري، أما ما نعرفه نحن المصريين “بالفول السوداني” فهم يطلقون عليه اسم “فستق عبيد”، عندما سمعت، لأول مرة، هذه العبارة التي كان الجميع يتداولونها بتلقائية دون انتباه لمعناها، فهمت معنى الفستق، أما كلمة عبيد، فلم أفهم ما موقعها في الحديث عن الفول السوداني، سألتهم فستق وعرفناه، وعبيد من أين جاءت، ضحك الحضور وأجابني أحدهم العبيد بدل كلمة السوداني، أي الأسود عمومًا، وليس أهل السودان، نحن نطلق عليه عبد، أي أسود، لم يكن الأمر بالنسبة لي مضحكًا، بل في الحقيقة مبكيًا، للدرجة التي كان لزامًا عليّ أن أعظ في كنيستي “الحصاد الأخير” ضد هذا الأمر بالذات، وضد كل ما يفرق بين أعضاء جسد المسيح بما في ذلك لون البشرة، فكيف نتجرأ، نحن أبناء الشرق الأوسط، وخاصة المسيحيين وعلى وجه التحديد نحن المؤمنين بالمسيح الذي أوصانا بكل بوضوح، مستخدمًا بولس الرسول أن يكتب لنا وبحصر اللفظ عن المساواة بين الناس مهما كانت اختلافاتهم اللونية والعرقية والجنسية بالقول: “ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذًا نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثة”، أي إننا جميعًا من نسل إبراهيم الخليل حسب الروح، ولذلك فنحن جميعًا ورثة البركة التي وعد بها المولى عبده إبراهيم، ما دمنا في نسله، أي في المسيح يسوع واحد، حتى ولو لم نكن من نسل إبراهيم حسب الجسد أي من اليهود العبرانيين.
سألت نفسي: كيف سافرت صرخة “فلويد” وهو رجل أسود واحد ووصلت للعالم كله في دقائق معدودات، وتفاعل معها الملايين عبر العالم، ولم تصل صرخات الآلاف بل الملايين المضطهدين والمنبوذين من كل قبيلة وأمة وشعب ولسان وخاصة من المسيحيين في مصر والسودان وليبيا والأردن وفلسطين والعراق واليمن ودول الخليج وتونس والمغرب وموريتانيا، بل وكل بلدان العالم شرقه وغربه؟
كيف وصلت صرخة “فلويد” الرجل الأسود الواحد وهو المسجل ضده في مراكز البوليس والمحاكم المختلفة في أمريكا، مجموعة من الجرائم تتراوح بين السرقة وحيازة وبيع وتعاطي مخدرات وحمل سلاح قاتل دون ترخيص وتحرشات جنسية وغيرها، والتي تم القبض والتحقيق معه وسجنه بسببها ٩ مرات متفرقة خلال المدة من سنة ١٩٩٧ إلى ٢٠٠٧!
ومع ذلك، ومع رفضي التام لقتله بهذه الطريقة الوحشية بواسطة رجل البوليس المجرم الذي قتله، إلا أنني أتساءل: كيف وصلت صرخة هذا القتيل المجرم إلى العالم كله!، وكيف تحرك المتظاهرون في العالم كله دفاعًا عن هذا المجرم ولم تصل صرخات المساكين الأبرياء الذين تم قتلهم بواسطة الشرطة المصرية، أو الجيش المصري، بدأً من حادثة الخانكة وأحداث الزاوية الحمراء وما قبلها ومرورًا بالكشح وكنيسة القديسين وطحا العمودين تلك التي قتل فيها ضابط بوليس شاب كاهن وشماس عندما أطاح بالعربة التي كان يستقلهم بها في النيل فغرق القسيس والشماس ونجى الضابط والمخبر المصاحب له وهم في طريقهم إلى قسم البوليس للتحقيق معهم في جريمة بناء جزء منهدم من سور الكنيسة!
ثم كيف تم التصوير والتحفظ على الفيديو الذي ظهر فيه رجل البوليس الأمريكي يضع ركبته فوق رقبة المجرم “فلويد” ووصل إلى العالم كله في دقائق معدودات ولم يتم تصوير كل الاعتداءات على الأبرياء من المسيحيين الذين توضع يوميًا فوق رقابهم لا الركب فحسب بل الأحذية وكل منهم يصرخ نفس الصرخة: “أنا مش قادر أتنفس!”!
كيف يعتبر الأمريكان، على اختلاف طوائفهم والوانهم، ما عمله رجل بوليس واحد وكأن البوليس الأمريكي كله قد أخطأ في كل منهم شخصيًا، ولا يكترث المصريون وسكان البلاد العربية لملايين الصارخين من كل الأديان والخلفيات “أنا مش قادر أتنفس!”.
إذا كان الأمريكان يعتبرون موت رجل واحد، رجلاً خارج على العدالة والقانون مجرم كفلويد، تحت ضغط ركبة رجل بوليس واحد، في الشارع وفي وضح النهار وأمام الجميع، يعتبرونها جريمة لا تغفر وتتطلب إعدام رجل البوليس الفاعل لها، فماذا عساهم اعتبار وكيف يصفون ما دونه في كتابه “علشان ما تنضربش على قفاك!” الأستاذ عمرو عفيفي الذي كان ضابطًا في الشرطة المصرية لمدة ٢٠ عامًا، والمحامي بالاستئناف العالي، والذي عمل ضابطًا بالأمن المركزي، والعمليات الخاصة، وشرطة النجدة، وضابط مرور، وضابطًا بمباحث المخدرات، ومكافحة جرائم النشل، ومأمورًا لسجن الإدارة العامة لمباحث القاهرة، والأهم من كل هذا أنه الحقوقي المدافع عن حقوق الغلابة والمضطهدين في مصرنا المحروسة، ما دونه من وسائل تعذيب المساجين بأقسام البوليس والسجون والمعتقلات المصرية. في الخفاء بعيدًا عن ضوء النهار، وكاميرات المصورين وتليفونات المتلصصين. ذلك الكتاب الذي كتبت عنه مقال سابق بعنوان “وبرضه هتنضرب على قفاك”، وهي موجودة حتى الآن على موقع جريدة “الطريق والحق”.
فلقد لخص الكاتب في وثيقته، وهو أدرى بما يكتب لأنه شاهد عيان، بل ومشارك في ممارسة طرق التعذيب المذكورة، كتب سيادته سبعة عشر نوعًا من أنواع التعذيب التي تمارس في أقسام البوليس والسجون المصرية، بدءًا من:
١- الضرب بالكفوف. ٢- الجلد. ٣- التفليك أي استخدام الفلكة.
وهذه الطرق الثلاث السابقة تعرض لها كل من حاول البوليس انتزاع اعترافات من فمه لجريمة لم يرتكبها، كما تعرض لها، لا المتنصرين وحدهم، بل تعرض لها أحد خدام الرب الأمناء المسيحي المنشأ، للاعتراف بجريمة لم يرتكبها ولولا أن أنقذه الله القدير القادر على كل شيء في اللحظات الأخيرة قبل ترحيله للنيابة لسماع الحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، أنقذه بطريقة إلهية معجزية وأثبت براءته لكان قد حكم عليه ظلمًا. ويكمل الأستاذ عفيفي ذكر طرق التعذيب المختلفة في السجون المصرية برقم ٤- التعليق على الباب. ٥- الكهرباء بماكينة التليفون الأسود. ٦- التغريق سواء في الماء العادي أو مياه مجاري وسخة، على حد قول الكاتب. ٧- التبول في الفم، واحد يفتح الفم والثاني يتبول فيه. ٨- السلخ عن طريق الماء الساخن. ٩- الخازوق بوضع عصاة في دبر المحجوز أو برجل الكرسي المقلوب. ١٠- النمل وهذا التعذيب بالسكر. ١١- التهديد بالاغتصاب، أو الاغتصاب الحقيقي وهذا ما حدث بالفعل للعديد من أصدقائي من خلفية إسلامية الذين قبلوا المسيح يسوع مخلصًا شخصيًا لحياتهم وردوا كثيرين للطريق الوحيد لدخول السماء والنعيم الأبدي. ١٢- التهديد باغتصاب الزوجة أو الأخت أو الأم أمام عيني المحجوز، وهذا الذي حدث لصديق آخر لي من الذين عرفوا المسيح يسوع مخلصًا لحياتهم بعد الاعتداء عليه هو نفسه جنسيًا أربع مرات من أحد ضباط أمن الدولة المصرية، أمره بعدها الضابط أن يحضر امرأته معه في المرة التالية للاعتداء عليها هي أيضًا، ولولا رحمة الله لحدث لها ما لا يحمد عقباه، لكن الإله القادر على كل شيء أنقذها من هذا الفعل الإجرامي الذي كان سيحدث لها من هذا الضابط الشرير وهما الآن خارج مصر ينعمون بحياة كريمة ويصلون لأجل الذين أساءوا إليهم وطردوهم وعذبوهم في مصر، كما أوصاهم سيدهم المسيح يسوع، تبارك اسمه. ١٣- الوضع في الدولاب الضيق جدًا والمليء بالقاذورات والحشرات والروائح الكريهة، وهذا ما وضع فيه أحد أصدقائي المسيحيين المقربين لمدة ثلاث ساعات كاملة عقابًا له على رد إحدى المسيحيات المخطوفات إلى أهلها قبل أسلمتها، وعندما أخرجوه من الدولاب، أجبروه أن يجري في شارع الكورنيش بمحطة الرمل بمدينة الإسكندرية عاريًا تمامًا من كل ملابسه بلا استثناء في ليلة من ليالي الشتاء القاسية، وصوروه لمن رآه وكأنه مجنون يجرون وراءه ويحاولون السيطرة عليه وهو أيضًا الآن خارج مصر. ١٤- النفخ بالكمبريسور والضرب على البطن، الطريقة التي ذكرها بالتفصيل الفنان “السيد نعيم” لاعب دور رئيس عام المخابرات والمسؤول الأمني الكبير بمسرحية الزعيم للفنان عادل إمام، كما وصف أيضًا السيد نعيم طريقة نزع الأظافر وسلخ الجلد من اللحم والكلاب المسعورة في محاولة لنزع اعترافات من عادل إمام. ١٥- التعذيب بالإيحاء عن طريق إسماع المقبوض عليه أصوات الصراخ لآخرين يتعذبون في غرف التعذيب التي مررت أنا شخصيًا من أمامها في مبنى لاظوغلي عدة مرات، لاستجوابي المتكرر عن نشاطي الديني بين الشباب المسيحي المصري. ١٦- التهديد بالكلاب. ١٧- التعذيب بالعطش والجوع والإرهاق والوقوف لمدة طويلة دون جلوس.
والجدير بالذكر إن البوليس في مصر وفي معظم البلدان التي يحدث فيها ما سبق ذكره يمنع دخول التليفونات المحمولة للتأكد من عدم تصوير مثل هذه الجرائم الإنسانية الأخلاقية التي يرتكبها رجال وجدوا من الأصل لحماية والدفاع عن المواطن العادي البسيط الذي لا حول له ولا قوة أمام شر الأشرار ومكائد الكبار. ولو كانوا جادين في منع مثل هذه الجرائم، لقاموا بتشجيع كل من يتردد على أماكنهم على تصوير ما يرونه مخالفًا للقوانين والآداب.
ولعل ما أخبر العالم عن ما تم لفلويد لحظة بلحظة هو شريط الڤيديو الذي تم تصويره ولم يعترض البوليس الأمريكي على تصوير أي من الواقفين في أرض الحادثة لما جرى لفلويد، ولقد أصبح هذا الڤيديو وسيلة انتشار، ومعرفة ما حدث، وأساس بنيت عليه حيثيات الاتهام لضابط البوليس الذي قتله، وسيصبح سببًا في إدانة وسجن كل من تورط في هذه الجريمة النكراء.
أليس من المفروض أن الشرطة تكون في خدمة الشعب؟، ذلك الشعار الجميل الذي كان يكتب فوق مداخل أقسام البوليس في أيام عبد الناصر رئيس جمهورية الثورة وأوائل حكم الرئيس المؤمن الذي اتخذ من الشرطة أداة لتنفيذ مخططاته الشريرة خاصة ضد المسيحيين، ثم قام بإلغاء شعار الشرطة في خدمة الشعب واستبدله بشعار “الشرطة في خدمة القانون”. فأصبح هو واضع القانون وهو من كلف الشرطة بحماية وخدمة القانون الذي وضعه سيادته وبالتالي، فبمعادلة حسابية بسيطة يمكن فهمها من طلبة الإبتدائي أصبحت الشرطة في خدمته كرئيس للجمهورية. تأتمر بأمره، تخرص لسان من يغضب عليهم وتطلق لسان من تريد أن تستخدمهم لخدمته، ولم يختلف الحال في عصر مبارك من جاء بعده، فأصبح خير خلف لخير سلف.
أما عن انقطاع النفس بسبب ركبة رجل البوليس الضاغطة على رقبة المواطن العادي، فهذا أمر طبيعي يحدث في كثير من البلدان التي تدين بأديان لا تؤمن بحرية المرء الإنسانية في اختيار مصيره الأبدي والدين الذي يتبعه والإله الذي يعبده، وبالرغم من أننا لم نسمع عن رجل شرطة عربي قد قام حرفيًا بعمل ما عمله رجل البوليس الأمريكاني، إلا أننا نرى هذا الأمر يحدث يوميًا مع اختلاف الضحايا واختلاف الركب. فهذه ركبة موضوعة على رقبة أب طفلة صغيرة لم تبلغ السن القانونية بعد لتختار لنفسها أي دين تتبع، فيتم خطفها ويصرخ أبوها بأعلى صوته: “أنا لا أستطيع أن أتنفس!” بسبب ركبة غياب ابنتي وعدم معرفتي أين هي، وماذا تفعل الآن، أو ماذا يُفْعَل فيها وبها، “أنا لا أستطيع أن أتنفس!” بسبب ركبة العار، وركبة نظرات الناس، وركبة المجهول الذي ينتظرني وينتظر ابنتي، وركبة القضاء الذي أعلم أنه لن ينصفني، وركبة الأزهر الذي يسرع باستخراج شهادة أسلمة ابنتي القاصر، وركبة رجل البوليس الذي يرفض أن يسجل لي محضرًا بالواقعة وغياب ابنتي، وأخيرًا ركبته التي يضعها فوق رقبتي عند إجباري للاستسلام للأمر الواقع والتوقيع على مستند بعدم التعرض لابنتي أو الاقتراب منها. وعندها تكون نهايتي أسوأ من نهاية “فلويد”!
فالركبة التي وضعت على فلويد كانت ركبة واحدة لرجل واحد، أما أنا فالركب التي وضعت على عنقي، فهي كثيرة ومتنوعة لرجال عدة .
الركبة التي وضعت على فلويد أنهت حياته على الأرض، فلم يعد يشعر بأية مشاعر أرضية من حزن أو فشل أو خيبة أمل، أما أنا فالركب التي وضعت على عنقي لم تنهِ حياتي، وليتها فعلت وقتلتني، لكن هي تقتلني كل يوم عدة مرات!
الركبة التي وضعت على رقبة فلويد كانت سببًا لمعرفة العالم كله لما حدث معه وتعاطف العالم كله معه والخروج في مظاهرات واحتجاجات ومطالبات بتنفيذ العدالة في قضيته وتعويض أهله عن خسارتهم بوفاته، أما أنا فالركبة التي توضع على عنقي كل يوم لا يراها أحد ولا يعرف عنها أحد سوى الأقربين مني، ولذا لم يتعاطف معي أحد، ولم يجرؤ أحد بأن يخرج في احتجاج أو مظاهرة أو حتى مطالبة بصوت خافت لتعويضي عن خسارتي التي هي في الحقيقة لا تعوض إلا فقط بإرجاع المسلوب مني.
الركبة التي وضعت على رقبة فلويد جعلت منه بطلاً ورمزًا من رموز الحرية والمطالبة بالمساواة وإطلاق شعار: “حياة الأسود مهمة”، أما الركبة التي وضعت عليّ كانت سببًا في ازدياد الطاغية في طغيانه، وسببًا في حبس أنفاسي وكلماتي، ورفعت اللافتاب بطريقة او بأخرى تقول “حياة المسيحي ليست مهمة”، وقالت أخرى الركبة التى وضعت على رقبتي أضاعت من حياتي سنة، وجعلتني احصل على صفر في امتحان الثانوية العامة، أنا الطالبة المتفوقة، ولم يتحرك أحد ولم يقبض على المجرم الذي عمل بي ذلك، ولم يخرج أحد من القريبين أو البعيدين في مظاهرة واحدة يطالبون فيها برفع الركبة عن رقبتي، وقالت ثالثة الركبة الظالمة التى وضعت على رقبتي هي أخذ أموال الضرائب التى ادفعها عني وعن أولادي وصرفها على كليات ومعاهد دينية يعلمون فيها طلبتهم كيف يكرهونني ويسبونني، وعندما تسنح لهم الفرصة يقتلونني وأنا أصرخ: “أنا مش قادر اتنفس”، لذا فطلبنا جميعًا الموت لأنفسنا ولم نجده.
لقد أسرع رئيس البوليس المسؤول عن الضابط القاتل بإقالته هو ومن معه وسجنهم وتوجيه تهمة القتل العمد لكل من الأربعة ضباط الذين تواجدوا في محيط الحادث، أما نحن في المحروسة، فلم نسمع عن ضابط أقيل من منصبه لقتله مواطن مصري من أي دين وخاصة لو كان مسيحيًا، بل ما نفعله هو أن نلوم القتيل، أو على الأقل نفرج عن القاتل ونتركه يرجع إلى قريته ليحتفل بإطلاق سراحه أمام عائلات من قتل أبناءهم، كما حدث في قرية الكشح وغيرها. ونجبر أهل القاتل على جلسة صلح أو ما يعرف بالجلسات العرفية التي فيها يجبر المظلوم على الاعتذار للظالم، وفي معظم الأوقات يحكم عليه بترك قريته والنزوح منها.
لقد تركت أمريكا المتظاهرين ليطوفوا شوارع الولايات الأمريكية جميعها تعبيرًا عن رفضهم لجريمة قتل “فلويد”، مع أن الكثير منهم قاموا بأعمال عنف لا مبرر لها، أما في بلادنا فيمنع أهل القتيل من تسجيل الواقعة في قسم البوليس، ويظل الأهل مختفين لأيام أو أسابيع أو حتى شهور خوفًا من غطرسة القاتلين الظالمين. فأقصى حدود ما يمكن أن يعمله أهل القتيل هو أن يسلموا أمرهم لله، أما بقية من حولهم من المصريين، فأقصى ما سيعملونه هو مصمصة الليمون والترحم على من وقع عليه أو عليها الحادث، وسيرفع الغلابة أيديهم لله، داعين من قلوبهم وحناجرهم أن ينتقم لهم المولى من الفاعلين، أما إذا كان هناك من أهل الميت أو المخطوفة ابنته جريئًا بزيادة فأقصاها سيكتب عن بعض ما يعتمل في قلبه من نيران على صفحته بالفيس بوك، أو سيتصل بإحدى القنوات المسيحية الفضائية شاكيًا باكيًا متوسلاً لإرجاع مخطوفته. وسيبدأ أصحابه إن كانوا يعرفون مبدأ: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أن يطلبوا له الصبر والسلوان ولروح الفقيدة أو الفقيد راحة ونياحة في أحضان القديسين ولأهله عزاء من السماء مع تكرار الآيات المبسترة والتي تنفع لكل من فقد عزيز له، تلك التي ما قيلت لتستخدم في هذه المناسبات الأليمة مثل: “مع المسيح ذاك أفضل جدًا”، أو طوبى للأموات الذين يموتون في الرب وهكذا.
أما البوليس والقضاء المصري، فسيتعامل مع القضية باتهام القاتل بأنه مختل عقليًا، حتى لو كان قد تنقل بين ثلاث كنائس في الليلة الواحدة ليقتل منها أفرادًا، أو أعدوا كمينًا وحبسوا المسيحيين في بيوتهم لعدة أيام قبل الهجوم عليهم، وفي النهاية لا يسفك دم مسلم بدم كافر، حتى لو كان مسيحيًا.
أعلم أن المقارنة ليست عادلة بين بلد عاش أهله عبيدًا لفرعون مصر، منذ أن أذلهم يوسف العبراني وخزن القمح الذي أجبر المصريين الغلابة على توريده لفرعون ووزير زراعته وماليته وخزائنه في وقت الرخاء وامتنع عن رده لهم في وقت الاحتياج إلى آخر رئيس سيأتي ليملك على مصر، حتى قيام الساعة وبين بلاد تعيش الديمقراطية الحقيقية ومن حق كل من يعيش فيها أن يتكلم وينتقد ويحتج ويتظاهر في حماية البوليس الذي قد يكون التظاهر ضده وحماية الدستور والقانون الوضعي للبلاد الذي يطبق على الصغير والكبير، من يستطيع أن يتنفس ومن يصرخ: “أنا مش قادر أتنفس!”.