يحتفل المسيحيون حول العالم بميلاد المسيح، ذلك الميلاد الذي قسم التاريخ إلى قبل الميلاد وبعد الميلاد. والميلاد حقيقة كتابية (يشهد بها الكتاب المقدس) وتاريخية (يشهد بها التاريخ المسيحي وغير المسيحي).
تنبأ بميلاد المسيح عدد من أنبياء العهد القديم وعلى رأسهم النبي إشعياء والنبي ميخا قبل ميلاد المسيح بأكثر من 750 سنة، فالنبي إشعياء يتحدث عن الطريقة التي يولد بها المسيح، فيحدد ميلاده من عذراء: “يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه «عمانوئيل».” (إش 7: 14)، ويحدد أيضًا صفاته: “لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام” (إش 9: 6).
ويحدد النبي ميخا بدقة مكان مولده: “أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنتِ صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل” (مي 5: 2). وقد تحققت هذه النبوات في العهد الجديد: “الروح القدس يحل عليكِ (مريم)، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو 1: 35)، ويؤكد يوحنا: “الكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب” (يو 1: 14).
والتجسد لا يعني تحول الله إلى إنسان، أو أن الذي كان في بطن العذراء جزء من اللاهوت: “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا” (كو 2: 9). والتجسد لا يعني تحيز اللاهوت في الجسد لأن اللاهوت مالئ الكل ولا يخلو منه مكان ولا زمان، فقد حل الله في العليقة التي تتوقد بالنار ولا تحترق، وهذا لا يعني تحدد الله وتحيزه في العليقة، وحتى عندما استوى الله على العرش لم يخل الكون منه.
ويمكننا أن نقول إن التجسد يعني أن غير المنظور صار منظورًا، وغير المحسوس صار ملموسًا، ومَنْ هو بغير جسد صار له جسد حقيقي.
ومن أكثر المقاطع الكتابية التي تشرح عمق التجسد النص الذي جاء في رسالة كنيسة فيلبي: “لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا: الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خُلسة أن يكون معادلًا لله. لكنه أخلى نفسه (لم يكن لديه شيء يحسبه أعظم من أن يضحى به)، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب.”
كان أمام المسيح أن يتمسك بمعادلته لله، لكن لم يكن لديه شيء يحسبه أعظم من أن يضحى به، ولأجل هذا أخلى نفسه (وليس تخلى عن نفسه أو تجرد من ذاته لكنه أخلى نفسه من المجد الذي كان له، أي حجب مجده)
فقد كان ظهور الله في العهد القديم مصاحبًا بكثير من المجد الذي كان من الصعب من أن يحتمله الإنسان. تنازل المسيح عن حريته في اتخاذ القرارات (السلطة) وأخذ صورة عبد. تنازل عن استخدام إمكانياته اللاهوتية لمصلحة نفسه، فلم يصنع المسيح معجزة واحدة ليستفيد منها شخصيًا، فعندما جاع لم يحول الحجارة خبزًا، لكنه أشبع الجموع.