في هذا النص نرى مقياسًا جديدًا يقدمه المسيح، فإن كان الناموس يقول: “لا تقتل” (خر20: 13). فالمسيح يبين أن حتى الغضب على الناس ممنوع، وكان اليهود يعتقدون بتدرج الأحكام حسب الذنوب، فهناك ما يستوجب الحكم في مجلس أو محكمة القرية، وهناك ما يستوجب النظر أمام المجمع (السنهدرين)، وهناك ما يستوجب أكثر من ذلك، مثل القطع أو الحرمان النهائي من جماعة اليهود، والمسيح يستخدم هذا النظام المألوف لدى اليهود ليبين لهم التدرج في خطية الغضب والحكم عليها:
1– الغضب المستقر في القلب
هل كان المسيح شتامًا؟ يقول المسيح إن كل من يغضب على أخيه باطلاً مستوجب الحكم. وهي العقوبة التي يقررها اليهود على القاتل. وفي اللغة اليونانية كلمتان للتعبير عن الغضب، الكلمة الأولى “توموس” وهي تعبير عن اشتعال النار وتصف الغضب الذي ينفجر سريعًا وينطفئ سريعًا، أما الكلمة الثانية “أورجي” وهي تصف الغضب الكامن والمتأصل في قلب الإنسان، الغضب الذي يحتضنه الإنسان في قلبه ويراعيه، وهي الكلمة المستخدمة هنا.
هذا النوع من الغضب يقول عنه المسيح إنه مستوجب الحكم، وفي نظام اليهود يكون الحكم في محكمة القرية، وهي تتكون من ثلاثة شيوخ إذا كان سكان القرية أقل من 150 شخصًا، ومن سبعة إذا كانت البلدة أكبر، ومن ثلاثة وعـشرين شيخًا في المدن الكبيرة. والمسيح لا يقصد هنا تنفيذ هذه الـشريعة حرفيًا بإحالة كل من يغضب على أخيه باطلًا إلى المحاكمة، بل يقصد أنه إذا كان الناس يحيلون القاتل إلى المحاكمة، فإن الذي يغضب يعتبر كذلك في نظر الله.
2– الاحتقار
ثم ينتقل المسيح إلى درجة ثانية من شرور الغضب، فيقول: “ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع”. وكلمة “رقا” هي أصلًا نبرة صوتية تدل على الاحتقار. والذي يقول لإنسان “رقا” يحتقر ذلك الإنسان وكأنه يقول له أيها التافه أو الأبلة. إن احتقار الآخرين خطية. لذلك يقول المسيح إن من قال لأخيه “رقا” يكون مستوجب المجمع، وهو أعلى مجامع اليهود (السنهدرين)، ولم يكن يسوع يقصد ذلك حرفيًا، ولكنه أراد أن يبين للناس أنه إذا كان الغضب المكنون في القلب رديئًا، فإن احتقار الآخرين أردأ.
3– الحط من سمعة الآخرين
ثم يوالي المسيح حديثه بقوله: “ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم”. والأحمق هو الغبي، ليس غباءً عقليًا بل غباء أدبيًا وأخلاقيًا. هو الجاهل الذي قيل عنه في (مز 14: 1) “قال الجاهل في قلبه ليس إلهًا”، أي أن الجاهل يحيا حياة شريرة، ويتمنى لو لم يكن هناك إله يحاسبه على شروره. فكلمة “أحمق” هنا لا يقصد بها الحكم على المقدرة العقلية، بل على الحياة الأدبية والأخلاقية، وإذا قال أحد لآخر يا أحمق، فهو يقصد أنه يحيا حياة مستهترة فيـسيء إلى سمعته. ويعتبر المسيح هذا العمل (الإساءة إلى سمعة الآخرين) مستحقًا عقابًا أكثر مما سبق كله. فهو مستوجب نار جهنم.
وهكذا يريد المسيح أن يقول لليهود: لقد قيل للقدماء إن من يقتل يكون مستوجب الحكم، لكنني أقول لكم، إن الدينونة لا تقع على القاتل فقط، فالرغبات الشريرة تستحق الدينونة أيضًا.
فالغضب الكامن في قلب الإنسان أمر رديء، واحتقار الآخرين بالإشارة أو الكلام أردأ، وتشويه سمعة الآخرين هو الأمر الأردأ.
فالمسيح قد وضع هذا النموذج للسلوك، وهو القائل: “من عمل وعلَم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السموات” (مت 5: 19). ومن المؤكد أن المسيح كان يعيش هذا النموذج قبل أن يعلَم به، وبالتالي إذا قال المسيح قولًا يرى فيه البعض أنه مخالفًا لهذه المبادئ التي وضعها المسيح، فلا يمكن أن يكون هذا الزعم صحيحًا، ونحتاج أن ندرس النصوص التي يقتبسونها لنعرف ما هو التفسير الصحيح لهذه النصوص.
وعلى سبيل المثال:
المسيح شتم تلاميذه
يقولون أن المسيح قد وجه شتائم لبطرس، وتلميذي عمواس، فكيف يتفق هذا مع قولكم أنه قدوس؟
أ – بطرس
بعد أن أعلن بطرس أن يسوع الناصري هو المسيح (المسيا المنتظر) ابن الله الحي (مت16: 16)، يُسجل البشير متى: “21مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إلى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. 22 فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلًا: حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا! 23 فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». (مت16: 21-23، وانظر أيضًا مر12: 31- 33).
يقولون: كون أن المسيح يتهم بطرس بأنه شيطان، أليس هذه شتمية؟
لقد كان لدى المجتمع اليهودي مفهوم خاطئ عن المسيا، فهم كانوا يعتقدون أن المسيا سيأتي كقائد مقاتل يحارب الرومان ويطردهم من فلسطين ويقود شعب إسرائيل إلى السلطان والمجد ويملك كملك سياسي على مملكة أرضية، وكانوا يعتقدون أيضًا أن المسيح لن يموت بل يملك في مملكته الأرضية إلى الأبد (يو12: 32- ).
وعندما أعلن الآب على لسان بطرس أن يسوع هذا هو المسيح ابن الله (مت16: 16- 17)، أراد المسيح أن يصحح للتلاميذ مفهومهم عن المسيا، لأنهم لو ذهبوا وأعلنوا أن يسوع هو المسيا لتسببوا في اشتعال نار فتنة وعصيان ضد الرومان. لذلك أراد المسيح أن يصحح مفهومهم الخاطئ ويعلن لهم: من هو وما هي رسالته؟ فأعلن لهم أنه ذاهب إلى أورشليم ليتألم ويموت، فهو لم يأت ليؤسس مملكة أرضية خاصة باليهود، بل جاء ليموت كفادٍ عن كل البـشرية، ولأن هذا يخالف ما كانوا يعتقدون لذلك قال له بطرس: “حاشاك لا يكون لك هذا”، فأجاب المسيح بلهجة عتاب وتوبيخ لبطرس قائلًا: “اذهب عني يا شيطان”. وكلمة شيطان معناها: خصم أو عدو أو معاكس.
إن هذا القول لا يعني أن بطرس شيطان، ولكن ما قاله بطرس هنا يُذكّر بكلمات الشيطان عندما جاء يجرب المسيح (مت 4) قبل بدء خدمته الجهارية، لقد كان الشيطان يجرب المسيح باستخدام القوة للوصول إلى أهدافه، وإبعاده عن الألم والموت على الصليب الذي هو خطة الله الأزلية، وأي إغراء للإبعاد عن خطة الله هو فكرة شيطانية.
وكأن المسيح يقول لبطرس ها أنا أسمع من شفتيك الإغواء نفسه الذي جاء على لسان إبليس من جديد.
ولذلك قال له: “اذهب عني يا شيطان”، أي أن ما تقوله هو نفس القول الذي قاله الشيطان سابقًا، أو أن ما تقوله هو من الشيطان.
ب- تلميذي عمواس
عندما ظهر المسيح لتلميذي عمواس بعد قيامته من الموت وسألهما: عما يتحدثان ولماذا هم ماشيان عابسين؟ فقال له أحدهما: “هل أنت غريب في أورشليم ولا تعرف ما حدث”. وعندما سألهما المسيح عن هذه الأمور “قالا المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنسانًا نبيًا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه، ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك، بل بعض النساء منا حيرننا إذ كن باكرًا عند القبر، ولما لم يجدن جسده أتين قائلات أنهن رأين منظر ملائكة قالوا أنه حي.. فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفـسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” (لو24: 13- 27).
أليس قول المسيح لتلميذي عمواس: أيها الغبيان شتيمة؟
في يوم الأحد كان اثنان من تلاميذ المسيح في طريقهما إلى عمواس التي تبعد حوالي سبعة أميال عن أورشليم، وكان من المفترض أن يمكثا في أورشليم. وبعد حوار المسيح معهما ظهر من الحوار أنهما كانا أقل مما يتوقع منهما:
1- فالمسيح مازال في إيمانهما “إنسانًا نبيًا مقتدرًا في الفعل والقول” (لو24: 19).
2- المسيح مازال في اعتقادهما هو المسيا السياسي الذي سيحرر بني إسرائيل (لو24: 21).
3- عدم تصديقهما لحادثة قيامة المسيح من الموت، حتى بعد ظهوره للمريمات (لو24: 22- 24).
لقد أعلن المسيح من خلال أقواله وأعماله عن من هو. فعندما كان المسيح في الهيكل، قال له اليهود: “إلى متى تعلق أنفسنا، إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرًا، أجابهم يسوع إني قلت لكم ولستم تؤمنون. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي. ولكنكم لستم تؤمنون لأنكم لستم من خرافي” (يو10: 24- 26).
وتلميذي عمواس هم من خراف المسيح، إذًا كان لابد أن يؤمنون به، وإعلان الآب على لسان بطرس كان واضحًا إن يسوع هو “المسيح ابن الله الحي” (مت16: 16). وأنه قد جاء ليموت، وليس كمسيا سياسي يحرر بني إسرائيل من نير الاحتلال الروماني ويعيد لهم أمجاد مملكة داود.
والأمر الثاني، هنا هو عدم تصديقهما لحادثة قيامته من الموت، رغم أن داود في سفر المزامير أخبر قائلًا: “لأنك لن تترك نفـسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادًا” (مز16: 10). والمسيح سبق وقال: “فتشوا الكتب -أي كتب العهد القديم- لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي التي تشهد لي” (يو5: 39). والمسيح قد أعلن كثيرًا عن قيامته من الموت.
وها هو قد قام، وعندما ذهبت المريمات إلى القبر قال لهن الملاك: “إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ” (مت 28: 5- 7). لهذا وبّخ المسيح تلميذي عمواس لأنهما لم يفهما النبوات، ولم يصدقا أقوال المسيح نفسه، ولم يصدقا المريمات عندما أخبرتهما عن قيامة المسيح بناءً على شهادة الملاك.
فالمسيح يقول لهما: يا بطيئا الفهم في عدم استيعاب المكتوب، والدليل على ذلك أن بدأ يوضح لهما كل ما هو مكتوب عنه في موسى والأنبياء (لو24: 27).