تعود أحداث الرواية للفترة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وتدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك أحشويروش المعروف باسم زركسيس الأول والذي حكم 127 مملكة.
الحلقة الأولى: رائحة الحياة
وقف الرجل وسط الغرفة حائرًا بين صراخ الطفلة المولودة وصراخ الجارات..
كاد يتهاوى!
فهو لم يتوقع أبدًا أن يحدث هذا.
جر قدميه للخارج ووقف في الغرفة الوسطى من الدار.. مستغرقًا في أفكاره.. تُرى ماذا سيفعل؟ وكيف سيتصرف؟
من شدة فاجعته لم يستوعب كلمات التعزية وسط مزيج الصرخات وبكاء المولودة، فقد كان يغوص في عالمه الداخلي..
دخل ألعازار جاره مسرعًا وهو يحاول تجاوز إعاقة قدمه.. ووقف أمامه متكئًا على عصاه.. لم يتمكن كل منهما من حبس دموعه..
ثم خرجت العمة رفقة من الداخل على صوت بكائهما وهما يعانقان بعضهما البعض..
وبينما كانت تبكي وبنبرة مبحوحة قالت لألعازار:
– ماتت مريم.. ماتت مريم
سارعت حنة بالخروج من الغرفة على صوت زوجها ألعازار.. وهي تبكي بشدة وتصرخ..
– آه وآه.. عمتي، أي مصيبة حلت بنا.. مأساة ، مأساة بمعنى الكلمة. الطفلة الآن بلا أب ولا أم. لم نستفق من موت أبيحائل أبيها حتى نستقبل خبر موت مريم أمها.. لماذا يا رب؟ لماذا يا رب؟
لم ينطق شبنة بكلمة واحدة وبدا كأنه انفصل عن الواقع محصورًا في تساؤلات مُلحة تحتاج إجابات، فموت مريم زوجة عمه أبيحائل ليس المصيبة الوحيدة التي تواجهه الآن.. بل أيضًا مَن ْسيرعى هذه الطفلة؟ مَنْ سيرضعها؟ مَنْ سيربيها؟
خرجت رؤومة القابلة وفي يدها الطفلة المولودة ملفوفة.. فأخذتها منها العمة رفقة ووضعتها بين يدي شبنة الذي لم يستوعب الأمر إلا حينما صمت ضجيج بكائها، فالطفلة سكنت وهي بين يديه وتحول صراخها الشديد إلي هدوء.. وهو ما لفت انتباهه رغم تفكيره المشتت.
ويبدو أن صمت الطفلة بين يديه أرجعه لواقعه الذي لا يستطيع إنكاره أو تجاهله أو حتى تغييره..
رجعت العمة رفقة للغرفة ومعها حنة ورؤومة استعدادًا لتجهيزات الدفن.. فيما تهاوى شبنة على أقرب كرسي وهو يتأمل الطفلة المولودة، أما ألعازار فقد هم بالخروج ليحضر من دكانه خشبة نقل الجثة للمدافن.
*********
جهَّز ألعازار كل شيء هو وابنه الأكبر يوسف وأرسلا الأكفان فيما قامت زوجته حنة بمساعدة العمة رفقة في تجهيز مريم لمثواها الأخير.
مرت فترة من الزمن ثم حضر الجميع للمنزل.. شمعون وحانان وهليل وعزريا ويهوشافاط وجرشون وبنيامين ويوسف وشمعي وبقية الجيران لإقامة صلاة التجنيز معلنين إيمانهم بالله القدير وعدم اعتراضهم على استرداده وديعته.
ثم حمل شبنة وبقية الرجال النعش إلى المدافن ووضعوا الجثة الملفوفة بالكتان على التراب مباشرةً، وبدأوا يتناوبون في رمي التراب مستخدمين المجرفة المخصصة للدفن ثم وضعوا الماتزيفا فوق القبر.
ووضعت حنة أبريق ماء ووعاء كبير عند باب المنزل ليغسل المشاركون في مراسم الدفن أيديهم قبل الدخول فيما اعتنت رؤومة بالطفلة المولودة .
أما العمة رفقة فقد تحركت سريعًا هي وبناتها لإعداد طعام المواساة كما هي العادة، فإعداد أول وجبة بعد الموت هو واجب أقرب جار.
ثم حضرن ومعهن بعض أرغفة مستديرة من القمح والشعير ولفائف من العجين المخبوز وبيض مسلوق وملح.
*********
تم كل شيء بهدوء وسرعة شديدة، ثم خلا المنزل من الجميع عدا العمة رفقة التي بقيت مع شبنة والطفلة.
فتح شبنة شباكه الخشبي ونظر يمينًا ويسارًا ثم نادى على عماسا الذي دخل مسرعًا وهو يحني رأسه الذي يكاد يلامس الباب ..
– ك ك .. كيف حالك الآن.. ع.. عمي شبنة؟
هز شبنة رأسه وقال له:
– أريدك أن تذهب للقصر وعند البوابة تطلب توصيل رسالة لكبير الكتبة إنليل، ومتى أرسل لك رسوله عند باب القصر قل له: “مردخاي الكاتب لديه حالة وفاة ولن يستطيع المجيء خلال فترة الحداد.”
– ح .. ححـــ حالًا عمي، سأذهب الآن ..
انطلق عماسا تسابق ساقاه الطويلتان الرياح .. فيما تحرك شبنة أو مردخاي نحو الحجرة الموجودة بها الطفلة المولودة فأشارت إليه العمة رفقة ألا يصدر صوتًا فقد نجحت أخيرًا في جعلها تنام. هز شبنة رأسه ومد يده وتناول الشمعدان ليضيء شمعة التذكار التي لا تُطفأ خلال فترة الحداد، ثم خرج بخطوات متثاقلة ..
*********
جلس شبنة على الكرسي الخشبي الكبير وسند رأسه للخلف وقد سالت دموعه الصامتة على وجنتيه، وهو رجل في الثلاثينات من عمره، طويل القامة، قوي البينة وعريض المنكبين، قمحي اللون ذو شعر مجعد لونه بني غامق وحاجبان متوسطا الكثافة ولحية صغيرة، عيناه عسليتان، وأنفه كبير مرتفع في وسطه وشفتاه غليظتان وأسنانه بيضاء.. وقد أضفت ملابسه وسامة ووجاهة يمكن تمييزهما بسهولة..
وما هي إلا لحظات حتى غفا من شدة إجهاده .. فقد ظل مستيقظًا طوال الليل وحتى الصباح ثم الدفن.
وبينما هو نائم حلم حلمًا غريبًا ..
كان واقفًا في ساحة كبيرة مقسَّمة إلى أقسام كثيرة بأعمدة ضخمة، وداخل الأقسام شعوب وجماعات من كل جنس ولون. وبينما كان واقفًا، ظهر ثعبان كبير يزحف أعلى هذه الأعمدة.. كان ينفث رائحة كريهة أزعجت كل مَنْ كانوا في هذه الساحة بل وأصابتهم بالاختناق ولكنهم لم يقدروا أن يفعلوا له أي شيء وبدا وكأنه يريد ابتلاعهم جميعًا..
كان الثعبان يتحرك بحرية إلى أن استقر فوق القسم الذي يقف فيه شبنة وعشيرته فلم يدرِ ماذا يفعل. كان يرفع نظره نحو السماء وكأنه يصلي ثم يذهب يمينًا وشمالًا وفي وسط الساحة إلى أن ذهب إلى حديقة منزله وظل يروي زروعه.. وفجأة كبرت إحدى أشجاره.. كانت شجرة آس خضراء انتشرت رائحة عطرها وملأت المكان .. لم يستغرق الأمر ثلاث خطوات واختنق الثعبان من رائحتها وسقط من أعلى الأعمدة ميتًا.