مصر وقوانين الغابة

7

العدد 55 الصادر في إبريل 2010
مصر وقوانين الغابة

    واحدة من هوايات ابني الأكبر أندرو هي الصيد بكافة أنواعه، بدأت ممارسة هذه الهواية بصيد الأسماك ومرت بصيد العصافير ثم الحمام والبط ووصلت الآن إلى اصطياد الغزال والحيوانات كبيرها وصغيرها، ولا يعلم إلا الله وحده سبحانه وتعالى إلى أين ومتى ستنتهي، فليس لدينا مكان في المنزل لأسد أو فيل أو زرافة حية أو محنطة. وهذه الهواية لم أمارسها أنا طيلة عمري ولا أعرف عنها شيئاً.

    وكان ذات يوم من أيام الآحاد وبعد أن انتهينا من اجتماع الأحد صباحاً طلب مني أندرو أن أصطحبه في رحلة للصيد، قال أندرو: بابا أريدك أن تأتي معي اليوم لرحلة صيد لمدة أربعة ساعات في غابة على جبل يبعد ساعة عن منزلنا، فاليوم هو آخر يوم في موسم اصطياد الغزال. سألته: وهل للغزلان موسم وتوقيت معين لا يمكن بعده صيدها؟ نظر إلي أندرو بكل احترام وكأنه يقول لي بابا يبدو أنك تعيش في عالم مختلف عنا وربما جئت من كوكب آخر. وقال: بابا أرجوك تعال معي هذه المرة وبسرعة قبل غياب الشمس، وسأجيب على كل أسئلتك عن الصيد في طريقنا إلى هناك. وحاولت التململ والاعتذار، ولكن نظراً لأنني أحاول أن أكون أباً جيداً ومثلاً يحتذي لابني، وحيث  أنني أستمتع بالتواجد معه والحديث إليه، وافقت وقلت له حسناً أندرو سآتي معك، سأكون جاهزاً في ثلاث دقائق. ضحك أندرو مرة أخرى وقال: بابا أنت ستذهب للصيد وليس للنزهة. قلت: وما الفرق، وماذا تريدني أن أفعل؟ قال سأحضر لك القميص والبنطلون الخاص بالصيد، وسأحضر لك الحذاء الخاص والطاقية الخاصة، و… و… و… ولاختصار الموضوع ولضيق مساحة النشر، وجدت نفسي وقد ظهرت بمظهر الصياد بعد الخضوع لمطالبه وإرشاداته، وركبت بجواره بعد أن ملأ السيارة بأنواع من بنادق الصيد والطلقات الرصاصية الحية على اختلاف أنواعها وأشكالها، ومدى تأثيرها، ونوع الحيوان الذي يمكن أن تقتنصه كل طلقة من هذه الطلقات وهذه البنادق وأدوات الصيد، بل قل وأدوات الحرب. انطلقت السيارة وبدأت الأسئلة، وقلت له: أنت تعلم أن بابا لا يعرف شيئاً عن هذه الهواية وأنت تعلم الكثير، وأنا لم أخرج للغابة من قبل ولا جربت الصيد، وأنت فعلت ذلك كثيراً فأخبرني لماذا الإصرار على تغيير الملابس وارتداء هذه البدلة التي تشبه إلى حد كبير بدلة قوات الصاعقة المصرية بألوانها البنية والخضراء والبيج؟ قال: هذه هي ألوان كل شيء في الغابة، فالأشجار خضراء والأرض بنية اللون والحيوانات تتراوح ألوانها بين هذه الثلاثة ألوان وحيث أننا سنختفي ونتلصص علي الحيوانات أو الطيور المختلفة فلابد من خداعها حتى لا تفطن لوجودنا وتهرب منا. قلت: وماذا عن الحذاء؟ قال: تسلق الجبال والسير في الغابة يحتاج إلى حذاء لا يحدث أي صوت لنفس السبب الذي ذكرته سابقاً. وماذا عن البنادق المختلفة واختلاف الرصاصات الحية؟ قال: لكل حيوان نوع من الرصاص يموت به، ولكل رصاصة مداها وقوتها. أشرت إلى نوع من البنادق والرصاص وقلت: لو استخدمت هذه البندقية وهذه الرصاصة في قتل حمامة أو بطة أو غزال هل ستعترض الفريسة على نوع الرصاص المستخدم في قتلها. قال: لو استخدمت هذا النوع من البنادق وهذا الرصاص لضرب بطة لتناثرت إلى فتافيت صغيرة ولما بقيت بطة، وهذه الرصاصة وهذا السلاح لاصطياد الغزال. وقلت: وماذا عن الأسد، قال لو صوبت هذه الرصاصة وأطلقتها على أسد لما اخترقت جسمه ولما اكترث لها. قلت وبعدها؟ قال: وبعدها سيهجم عليك الأسد وسيأكلك ثم يأكلني بإذن الله.

    ضحكنا معاً.. قلت له معاك حق ربنا يستر. وصلنا للمكان المنشود، صعدنا الجبل، دخلنا الغابة وجرت تفاصيل كثيرة سأشاركها معك عزيزي القارئ حسبما تيسر. جئنا لنهاية الأربع ساعات كنا نستعد للرحيل، بدأت الشمس في المغيب، العصافير تعود لأشجارها، الفئران والسناجب والأرانب تحمل الطعام لصغارها، فجأة ظهرت أمامنا بقرة من النوع الجيد وابنها الصغير، كان عمره أقل من شهر في تقديري ووافقني أندرو على ذلك. من بعيد رأيت حنان الأمومة ومرح الصغير وهو يرضع من ثدي أمه ثم يقفز ويدور حولها فرحاً وكأنها قفزات لغزال يتحرك وفقاً لموسيقى كونية لا يسمعها سواهما، هو وأمه، والأم تدفعه وترفعه برأسها وكأنه طفل تلاعبه وتدلله والدته، وما أن رأى أندرو هذا المنظر إلا وسحب زناد البندقية وصوب فوهتها نحو البقرة وابنها وسألني: بابا تريدني أن أقتل البقرة أم ابنها؟ لم أجبه لثانيتين، فأعاد السؤال: بسرعة، البقرة أم ابنها؟ وضعت يدي على زناد البندقية وقلت له، لا البقرة ولا ابنها. صاح أندرو بابا ليه؟ وأنزل البندقية عن كتفه، قلت له: أندرو كيف سيكون شعورك بعد أن تقتل البقرة ويهرب الابن؟ هل يمكن أن تفكر للحظة واحدة كيف يمكن أن يعود الابن إلى حيث جاء دون أمه؟ من سيرضعه؟ هل تشعر بالمرارة التي ستملأ حلقه؟ هل لبشر أن يصور لنا حجم مأساته أو لوعته؟ وماذا عن الأم إذا قتلت ابنها؟ ألم ترها كيف وقفت أمام بندقيتك وقد دفعت الصغير للاختفاء وراءها لينجو من رصاصك حتى إذا ماتت هي؟ لا يا أندرو أنا لا أحتمل أن أراك سبباً في مأساة كهذه. أسرعت البقرة وابنها بالفرار، ونظر إلي أندرو وقد بدا عليه التأثر وخيبة الأمل، وقال لي: بابا، هذه قوانين الغابة، لا يمكن أن تطبق قوانين البشر من عطف وحب وصلاح على سكان الغابة، كما لا يمكن أن تطبق قوانين الغابة من قتل وترصد ومباغتة، ونفخ وسلخ وتقطيع على بني البشر، بابا هذه قوانين الغابة..

    مشينا كلانا دون أن ينطق أحدنا بكلمة حتى وصلنا إلى السيارة. لاحظ أندرو أنني شارد الذهن منكس الرأس، ألقيت بنفسي على مقعد السيارة الأمامي بجوار السائق وصوته لا يزال يجلجل في أذني وكأنه يملأ الجبل والغابة برنين يسد الآذان وصدى للصوت يخترق الأعماق: “بابا هذه قوانين الغابة، هذه قوانين الغابة، قوانين الغابة، الغابة، الغابة، الغابة”. أعاد أندرو كل معدات الصيد إلى السيارة وأدار محركها وانطلق في الطريق غير الممهد المتجه إلى المنزل، وآثر الصمت لمدة دقائق فلم يشأ أن يقطع حبل أفكاري. كنت مستغرقاً في تفكير عميق في قوانين الغابة، ووجدتني مجبراً على التفكير في القوانين التي نسير بها في مصر والبلاد العربية، طار عقلي بالمقارنة السريعة بين “مصر.. وقوانين الغابة”. قلت لنفسي نعم، أندرو على حق. لكن، كيف نطبق نحن قوانين الغابة على الناس في مصر والبلاد العربية من قتل، وتجسس على تليفونات الخلق والترصد لهم ومباغتتهم وتحين الفرصة لاصطيادهم ومتى تم اصطيادهم فالنفخ والضرب والسلخ والتمزيق يكون نصيبهم، أو إمطارهم بوابل من الرصاص في كنائسهم وشوارعهم وبيوتهم، وقد أطلقنا علي أنفسنا أسماء حيوانات وكأنها نبوة تحققت.. فهذا فهد، وذلك الأسد وثالث الغول؟

    قطع أندرو الصمت الرهيب قائلاً: “بابا أنا آسف، أنا لم أقصد أن أضايقك بمحاولة قتل البقرة أو ابنها، ولو كنت أعلم أنك ستتضايق لما سألتك هذا السؤال ولما طلبت منك أن تأتي معي، أعادتني كلماته إلى الحديث معه وقلت له: أندرو أنت لم تعمل شيئاً ليس في محله، فأنت صياد وجئت لتصطاد. هل يمكن أن تكلمني عن قوانين الغابة التي تعرفها والتي درستها وامتحنت فيها لتأخذ رخصتك للصيد؟ قال أندرو: لا بابا، دعنا نغير هذا الموضوع ونتكلم في موضوع آخر لأني لا أريد أن أضايقك”.

    كنت أعلم أن هذا الموضوع قد أخذ بكل تفكيري ووجداني فلن أستطيع أن أخرج منه أو أبدله بموضوع آخر، وكنت أريد أن أعقد مقارنة بين “مصر.. وقوانين الغابة” ولم أشأ أن أخبر أندرو بمقارنتي، فأنا أحرص على أن تظل صورة مصر في ذهنه صورة جميلة لكن واقعية بقدر الإمكان، فأنا لا أحب أن أرى أبنائي وقد كرهوا مصر وهم بعد أطفال، كملايين الأطفال المسيحيين الذين يرون ويسمعون ويختبرون ما يحدث ضدهم في مصر، وخاصة أولئك الذين سمحت أقدارهم الحسنة أن يسافروا أو يهاجروا خارجها وبعيداً عن وطننا العربي العظيم.

    قال أندرو: إن أول ما علمونا في دروس الصيد هو أننا لابد أن نحترم الحيوانات والطيور وأهل الغابة ونحن نصطادها. ضحكت وقلت له: كيف تحترمها وأنت تذهب لكي تقتلها، أي نوع من الاحترام هذا؟ قال: هناك مبدأ اسمه القتل النظيف، وهذا ما لابد أن يمارسه الصياد. قلت: ماذا تعني بالقتل النظيف؟  قال: أعني أن الصياد لا يجب أن يطلق الرصاص على فريسته إلا إذا تأكد أن الرصاصة ستصيبها في مقتل، وأنها (أي الفريسة) لن تهرب بجرحها وتظل تنزف بعيداً عن عيني الصياد حتى تموت، ففي هذه الحالة لن يستفيد الصياد شيئاً من موت فريسته لأنه لن يحصل عليها على أي حال، ولن تبقى الفريسة على قيد الحياة وستعاني الألم والعذاب حتى تموت. تأملت في هذا القانون العجيب وقلت: يا له من موت قذر يموته الكثيرون في بلادنا كل يوم، فمع أن المولى تبارك اسمه حرم القتل، وبل حرم البغضة للأخ والقريب والجار والإنسان على وجه العموم لأن البغضة هي طريق القتل فقيل: “كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس” 1يو3: 15. إلا أن الأطفال في بلادنا يرضعون الكره والبغضة وحب الانتقام من الآخر المخالف لهم في الدين والعقيدة واللون والوطن وغيرهم، يرضعونها مع لبن أمهاتهم، وعندما يكبرون ويتمكنون من قتل الآخرين لا يقتلونهم القتل النظيف، أليس قتلاً غير نظيف للأم والأب والابن والعم والخال حينما يغرر بابنة من بنات عائلاتهم وتجبر على الزواج والارتباط بمن يخالفها في الدين فتظل العائلة تنزف من جرحها ولا يفيد قتلها صيادها؟ أليس قتلاً غير نظيف أن يحرم إنسان من أكل عيشه أو مكانته في عمله ويحيا مذلولاً مستعبداً مسيطراً عليه ممن يدينون بدين الأغلبية؟ فلو قتلوه قتلاً نظيفاً وأنهوا حياته لكان خيراً له وأبقى. ألا يعتبر تشويه السمعة وإلصاق التهم بالأمناء والأشراف موتاً غير نظيف يستحيل العيش معه؟

    قلت: وماذا بعد يا أندرو من طرق احترام الطيور والحيوانات والأسماك؟ قال: بالنسبة للأسماك لا يسمح بصيد واستخراج السمك إذا كان أقل في الطول من عشرة سنتيمترات. قلت: وماذا لو علقت سمكة صغيرة بالسنارة؟ قال يلقيها الصياد بسرعة ويعيدها للماء قبل أن تلفظ أنفاسها.

    عندها تذكرت ما يحدث لأسماكنا الصغيرة فلذة أكبادنا من الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة وكيف تصطادهم شصوص التطرف والإرهاب والعنف، وأطفال المتنصرين الصغار، تلك الأسماك الصغيرة التي تكبر بازدواجية في الشخصية، فهم في المدارس مسلمون وفي البيوت مسيحيون، وكيف يصطادهم المدرسون بكلمة أو إشارة ليعرفوا حقيقتهم ويميتونهم وهم أحياء وصغار. قلت وماذا بعد؟ قال من قوانين الصيد أن لا تصطاد ولا تميت الأنثى الحامل ولا يتم الصيد في موسم التكاثر للحيوانات والطيور، فاحترام الإناث وخاصة الحوامل وأطفالها شيء لا يجب أن يغفله الصياد، لذلك كما قلت لك قبل أن نأتي لهذه الغابة أن اليوم هو آخر يوم يسمح فيه بصيد الغزلان، لأن موسم تكاثرها يبدأ من الغد. سألته: وماذا لو لم يحترم الإنسان هذه القوانين وجاء غداً واصطاد غزالاً؟ قال: سيقبض عليه ويدفع غرامة كبيرة، وإن ثبت سوء نيته في تكسير القوانين سيوضع في السجن، وستسحب منه رخصته في الصيد ولن يسمح له بحمل سلاح فيما بعد و.. و.. و…

    كان أندرو يجيب على أسئلتي وعقلي يسرع بالمقارنة غير المتكافئة، فإناث البشر في بلادنا ليس لهن كحقوق الغزلان والحيوانات في بلاد أخرى، ففي الأتوبيس والشوارع والعمل يتم التحرش الجنسي بهن حوامل كن أو مرضعات، وإن خاف الرجال نشوزهن فعقابهن الضرب والهجر في المضاجع، وهن ناقصات عقل ودين ومخلوقات من ضلع أعوج، إذا أراد الرجال أن يكسرهن سوف يكرهن، وهن عورة وشهادتهن هي نصف شهادة الرجل في المحاكم، وهن دائماً المغويات بالشرور، فعليهن تغطية الرأس والوجه والأيدي حتى عيونهن يغطيها البعض بشبكة من النسيج، وعليهن إرضاع الزميل والقريب والكبير إذا تواجد معهن في خلوة حتى في أعمالهن، وقيمتهن الحقيقية تكمن كما عبرت إحداهن في نصفها الأسفل وحسب، ولا يسمح لإحداهن أن تتقلد منصب القاضي وغيره مما حرم على النساء من مناصب بالشريعة أو الفتوى أو رأي العلماء.

    قلت: وماذا بعد؟ قال: من قوانين الصيد أن لا يسمح بالحركة أو الكلام في الغابة، ولابد أن يسير الصياد وكأنه يسير على شوك إلى أن ينقض على فريسته. عندها ضحكت بصوت عال وقلت: هذا هو القانون الوحيد المشترك بين أهل العرب وأهل الغابة، فلا حركة ولا اعتراض ولا كلام إلا بما يسمح به ملك الغابة، وهم دائمو السير على شوك الخوف والاضطهاد والفقر والجهل والتطرف. الفرق الوحيد هو أن الناس في مملكة الشر هي التي تصمت حتى تنقض عليها الوحوش الآدمية المفترسة وليس العكس. لم يعلق أندرو على هذا الكلام، ربما لم يفهمه، ربما لانهماكه بشرح قوانين الغابة وربما فهمه ولم يشأ التعليق حتى لا يضايق بابا مرة أخرى.. ضحك وسكت.

    قلت له: أندرو هل تعرف أن معظم القوانين الرائعة التي ذكرتها والتي تعلمتها لممارسة هواية الصيد إنما هي موجودة في كتاب الله الكتاب المقدس، وأعتقد أنها مأخوذة منه، قال: صحيح؟ لم أكن أعلم هذا، هل ممكن تشاركني بعض هذه القوانين من الكتاب المقدس؟ قلت: يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين عن معاملة الإنسان للحيوان: “أن الصديق يراعي نفس بهيمته”. قال: ما معنى هذا؟ قلت: أن الصديق أي الشخص الذي اتخذ المسيح تبارك اسمه من قلبه بيتاً روحياً له يحترم نفسية بهيمته فيحسن معاملتها واحترامها، ومع أنه تبارك اسمه حلل ذبح الحيوان بواسطة الإنسان إلا أنه أوحى للناس أن لا تأكل عجلاً أو ابناً لبقرة مازال يرضع منها. سألني أندرو: وهل تهم الحيوانات الله العظيم القدير حتى يوصي بها في الكتاب المقدس؟ قلت: نعم ويشفق عليها أيضاً من الحريق والضرر. قال: كيف؟ قلت: عندما اغتاظ يونان النبي المسمى بيونس في الإسلام بسبب إشفاق المولى تبارك اسمه على أهل نينوى والرجوع عن عقابهم الذي أنذرهم به عندما تابوا  ورجعوا عن طرقهم الردية، قال له الله: “أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتى عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم، وبهائم كثيرة؟” (يونان4: 10- 11) قال أندرو: هذا عظيم يا بابا. قلت أما بالنسبة للنساء فقال عنهن الإله المبارك أنهن نظائر أي مثل الرجل، فعندما خلق سبحانه حواء قال عنها: “أصنع لآدم معيناً نظيره، وأوحى للرجال بحبهن ومعاملتهن كأجسادهم ونفوسهم. وقال أيضاً: أنه ليس الرجل من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل، أي أنهما متساويان أمامه. حينئذ كنا على مقربة من بيتنا فصمتنا كلانا، ربما كان أندرو يفكر في أحداث اليوم أما أنا فكنت لازلت أفكر في مصر.. وقوانين الغابة، قلت لنفسي أية قوانين أخلاقية هذه التي تحكمنا في مصر والوطن العربي؟ تذكرت قوانين الرشوة والغش والفساد في البيوت والمدارس والأعمال، قوانين الغدر والخيانة والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد دون خوف من محاكمة أو إدانة أو سجن فالبقاء للأقوى والأغنى، قوانين الكذب والخداع إذا اقتضت الحاجة دون الخوف من عقاب المولى تبارك اسمه فالضرورات تبحن المحظورات، قوانين التمييز الديني والعرقي والطبقي مع أهمية أن تنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قوانين عدم التحريك والاقتراع وبالتالي عدم الإقرار بقانون موحد لدور العبادة، فالبقاء للمسلم في هذه الحالة فله حق الرفض والتجمهر والاعتداء على المسيحيين إذا حاولوا بناء سور مهدوم في كنيسة أو دورة مياه منهارة أكل عليها الدهر وشرب، وليس للمسيحيين حق في المطالبة ببناء كنيسة على مقربة من مصلى صغير في قرية مغمورة، ومع أن هذه القوانين غير منصوص عليها لا في الدستور ولا كتب القانون إلا أنها معمول بها وعادة ما تلغى كل ما هو عكسها، فهذه القوانين متعارف عليها بين العامة والخاصة.

    ذكرت أندرو بقصة ظريفة حدثت بأحد شواطئ جنوب كاليفورنيا حيث توجد كمية كبيرة من كلاب البحر تسبح في مياه هذا الشاطئ، وعند سطوع الشمس الدافئة يخرج بعضها ويستلقي على الشاطئ لتستمتع بحمام شمس، ويأتي السواح وأهل المنطقة لمشاهدتها وخاصة القادمين من الشرق الأوسط الذين لم يروا إلا نوعاً واحداً من الكلاب اللاهثة لأسباب كثيرة. وما حدث هو أن بعض أهالي هذه المنطقة قرروا أن يستخدموا في السباحة هذا الشاطئ الذي تسكنه كلاب البحر منذ فترة طويلة، وكلما جاء الناس إلى هذا الشاطئ وبدأوا في النزول تهرول كلاب البحر وتختفي في المياه، الأمر الذي حفز فئة أخرى من أهالي المنطقة للدفاع عن هذه الكلاب وتقدموا بشكوى لبلدية المدينة يطالبون فيها بحمايتها والكف عن مضايقتها واستفزازها، فالشاطئ هو شاطئ هذه الكلاب منذ مئات السنين، وتقدمت الفئة الأخرى بشكوى مضادة لبلدية المدينة يطالبون فيها بتمكينهم من استخدام الشاطئ حيث أنهم هم سكان المنطقة ومن حقهم الاستمتاع بهذا الشاطئ حتى على حساب طرد وقهر كلاب البحر وتهجيرها من موطنها وإحلال السكان الجدد مكانها، وظلت المحاولات والمداولات والمرافعات وجلسات الاستماع تجري لمدة سنتين. وفي زيارتي الأخيرة لهذه المنطقة علمت أن كلاب البحر انتصرت على البشر، ليس لأنها كلاب بحر أو لأن الآخرين هم بشر بل لأن كلاب البحر هم أصحاب التاريخ والوجود على هذا الشاطئ قبل البشر الذين لا يعرفون سوى الأنانية وطمس التاريخ والادعاء بالملكية والأحقية لا لشيء إلا لأنهم ينظرون إلى هذه المخلوقات على أنها كلاب بحر وهم الأعلون. وما أن وصلنا إلى منزلنا حتى أخذت أندرو في حضني وشكرته من قلبي على ذلك الوقت الممتع الذي قضيناه معاً وعلى إعطائي مثل هذا الدرس العظيم.

    وقلت له: تفتكر يا أندرو الغابة دي محتاجة إيه علشان تمشي عدل ويحترم كل واحد نفسه والآخرين؟ ضحك وقال: “محتاجة أسد”، قلتله: “صدقت يا عزيزي ربما لهذا السبب لا تعاني سوريا من كثير مما نعاني منه في مصر”.

    اللهم إننا نرفع لك صلاتنا وتضرعاتنا، فنحن سكان هذا الشاطئ وهي بلادنا، وقد شئت في حكمتك أن نشترك معاً في مصيرنا وأرضنا، فاحكم بيننا، وامح إثمنا، واغفر ذنوبنا، ووحد قلوبنا وأعد حقوقنا.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا