مسار كلمة “النهضة”

7

د. مراد وهبة

شاعت هذه الكلمة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وكانت تدل على تناول مفهوم الطبيعة ونظرية المعرفة في سياق فلسفة كل من أفلاطون وأرسطو، وليس في سياق فلسفة العصر الوسيط، باعتبار أن فلاسفة هذا العصر لم تكن إلا فلسفة سفسطائية كسولة مكتوبة بلغة لاتينية تبدو وكأنها لغة البرابرة. وقد لازمت كلمة «النهضة» عبارة أخرى هي «إنسان عصر النهضة».

ومن هنا تلزم إثارة السؤال الآتي: بماذا يتميز هذا الإنسان؟ إنه بالسلب يتميز بأنه ليس خبيرًا أو متخصصًا في مجال معين، ولكن بالإيجاب يتميز بأنه يعرف شيئًا من كل شيء، وذلك بسبب تعقد المعرفة وتشعبها، إلا أنه اختص بمعرفة كيف تعمل الطبيعة. وإذا أردنا انتقاء أحد البارزين من الفلاسفة الذين يمكن أن يقال عنهم إنهم من سلالة إنسان عصر النهضة فإن الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون المولود في يناير 1561 يأتي في الصدارة، وكان من المبهورين بمجال فلسفة الطبيعة، ومن هنا قيل عنه إنه نموذج لإنسان عصر النهضة.

وفي هذا المعنى له كتابان مشهوران وهما: «تقدم المعرفة». وقد صدرت الطبعة الأولى منه بالإنجليزية في عام 1605، والطبعة الثانية باللاتينية في عام 1623. ثم يأتي الكتاب الثاني وعنوانه «الأورجانون الجديد» وقد صدر في عام 1620. والكتابان معًا يمثلان إنسان عصر النهضة مع استبعاد منطق أرسطو والذي يُسمى المنطق الاستنباطي الذي يعني التركيز على الانتقال المنطقي من مقدمات تُسمى بديهيات وتعريفات إلى نتائج سليمة منطقيًا، ولكن لا علاقة لها بالطبيعة.

ومن هنا جاء بيكون بمنطق جديد اسمه المنطق الاستقرائي الذي يستعين به الإنسان، وهو عبارة عن سُلم العقل الذي يصعد عليه الإنسان ابتداءً من ملاحظات وصولًا إلى نتائج تكون أساسها التجربة. ومع ذلك فإن بيكون لم يكن موفقًا في بناء منطقه الاستقرائي وذلك لسببين: السبب الأول مردود إلى أنه كان يريد أن يكون خبيرًا في كل شيء. والسبب الثاني مردود إلى وعيه الحاد بالعوائق التي تقف ضد تقدم المعرفة، ومن ثَمَّ تمتنع معه السيطرة على الطبيعة، لأن هذه السيطرة لن تتم إلا باستكشاف حالات الموجود مثل قولنا: كثيف، مخلخل، حار، بارد، ثقيل، خفيف. ووسيلتنا في هذا الاستكشاف الملاحظة والتجربة، أي المنطق الاستقرائي. غير أن بيكون يلفت النظر إلى لزوم تطهير العقل من الأوهام العالقة به قبل المضي في تناول منطقه الجديد. وهو يحصرها في أربعة أصنام :

ـ أصنام القبيلة، وتدور على ميل الإنسان إلى أن يعمم من بعض الحالات العارضة، وإلى أن يفرض على الطبيعة من النظام أكثر مما هو متحقق فيها، وإلى أن يتصور فعل الطبيعة على مثال الفعل الإنساني فيتوهم أن له عللًا غائية.

ـ أصنام الكهف، وتفيد أن كل واحد منا ينظر إلى العالم من خلال كهف يقيم فيه. وهذا الكهف هو جملة الاستعدادات الفطرية والعادات الاجتماعية المكتسبة.

ـ أصنام السوق، وهي تنشأ من سوء تناول الألفاظ فتضع ألفاظًا لأشياء غامضة.

ـ أصنام المسرح، وهي الآتية مما تتخذه النظريات المتوارثة من سلطة ونفوذ. وهنا يتحامل بيكون على أفلاطون وأرسطو وغيرهما من الذين يفسرون الأشياء بألفاظ مجردة ومفارقة للواقع المحسوس.

وبعد التحرر من هذه الأوهام، يعود العقل صفحة بيضاء أو لوحًا مصقولًا ويكون صالحًا لتطبيق منهج الاستقراء. ويُعد بيكون أول مَنْ مارس هذا المنهج. ومع ذلك فإنه يمكن القول إن كتاب الفيلسوف الفرنسي مونتيني المعنون «مقالات» هو كتاب النهضة بلا منازع، لأنه أول كتاب كانت غايته الكشف عن عقل صاحبه بكل أمانة وصراحة بما ينطوي عليه من أخطاء من غير أن يطلب العفو. كان يكفيه أن يكون مماثلًا لسقراط في معرفته لذاته بالرغم من أن معرفة الذات شاقة. وبهذا المعنى، تكون النهضة قد أجادت في وضع الذات في الصدارة، بل أجادت أيضًا في إدخال السلطة الدينية في مأزق من حيث انقسامها إلى فريقين: فريق مؤيد للتدخل في الشئون العامة، وفريق آخر معارض.

ومن هنا جاء دور الراهب الكاثوليكي مارتن لوثر الذي قال: “إني أحتج” وهو يعلق على باب كنيسة فيتنبرج بألمانيا في 31 أكتوبر من عام 1517 خمسًا وتسعين قضية تدور كلها حول صكوك الغفران التي كانت ملازمة لمحاكم التفتيش، أو بلغة هذا الزمان يمكن القول إنها تدور حول توهم الإنسان امتلاك الحقيقة المطلقة عن وضع قائم لا يتسم إلا بالنسبية. وقد قيل عن هذا التوهم إنه أصل الإصلاح الديني الذي كان ينشده لوثر بتدعيم من ألمانيا وباعتراض عنيف من الكنيسة الكاثوليكية إلى الحد الذي اعتبره فيه البابا أنه مهرطق ثم استدعاه لمحاكمته فاستجاب لوثر بلا تردد. وقال في خاتمة دفاعه أمام المحكمة: “أنا هنا وليس لي من خيار آخر.” وما كان من تابعيه سوى احتضانه.

أما هنري الثامن فقد أعلن أنه يريد إصلاح الكهنوت. وكذلك أعلن الأمراء الذين أيدوه ولكنهم أضافوا أنهم يريدون الانفصال عن روما. وفي هذا السياق، اصطدم لوثر بالتراث الذي كان يقال عنه إنه من الإنجيل، وكان الحال على خلاف ذلك. ومن هنا اشتعلت حروب الدين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ولم يكن لوثر هو وحده الذي أشعلها، ومن ثَمَّ ازدادت الكنائس المنشقة. والمفارقة هنا أن التعصب تصاعد ومع التصاعد ازداد اقتناع الفرد بضرورة قراءة الإنجيل ليحدد معانيه بنفسه وبدون معونة الآخرين. وأسهم في ذلك اختراع الطباعة على يد الألماني جوهان جوتنبرج. وفي خلال خمسين عامًا، طُبعت أهم الكتب اليونانية والرومانية وتم توزيعها على نطاق واسع، ومن ثَمَّ أصبح كل مثقف قادرًا على دراسة اللغات القديمة. وكان من شأن كل ذلك إشاعة النهضة.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا