نام صديقنا الدكتور حكيم الجراح الشهير بعد أن شاهد فيلم “ليلة سقوط بغداد”، الفيلم الذي أهدته إياه إحدى مساعداته في عيادته وهي عراقية الأصل ظانة أنها ستسعد طبيبها بهذه القصة المصورة، ويا ليتها ما فعلت. نام وهو يفكر في ذلك الرعب الذي انتاب جميع أبطال وممثلي الفيلم من هجمة أمريكية بات من المؤكد في أذهانهم أنها ستجتاح مصر بأحدث الوسائل الحربية، والتي معها يصبح سقوط القاهرة في يد الأمريكان أمراً لا مفر منه. مشاعر خوف ورعب من الأمريكان، مشاعر حقد وكراهية لهم، انتابته مشاعر قرف وغثاء وقيئ من مشاهد جنسية ملخصها أن الأمريكان يريدون أن “ينكحوا” (أعتذر لاستخدام هذه اللفظة، مع أنها أكثر أدباً واحتراماً من ترجمة الكلمة الإنجليزية التي استخدمت في الفيلم عدة مرات، وهي ما يسمونها في أمريكا الـ “f” أو كلمة “الإف” والممنوع استخدامها في التليفزيون الأمريكي في كافة القنوات الرئيسية، ربما يكون لأنهم أكثر أدباً من غيرهم) العرب جميعاً رجالاً ونساء والعياذ بالله، وعلى العرب أن يخترعوا سلاح ردع ليصبحوا قادرين من خلاله على تغيير الأوضاع، ويصبحوا بعون الله ونعمته ناكحين للأمريكان، غير منكوحين منهم، حتى أن الفيلم قد صور مجموعة الرجال المهتمين بهذه القضية – وبسبب خوفهم من الأمريكان -بأنهم عاجزون عن ممارسة الجنس مع نسائهم، مما اضطر إحداهن ثم تلاها جميعهن أن يلبسن ثياب جنود أمريكان ويدعون رجالهن لمضاجعهن، فتخيل فتتخيل فحولهن العرب أنهم عندما ينكحونهن إنما ينكحون الأمريكان، وبهذه الطريقة أمكنهم أن يتغلبوا على ضعفهم الجنسي من خلال مشاعر الحقد والكراهية للأمريكان.
نام صاحبنا وهو يفكر في مشاعر اليأس والفشل والإحباط التي أصابت الشباب المصري (كما جاء بالفيلم) الذي كان لابد له أن يكون في مقدمة شباب العالم من حيث الذكاء والنشاط والإنتاج والإبداع، فالتاريخ يشهد على أن المصريين الأصليين كانوا من خير الأمم التي أخرجت للناس، أما اليوم فتتفاقم نسبة الأمية كل عام عن الذي قبله، خريجو الجامعات يحتاجون لمن يعلمهم القراءة والكتابة، أما خريجو المدارس الثانوية فيحتاجون للعودة إلى فصول الروضة مرة أخرى والبقاء للأغنى القادر على دفع تكاليف الدروس الخصوصية، وحيث أنه لا سبيل أمام عامة الشعب لتدبير هذه المبالغ أصبح البقاء للمرتشين واللصوص والظالمين، وإلا فعلى الأب والأم العمل خارج المنزل طوال اليوم أو خارج البلد لشهور وشهور ليعود وقد تغيرت الزوجة وضاع الأولاد وتفككت الأسرة وتفرق الأحباب، وإن واصل الوالدان الحرب والصراع حتى تخرج أبناؤهم من الجامعات، بدأ الأبناء في رحلة فشل جديدة في البحث عن الأشغال وأدمنوا الشراب والمخدرات وهكذا.
نام الدكتور حكيم وقد امتزج وانحشر وتصارعت في عقله مشاعر الرعب والخوف والحقد والكراهية والقرف والغثاء والسخط والغضب والجنس واللواط والفشل واليأس والإحباط، ليرى نفسه وقد أمسك بالتليفون مجيباً ذلك الصوت الوقور الهادئ الجاد الصارم الذي أبلغه أن الزعيم يدعوك لحضور اجتماع سري عاجل مع مجموعة من أكبر القيادات المصرية المفكرة للاستعداد “لليلة سقوط القاهرة”.
قال الصوت: “عليك أن تحضر إلى القاهرة الآن، ستكون هناك طائرة خاصة بانتظارك في المطار لتوصيلك لمطار القاهرة ومن هناك ستعرف بقية القصة”.
فكر الدكتور حكيم فيما عسى أن تكون هذه المكالمة، من هو الذي كلمه، الرجل لم يذكر اسمه ولا ما يدل علي هويته، تُرى هل هذا كمين لقتله والتخلص منه؟ كان الدكتور حكيم قد كتب في عدة صحف ومجلات ضد التصرفات الخاطئة – سواء تلك التي تقوم بها الحكومات والقيادات العربية أو الجماعات الدينية محظورة كانت أم آمنة، فالدكتور حكيم يرأس مجموعة من الهيئات والمنظمات الدينية المسيحية والحقوقية وله من واسع الانتشار ما يمكنه أن يوصل صوته لأقوى المجالس والبرلمانات والاتحادات المحلية منها والعالمية.
امتلأت رأس صديقنا بالأسئلة والاستفسارات، لماذا أنا بالذات، هل يعلم الحاضرون أنني مسيحي، لا شك أن السلطات تعلم، وإن كانت تعلم فلماذا دعته لمثل هذا الاجتماع السري العاجل، ترى من رشح اسمه لهذه المهمة، هل هذه أوامر الزعيم أم أصدقاء آخرون في هذا الاجتماع قالوا له عني، ثم من هو الزعيم الذي قصده مُبلغ الرسالة، ترى ما مغزى دعوة رجل مسيحي لمثل هذه الاجتماعات، هل اعترفت الحكومة أخيراً سواء بشكل مباشر أو غير مباشر أن هناك وجوداً مسيحياً في البلاد لا يمكن تجاهله في أي خطة يراد لها النجاح، أم أنها مجرد دعاية أمنية وسياسية سياحية كالمعتاد، فوزير مسيحي واحد أو رجل أعمال مسيحي ناجح أو قلة صغيرة من بقايا أساتذة الجامعات المسيحيين أو مؤتمر واحد للصلاة يضم عشرة آلاف مسيحي تكفي لإعطاء صورة مشرفة مع أنها كاذبة للبلاد ذات النسيج الواحد، والوحدة الوطنية وإلى آخره من العبارات الرنانة الطنانة التي لا معنى لها، وفي النهاية عاش الصليب مع الهلال.
تُرى لماذا الآن بالذات، ألم يحاول صاحبنا أن يوجه النصح والإرشاد والرأي السديد لعدة سنين من خلال كتاباته ومشاركاته في مختلف المناسبات ولم يعرها أحد أي انتباه، ألم يطلب المسئولون مساعدته من قبل ثم تراجعوا لسبب أو آخر.
قال صاحبنا لنفسه، الأمور تغيرت، والبلاد على شفا حفرة من النار، والقيادات السياسية بات من المؤكد أنها لابد أن تتخذ خطوات جديدة جريئة واضحة وهادفة لتصحيح الأوضاع وإلا ستحدث الكارثة. وبحسه الوطني المصري الأصيل الذي ينفرد به المصريون ويتميزون به عن بقية شعوب العالم قال لنفسه لابد أن أذهب إلى هذا الاجتماع، لابد أن أشارك فيما ينفع مصر وما ينقذها من معاناتها، فأنا مهما كانت الظروف والأحوال مصري، دمها يجري في عروقي ومصلحتها جزء أساسي من حياتي وطفولتي وتراثي.
وبينما كان صاحبنا يرتدي ثيابه للخروج من بيته فكر في دور الكنيسة في مصر في وسط هذه الأحداث، قال لنفسه لابد أن أتصل بالقيادات الكنسية وأطلب منهم أن نلتقي معاً في اجتماع طارئ، لبحث نفس هذا الموضوع الخطير “ليلة سقوط القاهرة”.. تذكر تلك الحادثة العالقة بفكره منذ أبريل 91 يوم تجرأ وطلب من القيادات الكنسية أن تجتمع معاً وتتصور حال الكنيسة في بداية الألفية الثالثة والاستعدادات التي يجب أن تتخذها لمواجهة الألفية الجديدة، يومها كان وقع كلامه على هذه القيادات كمن أطلق نكتة سخيفة، ومن كثرة سخافتها ضحك الحاضرون، قال صاحبنا لنفسه لن أدع الفشل في المرة السابقة يعيقني عن تنفيذ خطتي فالفشل إما أن يكون قيداً حديدياً يُكبل أرجل الفاشل ويشل حركته، وإما أن يكون سلماً للارتقاء والصعود وتخطي هذا الفشل. أخذ صاحبنا يكرر أن الله لم يعطنا روح الفشل، نعم إن الله لم يعطنا روح الفشل، فروح الفشل هي روح الوسواس الخناس، وأنا لا أتعامل معه، ولن أقبل خطتة لإفشالي عن السعي في إيقاظ القيادات الكنسية لترى المصير المرعب الذي ينتظرنا جميعاً إن هي أغفلت دورها المسيحي، المجتمعي والسياسي.
لابد أن تشارك الكنيسة في بحث وحل كل الأحداث والمشاكل التي تواجه مصر اليوم، على الأقل، لابد أن أجرب.. لابد من الاتصال بقيادات الكنيسة، ثم عاد ليسأل نفسه.. لكن من هم قيادات الكنيسة، وما هو الشغل الشاغل لهم في هذه الأيام، ماذا تكتب الصحافة عن الكنيسة اليوم.. معارك بين رؤوساء المذاهب ومساعديهم وقسوسهم، نائب الرئيس يسطو على كرسي الرئيس، يستقطب مجموعة من أصحابه القسوس يهاجمون الرئيس ينقسم المذهب، يبدأ الصراع، فريقان متناحران، يتدخل المجلس الملي، قراراته لن تُرضي الطرف الظالم والمتعنت، نرفع قضية للانفصال عن المجلس الملي، نسيئ لرئيس المجلس الملي ومن معه في الصحف والمجلات، ويبقى الحال على ما هو عليه.
قسيس لا يعرف أحد من رسمه، ومن أي مدرسة للاهوت قد تخرج، غير معترف به من رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر، يزور أمريكا، يتعرف من خلال قريب له على مجموعة من الممولين الأمريكان، يقنعهم أن لديه خدمة كبيرة غيرت وجه مصر، آلاف من المسلمين يقبلون المسيح من خلال خدمته، الإسكندرية عروس البحر المتوسط أصبحت عروس المسيح بسبب عظمة خدمته هناك، يعمل في كل المجالات، التبشير، الكرازة، الطباعة، علاج المرضى، مساعدة الفقراء والمسنين، يبكي الأمريكان المغفلون المخدوعون بكذب أمثاله، يكتبون الشيكات ويحولون آلاف الدولارات. يبدأ في التخلص من قريبه الذي فتح له به باب الأمريكان ويقيم نفسه رئيساً لمذهب إنجيلي جديد يعرف كيف يستفيد بكل مليم، يضحك على الفقراء والمساكين ببضعة جنيهات، يسد أفواه الأسود والمسئولين الذين يمكن أن يدمروه ويدمروا خدمته في لحظات ويوصدوا أمامه كل الأبواب بعدة آلاف من الدولارات والمركبة تسير، يخرج على صفحات الصحف والمجلات، يشوه سمعة الشرفاء، يجد من المأجورين والمرتزقة من يرفعونه من وحل أحلامه إلى مصاف القيادت لأجل حفنة دولارات أو ليجدوا ما يكتبونه عن القيادات، أو لأجل تصفية حسابات وضغائن مع الكنيسة، ويجري بين المحاكم والمصالح والوزارات، يعلن هو أيضاً انفصاله عن المجلس الملي، والكنيسة كقوة ككل تتفرج على من الغالب.. من الكسبان، ويبقى الحال على ما هو عليه.
تطل علينا الصحافة الخبيثة بكتاب يصورونه بأنه يفضح الانحرافات والفساد والتلاعب في انتخابات الرئاسة الإنجيلية.. يستعمل الصحافيون كعادتهم أسلوب الإثارة الصحفية وإثارة الفتن والانشقاقات مثل: “أخيراً يخرج الكاتب عن صمته”.. أو “كشف القس الإنجيلي.. عن التلاعب في الانتخابات لرئاسة الطائفة” وكأن الكاتب اضطر للخروج عن صمته إيماناً منه بأن كتابه سيصلح من حال الكنيسة الإنجيلية في مصر، وتعقد الجلسات وتنشغل خطوط التليفونات، وتمتلئ مواقع الإنترنت والاتصالات بالحديث عن النقاشات والإيميلات عن قضية لم ولن تضيف إلى الكنيسة الإنجيلية في مصر إلا مزيداً من سواد الوجه والفشل، والتجريح، وضياع الهيبة، لأعضائها، وزيادة في كفر الشباب الصغير المعرض من كل جانب لترك كنيسته ودينه، فيكفر الشباب بكل ما هو مسيحي وروحي. فإن كان المسئولون يصورون بعضهم كالجبناء المرتشين الظالمين المتلاعبين الغشاشين اللصوص فماذا ننتظر من شباب الكنائس المساكين المغيبين؟ ليت كاتبنا كاتب هذا الكتاب كان قد عمل بالمبدأ الإسلامي إذا بُليتم فاستتروا، فكان أشرف له وللكنيسة معه.
عاد صديقنا الدكتور حكيم ليسأل نفسه، تُرى من أين أبدأ الاتصال بقيادات الكنيسة؟ لأجرب بعض الأصدقاء والقادة الذين لا تزال مخافة المولى في قلوبهم، قال لنفسه إن الله لا يترك نفسه بلا شاهد، وأن هناك سبعة آلاف ركبة لم تُحن بعد للبعل، لكن الأمر أخطر من أن يفصل فيه أو يبدى الرأي فيه مجموعة المؤمنين الخائفين الله فحسب، فلقد تربينا على أن المؤمنين الحقيقيين الروحيين لا يجب أن يهتموا بالسياسة والانتخابات ومجالس المحليات والنقابات، هذه كلها أشياء عالمية، وغذى فينا الشيطان والقيادات السياسية في الدول العربية هذا الاتجاه مستخدمين تفسيرات خاطئة لآيات كتابية ثمينة لكنها أخذت بعيداً عن قرائنها وسياقها، ألم يقل تنزيل الحكيم العليم: “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم” لأن محبة العالم هي عداوة لله” ألم يذكر أن “العالم وضع في الشرير” ألم يأمرنا تبارك اسمه أن “لا تشاكلوا أهل هذا الدهر” أليس من تعاليمه تبارك وتعالى أننا “لسنا من العالم” وأن “العالم سيمضي وشهوته” وإلى آخر هذه الآيات التي لا تتعلق واحدة منها لا بالسياسة ولا بالقضايا العامة المجتمعية والمشاركة فيها، فانصرف المؤمنون الذين يعرفهم الناس بأنهم إخوة حلوين روحيين بعيداً عن المشاركة في الحياة السياسية والعملية والمجتمعية، وتقوقعوا في صوامعهم وكنائسهم واجتماعاتهم فانفصلوا عن الشعب واحتياجاته وصرفوا جُل وقتهم في تحضير العظات والنصائح الروحية في كل المجالات وهم لم يطرقوها يوماً على الإطلاق.
أما أولئك المؤمنون الذين اهتموا بهذه القضايا السياسية والدولية المعاصرة فقد تطرفوا إلى أقصى الجانب الآخر، ونسوا أنه ليس بالسياسة والعلم والعصرية والخبز وحدها يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله تبارك اسمه، وبين من اتخذوا أقصى اليمين ومن اتخذوا أقصى الشمال وجدت الأغلبية الساحقة التي كفرت بكل شيء بالسياسة والعلم والعصرية وحتى الدين، فلا هم مؤمنون روحيون حقيقيون ولا هم سياسيون علماء ولا عصريون. وأصبح من رابع المستحيلات أن تجد عشرة مفكرين إنجيلين دارسين روحيين معاصرين سياسيين ملمين بالحد الأدنى للمعرفة التي تؤهلهم للاشتراك في إخراج البلاد من الأزمات التي تمر بها.
مر كل هذا على رأس الدكتور حكيم في لحظات، مرة أخرى أصابه سهم الفشل والإحباط وفكر أن يخلع رباط عنقه ويلقي بحذائه بعيداً في وجه الزمن ويعتذر عن حضور مثل هذه اللقاءات التي لا نفع بها، ربما يذهب للاجتماع الذي دعا إليه الزعيم لكن لن يتصل بالكنيسة ولا قادتها، لن يطلب من الروحيين أصحاب الأدمغة الخالية أن يجتمعوا معاً ليفتوا فيما لا علم لهم به، ولن يطلب من أولئك الذين عملوا بالسياسة والاقتصاد كل أوقات حياتهم ونسوا أن هناك المولى المتسلط في مملكة الناس أن يجتمعوا هم أيضاً فلا فرق بين الاثنين.
عاود الدكتور حكيم تكرار الآية الكريمة: “إن الله لم يعطنا روح الفشل” إن الله لم يعطنا روح الفشل.. انتهى حكيم من ارتداء ملابسه وتجهيز حقيبته الصغيرة وهمّ بالخروج، وإذ بجرس تليفونه المحمول يرن. صوت جديد قال له بهدوء – السلام عليكم. رد حكيم – سلام ورحمة الله – الدكتور حكيم؟ – نعم أنا الدكتور حكيم. الزعيم يعتذر لك ويريد أن يبلغك أن الاجتماع الذي كان من المزمع أن يعقد حول موضوع “ليلة سقوط القاهرة” قد تأجل لظروف طارئة وسوف يقوم أحدنا بالاتصال بك لإعلامك بالميعاد الجديد، السلام عليكم.
أسرع حكيم بالسؤال، اسمع يا حضرة، سيادتك لم تقل لي من أنت، والأخ الذي اتصل بي قبل هذا لم يقل اسمه، ومن هو الزعيم الذي تقصدونه، متى تقرر عقد هذا الاجتماع ومتى تقرر إلغاؤه، أنت سامعني يا حضرة؟ – سامعك يا دكتور، ما تسألش كتير خليك في مكانك لغاية ما نقولك. – لا يا سيد مش أنا إللي تكلمني بهذه الطريقة، أنا هطلع من مكاني وهروح المطار وابقى امنعني.
تغيرت لهجة المتكلم وقال للدكتور حكيم: أيوه همنعك، ولو خرجت من مكانك مش هترجعه. – ليه أنتم فاكرين نفسكم مين، جاوب المتكلم وقال للدكتور حكيم: أنت لسه مش عارف إحنا مين، إحنا اللي بنخوف الرؤساء والحكومات، وبنلغي الاجتماعات والمؤتمرات، وبنبيت في النقابات بالشباشب والبيجامات، وبنمنع الصحفيين من الكتابة والصحفيات، وبنقطع ألسنة الكتاب والمحررات، وكمان بنقتل المغنيين والمغنيات في تونس والجزائر حتى في العديسات، إحنا اللي بنراقب مكالمات التليفون والإيملات. عرفت إحنا مين ولا عاوزني أكملك.
رد الدكتور حكيم: كل اللي قلته مالوش قيمة، في رب في السماء متسلط في مملكة الناس، وهو وحده اللي في إيده الخلاص، الله يفتح ولا أحد يغلق، متعرفش عينه النعاس، وأولاده في يمينه حافظهم من شر الرجيم الوسواس.
وضع الدكتور حكيم سماعة التليفون وقرر الاتصال بالشرطة في المكان الذي كان في زيارته لعدة أيام، يبعد هذا المكان عن القاهرة بمدة 50 دقيقة بالطائرة، دولة عربية كان يزورها كناشط لحقوق الإنسان، كانت هذه الدولة يوماً ما تعتبر من آمن الدول التي يمكن أن يعيش فيها المسيحي بجوار المسلم، حتى اليهود كان لهم مكان بها. لم تعرف الاضطرابات ولا الانقلابات والانقسامات لمدة طويلة، وفجأة دوى صوت انفجار في أحد فنادقها الكبرى وترامت الأشلاء والقطع الجسدية في كل مكان. أعلنت إحدى الجماعات المتطرفة مسئوليتها عن هذه الحادثة، اختار المجرمون أحد الفنادق التي أكتظت بالناس في هذه الليلة بالذات كانت ليلة عرس أحد المشاهير في هذا الفندق. لم يعرف أحد الأسباب، قالوا لأن حكومة هذه البلد تتتبع أعضاء هذه الجماعة السلفية وتريد تصفيتهم، قال البعض الآخر لأن هذا الفندق كان يضم وفداً من الإسرائيليين لذا فجروا الفندق، والبعض الآخر رأى أن الموسيقى والرقص الشرقي في هذا العرس يخالف شريعة السماء فلابد من الانتقام. اختلطت دماء القتلى والجرحى بلون الشربات الأحمر، انفعل العالم كله، أدان الشرفاء هذه الفعلة الحمقاء الرعناء، شارك مسيحيو ذلك البلد إخوانهم المسلمين في الحزن والبكاء، مرت الأزمة بسلام. فجأة نسيت حكومة ذلك البلد أن أعداء الدين هم ليسوا النصارى بل هم من خلت قلوبهم من العطف والرحمة والشفقة والمحبة للآخر، قرر هذا البلد فجأة التخلص من كل مسيحي نشط يقيم بهذه البلد إن لم يكن ممن لهم جنسية هذا البلد، قبضت على المرسلين والرعاة المسيحيين أودعتهم السجون ثم قزفت بهم خارج البلاد. بات من الواضح أن حكومة هذه الدولة قد وقعت في براثن نفس المجموعة السلفية التي تعمل في كافة البلاد العربية لا فرق الآن لا أمان.
قال الدكتور حكيم لنفسه: “ماذا لو كانت هناك عصابة تمكنت من المجيء إلى هذا المكان لمراقبته وتتبعه. ثم كيف عرفت هذه العصابة بمكالمة التليفون التي دعي فيها للاجتماع السري العاجل؟ هل لهذه الجماعة الإمكانية على مراقبة التليفونات والإيميلات كما قال الصوت الذي تكلم معي؟ هل يراقبون حتى بيت الزعيم وتليفونات مكتبه؟ ماذا لو اتصل بالبوليس وكان واحد منهم يعمل مع هذه العصابة؟ هل سيتحرك البوليس لنجدته أم يكون قد أسلم نفسه بنفسه لهذه العصابة؟ ماذا لو كانت القصة كلها من تأليف هذه الجماعة لغرض في نفسها لم تفصح عنه الآن؟ تزاحمت في رأسه الأفكار. قال صوت داخله لا، لا تخرج، فحياتك أثمن من أن تنتهي بيد أحد هؤلاء الرعاع، وقال صوت آخر لا، الشهادة في سبيل الحق تاج يوضع على رأس الشهداء، فالحياة لا تنتهي بالقتل والشهادة، الحياة الجليلة الطاهرة تبدأ بهما، ألم يتبجح هؤلاء الأشرار من جراء تراجع الكثيرين عن خططهم بسبب تهديدهم، ألم يغتنمها فرصة أولئك الأبالسة عندما هددوا الصحافيين والكُتاب فأطاعوا تهديداتهم فقطعوا ألسنتهم. لابد من مقاومة الشر بالخير، لابد من الاتكال على الله وخوض المعركة لآخر قطرة من الدماء.
أدار الدكتور حكيم مفتاح سيارته المؤجرة لينطلق إلى المطار، دوى صوت طلقات نارية من أكثر من اتجاه، ألقى بنفسه على الكرسي الأمامي للسيارة وانقطعت صلته بعالم الأحياء. وإلى اللقاء في العدد القادم