كلما رأيتُ كفيفًا أهتف من قلبي: “يمكنك أن ترى بي”، كما في قصة الأعرج والأعمى!
يمكنني أن أشعر بك وباحتياجاتك، كما في قصة الحكيم الذي كتب على لوحة الشحاذ الأعمى: “جاء الربيع، لكنني لا أستطيع رؤية جماله!”
ربما يستجلب النظر إلى الأكفاء الشعور بالأسى والحزن والتعاطف، لكن في الظلام تتسع عين الصوت، وتبتكر الأيدي طريقها نحو الوصول بتحسس المكان. وفي الليل المُسلط عليهم، حيث يعيشون في حجرة محددة بحوائط مغلقة على نفسها، لكنها مفتوحة من ناحية السقف، ناحية السماء، اخترقوا المجهول الصعب، وامتلأوا بالمستحيل الممكن، وصاروا علامات فارقة في تاريخنا!
فمن لا يعرف “لويس برايل” الذي استخدم ذات الإبرة التي أفقدته بصره في حفر حروف حملت اسمه، وأضاءت له، ولغيره، فأبصروا في الظلام!
ومَنْ لا يعرف شاعر الحكماء “أبو العلاء المعري” الذي قال بامتنان وافر: “أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر!”
ومَنْ لا يعرف “هيلين كيلر”، إحدى رموز الإرادة الإنسانية، والتي فقدت السمع والبصر، لكنها تعلمت حتى تخرجت في الجامعة، وألَّفت ثمانية عشر كتابًا مرموقًا!
ومَنْ لا يعرف “طه حسين”، والذي كان تلميذًا كفيفًا، ولكنه استطاع أن يحفر لنفسه كوة نطل من خلالها، لنراه وأصبح عميدًا للأدب العربي!
ومَنْ لا يعرف “ين هاوتسي”، والتي ولدت دون أن ترى للدنيا شعاعًا واحدًا من نور، ولكنها اقتحمت بجدية وإخلاص مجال تصميم الطائرات الهليكوبتر!
ومَنْ لا يعرف “أسريف أرمجان”، الفنان الذي لم ير النور في حياته أبدًا، ورغم ذلك يرسم بعقله، وقلبه، وإحساسه، ومشاعره، لوحات فائقة الروعة والتعبير!
،…،…،…
ربما نكون قد تعوَّّدنا أن نرى الكفيف مصطحبًا لشخص يعتمد عليه في الاتصال بالعالم المرئي، فيكون دور هذا المرافق هو أن يصبح مساعدًا له على التنقل من مكان إلى آخر، ويقوم بالقراءة له، وأن يكون كاتبًا لما يُمليه عليه، أو قارئًا لما يود الاستماع إليه. لكن كثيرًا من الأكفاء حاولوا ابتكار طريقة خاصة بهم في التعامل مع العالم الخارج عن حدود ظلمتهم، وذلك بتأكيدهم على أن حاسة البصر التي فقدوها انتقلت بكل ما فيها من قدرة إلى حاسة البصيرة، فبرز ذكاؤهم الحاد، وارتفعوا إلى قامة المعجزة!