ضعف الذاكرة… والنسيان

17

د. فيولا موريس

يعاني بعض الأشخاص من ضعف الذاكرة وكثرة النسيان وعدم القدرة على التركيز وتشتت الأفكار، وقد يظن البعض منهم أنهم أصيبوا بما يُعرف بـ (الديمنشيا)، أي النسيان السريع، سواء بالنسبة للأحداث أو الأشخاص أو الأرقام، وأنهم في طريقة للإصابة بمرض الألزهايمر. ولكي نتعرف على أسباب الإصابة بضعف الذاكرة والنسيان لا بد أن نتطرق لمفهوم الذاكرة.

الذاكرة هي العملية العقلية التي يتم بها تسجيل وحفظ واسترجاع الخبرة الماضية. أما بالنسبة للأفكار والمشاعر والميول والحركات، فهي لا تختفي بدون أن تُحدِث أثرًا يستبقيه العقل في شكل تصورات ومفاهيم في الذاكرة تدخل في النشاط النفسي للشخص في المواقف التالية. فمثلًا إذا كانت هناك علاقة حميمة مع صديق فإن هذه العلاقة تكشف عن مشاعر إيجابية تُسجَّل في العقل على شكل مفاهيم عن الحب والوفاء والإخلاص والتفاهم، وهذه المفاهيم تعمل على تنظيم سلوكنا ونشاطنا في المواقف المتعددة.

وبفضل جهاز الذاكرة، تُثرى الحياة العقلية بتصورات متعددة عما أدركه الشخص من أشياء وظواهر في مواقف سابقة. وعلى هذا الأساس، فإن الوعي الإنساني لا يتوقف على الأحاسيس المباشرة (هنا والآن) بل على ما اكتسبه من خبرات ومعايير وقيم. كما أن الذاكرة تعمل على ربط المعلومات التي يمكن استخدامها في مواقف مستقبلية، ولذلك فهي تساعد على النمو النفسي، حيث يتعلم الشخص أشياءً يمكن بواسطتها أن يخطط للمستقبل بناءً على الخبرات التي اكتسبها.

إن الذكاء الإنساني والقدرة على الفهم السريع يلعبان دورًا رئيسيًا في المحافظة على المعلومات التي يستبقيها جهاز الذاكرة، كما أن هناك علاقة بين الذاكرة والعواطف والمشاعر؛ فكلما كانت المواقف والأحداث تحمل مشاعر إيجابية كان من السهل تذكُّرها واستدعاؤها. والعكس صحيح، فكلما كانت الأحداث تحمل مشاعر مؤلمة استُبعدت من الذاكرة وذلك عن طريق عدم استرجاعها. وتستقبل الحواس الخارجية المواقف والأحداث ثم تُخزَّن إما فيما يُعرف بالذاكرة قصيرة المدى، حيث يستقبل المخ كمية قليلة من المعلومات لوقت قصير، أو في الذاكرة طويلة المدى، حيث يستقبل المخ كمية من المعلومات بدون حدود في وقت غير محدود، والمنطقة المسئولة عن ذلك هي القشرة الدماغية. وانتقال المعلومات من الذاكرة قصيرة المدى إلى طويلة المدى يتوقف على عوامل متعددة منها القدرة على الانتباه والتركيز والذكاء والعواطف. والمنطقة المسئولة عن العمليات العقلية المرتبطة بالتذكر من المخ تُعرف باسم الهيبوكمبس (Highpocompus).

ويختلف ضعف الذاكرة باختلاف المراحل العمرية. ففي الطفولة، يرجع ضعف الذاكرة والنسيان السريع للمعلومات إلى فرط النشاط الحركي، وهو ما يُعرف باسم اضطراب A.D.H.D، حيث يتصف الطفل بكثرة النشاط والحركة الزائدة وعدم القدرة على التركيز والتشتت والاندفاع في تصرفاته وسلوكه مما يؤدي إلى عدم قدرته على استيعاب المواد الدراسية بسهولة. وقد يرجع السبب في ذلك إلى عوامل وراثية كإصابة أحد الوالدين بنفس الأعراض، أو عوامل نفسية مثل انعدام الروابط الأسرية وذلك في حالات الطلاق والانفصال، الأمر الذي يؤدي إلى الشعور بعدم الاستقرار النفسي وبالتالي الشعور بعدم الأمان للطفل، أو قد يرجع السبب إلى عوامل عضوية، حيث اكتشف الباحثون عن طريق الرنين المغناطيسي أن الجسم الكلاوزي في المخ Corpus Callasum لدى هؤلاء الأطفال أصغر من الحجم الطبيعي، أو ربما يرجع ذلك إلى خلل في وظائف الأعضاء، حيث تكون الوصلات العصبية غير منضبطة مما يؤدي إلى عدم القدرة على التركيز، أو قد يكون السبب هو نقص كمية الأكسجين في المخ في الدقائق الأولى من الولادة. ومما يساعد على زيادة حدة النسيان نوعية الطعام التي يتناولها الطفل والتي تحتوي على كم هائل من الحلويات والعصائر والألبان الصناعية ومكسبات الطعم. ويُعد التلوث البيئي أيضًا أحد العوامل التي تساعد على ظهور أعراض فرط الحركة.

أما لدى الشباب والمراهقين فإن ضعف الذاكرة يرجع إلى أسباب متعددة من أهمها ما يلي:

– كثرة المثيرات الخارجية التي تدخل أدمغة المراهقين وذلك عن طريق الأجهزة الإلكترونية والسوشيال ميديا، إذ تعمل هذه المؤثرات على إثارة طاقته الذهنية، وهو ما يجعله غير قادر على استيعاب الكم الهائل منها مما يؤدي إلى عدم قدرته على التركيز ويسبب تشتت الأفكار. إن الشحنات الهائلة من المثيرات قد تصيبه بالأرق وعدم القدرة على النوم إلا في ساعات متأخرة من الليل وهو ما يمنعه من أن يستمتع بقسط كافٍ من الراحة فيصاب بالإجهاد الذهني والجسدي.

– هذا بالإضافة لتعرُّض الشباب لكم هائل من الضغوط النفسية بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها والتي تستنفذ الطاقة النفسية له مما يؤدي به إلى الإحساس بالقلق والتوتر واللذين يعملان بدورهما على دخول الشباب في حالات من الاكتئاب والتي تسرِّع من عدم التركيز وضعف الذاكرة.

أما في مرحلة الشيخوخة، فقد ثبت أن ضعف الذاكرة والنسيان مرتبطان بتقدم العمر، حيث يتعرض الشخص لما يُعرف بأمراض الشيخوخة مثل العته أو الديمنشيا أو الألزهايمر. وفي واقع الأمر فإن العلماء لم يصلوا إلى الأسباب الحقيقية لهذه الأمراض إلا أن هناك أبحاثًا حديثة تشير إلى أن سبب ظهور أعراض لمثل هذه الأمراض وخاصةً الألزهايمر هو وجود ترسبات بروتينية تُعرف باسم (أمايلويز) توجد خارج وداخل خلايا المخ. هذا وقد اكتشف الباحثون عن طريق أشعة M.R.I انكماش حجم المخ لدى مرض الألزهايمر عن الحجم الطبيعي.

ومع ذلك، لا يوجد ارتباط بين ضعف الذاكرة والذكاء الإنساني في مرحلة الشيخوخة، حيث وُجِدَ أن من أشهر مَنْ أصيبوا بهذا المرض الرئيس الأمريكي رونالد ريجان وأيضًا الممثلة المشهورة ريتا هيوارث والتي أصيبت بهذا المرض من سن الخمسين. ومن أهم أعراض هذا المرض النسيان السريع للأحداث والمواقف خاصةً القريبة، حيث نجد المريض يكرر نفس الأسئلة عدة مرات متتالية في نفس الوقت كما يفقد الإحساس بالزمان والمكان. وأيضًا يصاب الجهاز الحركي بالإعاقة، حيث لا يمكن للمريض حلاقة ذقنه أو تنظيف جسده، كما يفقد القدرة على تناول طعامه أو التحكم في التبول، وفي نهاية المرض يصاب بالشك في أقرب الناس إليه فيتهمهم بالخيانة أو سرقة ممتلكاته، وأخيرًا يصاب بالهلاوس السمعية والبصرية فيسمع أصواتًا ويرى أشخاصًا ليس لها وجود.

كيف نتفادى ضعف الذاكرة والنسيان؟

–  قد تكون ذاكرتنا محملة بكم هائل من المثيرات التي يستقبلها المخ من الخارج (كما سبق القول) مما يعمل على شحن أدمغتنا بطاقة ضخمة من الأفكار والأحداث التي يصعب استيعابها أو تخزينها في جهاز الذاكرة. ولذا يجب مراعاة عدم شحن أدمغتنا بأفكار وأحداث فوق الطاقة لضمان عمل جهاز الذاكرة بكفاءة.

–  إن الشفرة Code التي نستقبلها من خلال حواسنا قد تصاب بالخلل، وذلك نتيجة ضعف الحواس مثل ضعف السمع أو البصر، مما يؤدي إلى التشويش وعدم القدرة على التركيز، ولذا يجب الاهتمام بسلامة الحواس والتأكد من عملها بكفاءة خاصةً في المراحل العمرية الأولى.

–  الابتعاد عن الأجهزة الإلكترونية والسوشيال ميديا بقدر المستطاع، حيث ثبت أن الجلوس لساعات طويلة أمام هذه الأجهزة قد يؤدي إلى زيادة نسبة الأدرينالين في الجسم والذي يؤدي بدوره إلى الشعور بالإجهاد والتوتر والقلق وبالتالي اضطراب التفكير وسرعة النسيان.

– كما يُنصح بالابتعاد عن الضغوط النفسية والخلافات الأسرية والعلاقات المؤذية، فكل هذا يساعد على ضعف الذاكرة والنسيان السريع.

– كذلك ثبت أن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ضعف الذاكرة الإصابة بالأمراض المزمنة، وخاصةً بالنسبة لكبار السن، وذلك مثل السكر والضغط والكوليسترول. وأيضًا الذين يعانون من الأزمات القلبية أو الصدرية هم أكثر الناس عرضةً لضعف الذاكرة، وذلك لعدم وصول قسط كاف من الأكسجين إلى المخ. ولذا يُنصح باتباع التعليمات الصحية وتناول الأدوية بانتظام في حالة الإصابة بأي مرض من هذه الأمراض.

– يجب محاولة تدريب الذهن على بعض التمارين التي تساعد على تنشيط الذاكرة، مثل الكلمات المتقاطعة أو الألعاب التي تعمل على استعادة المعلومات المفيدة، بالإضافة للقيام ببعض التمارين الرياضية كالمشي لتنشيط الدورة الدموية لكي تصل بقدر كافٍ إلى المخ.

–  تناول المأكولات الصحية وخاصةً التي تحتوي على مادة “أسيتيل كولين”، حيث ثبت أن نقصها يؤدي إلى ظهور أعراض النسيان، وهي متوفرة في بعض الأطعمة مثل البنجر والبروكلي.

–  أيضًا يجب الابتعاد عن الكحوليات أو تناول المهدئات أو المنشطات، فهي تؤدي إلى اضطراب وضعف الذاكرة، مع الاهتمام بشرب كميات كافية من المياه وتناول الفيتامينات التي تساعد على تنشيط الذاكرة.

وأخيرًا من الأهمية بمكان أن نضع أفكارنا وذكرياتنا بين يدي الخالق الذي أبدع في صنع هذا الجهاز الدقيق (المخ)، فهو وحده الذي يمكنه إدارة عقولنا بكفاءة، كما نصلي من أجل أن يحفظ الرب عقولنا ويحمي أذهاننا من أي اضطراب أو تشويش ويضع على أذهاننا نعمته المحيية فتمتلئ أفكارنا بزيت الروح القدس الذي يهبنا قوة الذاكرة.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا